صفحات سوريةماهر الجنيدي

العلاقات العامة: سلفادور الليندي مادّةً للاستبداد


ماهر الجنيدي()

حرص الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، خلال فترة حكمه المديدة، على الالتزام ببعض المراسم الشكلانية والبروتوكولات في عمله؛ وكان يتبدّى حرصه على ذلك شديداً في فترات الأزمات، وفي «المنعطفات التاريخية». ولعل من أبرز هذه الشكليات، مراعاته عقد اجتماعات للقيادتين القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، فضلاً عن اجتماعات القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية.

فقد لعبت الجبهة الوطنية التقدمية، التحالف الذي ضمّ عند تأسيسه إلى جانب حزب البعث الحاكم كلاً من الحزب الشيوعي السوري (خالد بكداش/ يوسف فيصل)، وحزب الاتحاد الاشتراكي (فوزي كيالي/ صفوان قدسي)، وحركة الاشتراكيين العرب (عبد الغني قنّوت)، وحزب الوحدويين الاشتراكيين (فايز اسماعيل)، دوراً مزدوجاً في مستلزمات هيمنة الحكم الشمولي على الحياة السياسية السورية. الأول هو شقّ هذه الأحزاب، أقلّه إلى قسمين، أحدهما موال والآخر معارض. والثاني هو منح النظام الرسمي، الشمولي بطبعه، طابعاً مؤسساتياً تآلفياً «يجسّد اللحمة الوطنية« و»يعكس متانة الجبهة الداخليّة«.

وإذا كان الرئيس الراحل كثيراً ما لجأ إلى تكليف نوّابه رئاسةَ الاجتماعات الدورية للقيادة المركزية للجبهة، فإن حرصه كان جليّاً على عقد اجتماعات غير اعتيادية لهذه القيادة، وعلى أن يرأس شخصياً هذه الاجتماعات، قبيل تطوّرات عسكرية مهمة، مثل حرب تشرين 1973، والتدخّل السوري العسكري في لبنان 1976، والمشاركة في قوات التحالف الدولية لتحرير الكويت/ عاصفة الصحراء 1991. كما كان حريصاً على عقدها ورئاستها في أعقاب الخطوب والملمّات السياسية، مثل قرار الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة القدس، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.

إلا أن حدثاً جللاً مثل «مجزرة مدرسة المدفعية» في مدينة حلب، منتصف حزيران (يونيو) 1979، استدعى اجتماعاً ماراثونياً للقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، أعقبه اجتماع مطوّل للقيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، تمخّضا عن «إعلان» الحسم الجذري مع حركة الأخوان المسلمين، وليس فقط مع تنظيم الطليعة المقاتلة- القسم المسلّح المنشق من الحركة.

وهنا يجدر التذكير بأن ما تمخّض عن هذين الاجتماعين، ككل الاجتماعات المماثلة الأخرى، هو في الواقع «إعلان» لا «قرار». فإذا كانت وسائل الإعلام قد أوحت أنهما من حددا طبيعة الرد الذي اعتمده النظام، إلا أن أحداً لا يشك في أنهما، وبدرجتين متفاوتتين، كانا حديثاً من طرف واحد، تبلّغ فيهما المجتمعون بالقرارات التي اتخذتها القيادة السياسية (اقرأ: القيادة الأمنية).

حينها، مثلاً، رشح عن اجتماع الجبهة المذكور قولُ الأسد إنه قرر الحسم تجاه «المؤامرة»، ليبدأ خطابٌ إعلامي استطال زمنياً عدة سنوات، ارتبطت فيه هذه المؤامرة بباقة متنوعة من الأحداث و»الخيوط الخارجية». فغرباً، تتصل بقرار الرئيس المصري أنور السادات الذهاب إلى القدس؛ وشرقاً تتصل بقرار الرئيس العراقي صدّام حسين فضّ ميثاق العمل القومي المشترك مع الأسد وما استتبعه من حملات «تطهير» دموية في صفوف القيادة العراقية، فيما تتصل جنوباً بما سمّي «مشروع الأمير فهد»، ولي العهد السعودي آنذاك. كما رشح عن الاجتماع أن الأسد لن يغادر الحكم ولو اضطر إلى الدفاع عن القصر الجمهوري بنفسه. الأمر الذي أتاح لخيال بعض الجبهويين مقارنته بأحداث تشيلي، مشبّهين الأسد بالراحل سيلفادور الليندي، الرئيس المنتخب ديمقراطياً الذي قضى خلال تصدّيه لانقلاب عام 1973، الذي قاده الجنرال بينوشيت بتخطيط من المخابرات المركزية الأمريكية.

ربّ قائل إن لفتات الأسد تلك ما كانت سوى شكليّات، بل ضرباً من «التمثيليّات» التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، فالقرارات كانت تتخذ على أعلى مستويات أجهزة الأمن، لكي تأتي الجبهة بعدها وتبصم عليها، أشبه بشاهد الزور. لكنّ الواقع برهن خلال فترة حكم الأسد الأب أن «تجسيد اللحمة الوطنية» و»عكس متانة الجبهة الداخلية»، كانتا جزءاً لا يتجزّأ من منظومة إعلامية ترسل رسائل عديدة إلى جهات متنوعة، كما كانت تلعب دوراً وظيفياً في منمنمات الاستبداد بالقرار.

فمراسم الجبهة الشكلانية، وبروتوكولاتها واجتماعاتها وبياناتها، تمنح في الواقع إطاراً مؤسساتياً للقرارات، يحتاج إليه النظام الرسمي خارجياً في مخاطبة حلفائه من «الدول الصديقة، وفي مقدّمتها الاتحاد السوفييتي (العظيم)»، كما يحتاج إليه مع الدول غير الصديقة، بما فيها فرنسا والولايات المتحدة، في مفاوضاته ومساوماته الإقليمية في الجولان ولبنان. فضلاً عن أن هذه المراسم كانت تتيح له، بثمن زهيد، الاستفادة من هذا الحزب أو ذاك كوكالة علاقات عامة، تعزز صورته لدى قطاع من الرأي العام العالمي، من خلال جهودها مع أقرانها من الأحزاب «الشقيقة»، القومية حيناً والأممية حيناً آخر. وفوق هذا وذاك، وعلى الرغم من ترافق الاجتمعات عادة مع «قصقصة أجنحة» الأحزاب «الحليفة» التي لم يكن مسموحاً لها التحرك إلا بمقدار محسوب، فإن هذا «الأداء» الديكوري الشحيح للجبهة، أداء الحد الأدنى، كان يتيح للقيادات المحنّطة في الأحزاب الجبهوية أن تبرر هيمنتها على أحزابها، من خلال الإيحاء لقواعدها الحزبية أنها تشارك في اتخاذ القرار، وأنها تمتلك بعضاً من مفاتيح اللعب السياسي مع قيادة البعث، يصعب على باقي كوادرها اللعب بها.

إذن فقد كانت هذه الشكلانيات تؤتي أكلها بطرق شتّى. مادّة يستثمرها النظام الرسمي ويستحلبها إمعاناً في توطيد النظام، وضبط الشارع، وتغطية العيوب، وتبرير للتجاوزات، وتجميل الاستبداد، في نظر أحزاب لم تكن حتى في وارد الإلحاح على مطلب بسيط، كالسماح لها بتوزيع صحفها ومطبوعاتها، والكفّ عن مضايقة كوادرها، وتقييد حركة وتوظيف أعضائها في الوظائف الحكومية، وهم الذين لم يتورّع «حكماؤهم»، اليساريون خصوصاً، عن أن يروّجوا لنسخة عربية من سلفادور ألليندي.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى