أكرم البنيصفحات مميزة

العقم السياسي في الحالة السورية


اكرم البني

يعجز الحل الأمني عن إخماد جذوة الانتفاضة السورية التي دخلت شهرها التاسع وهي أشد عزيمة، ويلح السؤال ويكبر عن سبب عناد أهل السلطة في تنكرهم لحقيقة، باتت ساطعة كالشمس، بعدم جدوى ما يقومون به وبأن لا مفر من البحث عن حلول سياسية ومعالجات من طراز مختلف، وتاليا عن سبب إصرارهم على منطق القوة لإخراج الشعب من السياسة وإعادة المجتمع إلى ما كان عليه، إلى مناخ الخوف والرعب التقليديين! ثمة أسباب عديدة ومتضافرة يمكن أن تفسر هذا العقم السياسي في الحالة السورية وتبين الدوافع العميقة لدى النظام الحاكم في تصميمه على سحق التحركات الشعبية بالقمع العاري وباستخدام كل أشكال القهر والتنكيل، بما في ذلك تبديد الفرص المتنوعة المتاحة لنقل الأزمة من مسارها الأمني إلى الحقل السياسي، إن لجهة إهمال المبادرات الداخلية الرافضة لأساليب القوة والعنف والداعية لتأسيس علاقة جديدة مع الناس تستند إلى نيل رضاهم وثقتهم من خلال ضمان مصالحهم واحترام حقوقهم وحرياتهم، أو لجهة التعاطي السلبي مع مبادرة الجامعة العربية، وجديدها مسار عقوبات سوف تترك آثارا سلبية عميقة على المجتمع وتفتح الباب أمام احتمال التدويل! هناك من يعتقد أن السبب يتعلق بخصوصية البنية التكوينية لهذا النوع من الأنظمة المعجون بتاريخ طويل من القهر والغلبة لضمان السيطرة، وفيه الدولة تنتمي إلى ذاك النوع المسمى «الدولة الأمنية» التي تستمد حضورها وقوتها من أجهزة أمنية متنوعة تمتد في كل مكان وتدير كل شيء وتتدخل في مختلف تفاصيل الحياة، ووظيفتها الدائمة زرع الخوف في المجتمع وخنق الفضاء السياسي،

وبعبارة أخرى فقد ابتلي مجتمعنا بمنطق خاص في إدارة الصراع فرضه مدعو الوصاية على الأوطان والقضايا القومية، وجوهره ليس التنافس الصحي لاختيار الأفضل والأكثر كفاية للتعبير عن مصالح المجتمع وتكويناته المتعددة، بل مبدأ القوة والجبروت ووسائل القمع والإرهاب لتثبيت الهيمنة وجني الثروة والامتيازات! وهناك من يرجع السبب إلى عجز مزمن لدى النخبة الحاكمة في تعديل طرائقها القمعية والانتقال إلى أشكال من السيطرة السياسية، ربما لأنها تخشى من الانفتاح على الناس وتتحسب من أن تفضي أي مبادرة سياسية إلى كشف ضعفها وهشاشتها وإلى تقوية حضور المجتمع ودوره في الرقابة والمحاسبة، وربما لقوة لوبي الفساد المنتشر في مختلف الدوائر والمؤسسات، واستماتته في الحفاظ على مصالح وامتيازات لا يريد التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان، أو ربما بسبب رهان النخبة الحاكمة على حسم الأمور لصالحها إن نجحت في جر الانتفاضة السلمية نحو دوامة العنف، ورهانها تاليا على دور القمع المفرط والاضطهاد المعمم في إثارة ردود فعل موازية، وفي استنفار الغرائز المتخلفة واستفزاز بعض المتطرفين ممن يتحينون الفرصة لحمل السلاح، من أجل خلق ذريعة أو حجة أمنية لاستمرار التنكيل والعنف المفرط، وأخيرا ربما جراء تنامي الشعور لدى أصحاب الحل الأمني بأنهم وبعد ما اقترفته أياديهم قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة، وأنهم يخوضون معركة حياة وموت يرتبط وجودهم ومستقبلهم بنتائجها، خاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاباتهم ويخشون ساعة الحساب والعقاب! أو لأن لديهم وفرة من التجارب القمعية تعزز ثقتهم بأن العمل المجدي لدوام السيطرة ليس التفاعل السياسي مع الناس ومعالجة مشكلاتهم، بل الاستمرار في إرهابهم وشل دورهم، ربطا بسوء تقدير ولنقُل تضخيما للذات والاعتقاد بأن ما كُرس من قوى أمنية يشكل مدماكا مرعبا راسخا لا يمكن بأي حال هزمه أو زعزعته! هو ضرب من الضياع والتوغل في المجهول الاعتقاد بأن الأساليب القمعية التي أثبتت فعاليتها، ولنعترف، في الماضي، يمكن أن تكون فعالة أو مجدية اليوم، ففي ذلك تنكر لشمولية الأزمة الراهنة وحدتها وتجاهل ما حصل من مستجدات إقليمية وعالمية وخاصة ما خلفته العولمة في حقلي الاتصالات والإعلام،

وفيه تنكر أيضا لطابع هذه التحركات الشعبية وحيويتها، وأنها تجري ضمن نسق عربي يطرق أبواب التغيير الديمقراطي، مستندة إلى تراكمات جوهرية حصلت في أنماط التفكير وطابع التفاعلات السياسية بين الناس وعزمهم على أخذ قضيتهم بأيديهم! ومثلما لا ينفع هنا إنكار أسباب الأزمة وتكرار الحديث عن متآمرين ومندسين يرتبطون بأجندة خارجية، إمبريالية وصهيونية، غرضها النيل من الموقف السوري الممانع، وعن عصابات مسلحة تعيث، قتلا وتدميرا، في العباد والبلاد، لا تنفع أيضا المقارنة مع ما حصل عام 1982 حين تمت وبعيدا عن الإعلام، تصفية تمرد الإخوان المسلمين في مدينة حماه، وحين كان الحل الأمني يحظى برضا سياسي دولي واسع وبظروف داخلية ملائمة لجهة أن الأحداث شملت مدينة واحدة، في ضوء حياد قطاعات واسعة من الناس وخوفها من الأصولية الإسلامية التي شكلت عنوان ذاك التمرد، أما اليوم فإن التظاهرات تشمل غالبية المدن والمناطق السورية، والناس الذين أزاحوا عن صدورهم بعبع الخوف، ليس عندهم ما يخسرونه مع انسداد الأفق أمامهم وتعاظم شعورهم بالظلم وغياب العدالة، وهم يستمدون الجلد والعزيمة، كما الحيوية والأمل من أن قضيتهم تتابع إعلاميا ساعة بساعة، والأهم أنهم يعتقدون بما يشبه اليقين بأن التراجع وانتصار الحل الأمني سيقود إلى وضع أكثر سوءا ومكابدة، مدركين أن الزمن يسير لمصلحتهم، وأن إصرارهم، على الرغم من التضحيات الكبيرة، على استمرار المظاهرات والاحتجاجات حتى وإن لم تحقق حسما سريعا، سوف يذهب بالخيار الأمني إلى الفشل، ويفتح الآفاق على معالجات من نوع آخر، وتحديدا إن حافظت التحركات على وجهها السلمي وحاصرت ما قد يشوبها من اندفاعات عنفية!

صحيح أن أصحاب الحل الأمني لا يزالون يعتدون بأنفسهم ولديهم كثير من الثقة بأن أساليبهم القمعية المجربة قادرة على الحسم وإعادة زرع الخوف والرعب في المجتمع، وصحيح أن هناك كتلة شعبية لا تزال صامتة وسلبية يطيل ترددها وصمتها من عمر الأزمة ومن تكلفتها، لكن الصحيح أيضا أن سياسة الإنكار والهروب إلى الأمام نحو المزيد من تجريب الخيار الأمني والعسكري، يفتح أبواب البلاد على المجهول، وأوضح ما فيه، المزيد من العنف والتنكيل، وانفلاش الصراعات على غير هدى، واستدراج المزيد من العزلة والحصار والتدخلات الخارجية، فضلا عما يخلفه من آثار سلبية عميقة ومن أضرار فادحة، على الوضعين الاقتصادي والإنساني، والأهم على النسيج الاجتماعي ومستقبل الأجيال القادمة!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى