صفحات سوريةعقاب يحيى

العلاقة بالخارج : المسموح والممنوع


جلال / عقاب يحيى

بين الرهاب، والثوابت، وردّ الفعل ترتسم حدود تصورات العلاقة مع الخارج، وتتفاوت التقديرات والمواقف، ومستوى الحساسية، والتبرير منها.. وكان آخرها الجدل حول” مؤتمر باريس” والموقف منه ..

لنبدأ منذ البداية فنقول : أن عموم المعارضة السورية ناهضت النظام لسنوات طويلة على يساره(القصد هنا الموقف الوطني والقومي)، بل إن السمة البارزة لانقلاب الأسد ” التصحيحي” على رفاقه في قيادة الحزب والدولة كان يكمن في المعارضة المغمومة ـ الفصيحة للخط الرافض للتسوية مع العدو الصهيوني، وعنوانه القرار الأممي رقم /242/ الذي جاء تكريساً لهزيمة حزيران الشنيعة، وفرض وقائعها على الطرف العربي بقبول الاعتراف بالكيان الصهيوني وشرعية اغتصابه لمعظم فلسطين التاريخية، وضمان الحدود الآمنة، والتطبيع، وحصر الصراع معه على ما احتل في حزيران(وهو ما شكل محور العمل العربي الرسمي على مرّ العقود) .

ـ القيادة الوطنية في سورية ناهضت القرار ورفضته، وطرحت بديلاً له : حرب الشعب والكفاح المسلح، وكانت المقاومة الفلسطينية الردّ والأمل . هنا، وبغض النظر عن مدى واقعية الشعارات، والقدرة على تجسيدها، وعمليات الهروب إلى الأمام التي ترفض الاعتراف بأسباب الهزيمة ونتائجها، ومحاسبة المسؤولين المباشرين عنها، والمتخاذلين والمقصرين، والانفتاح على الشعب والقوى السياسية باتجاه إنهاض جبهة عريضة، ولحلحة مركزة الحزب الواحد ـ القائد باتجاه فهم طبيعة مرحلة التحرر الوطني وقواها..إلخ، فإن أساس تكتل الأسد العسكري نهض على أرضية مناهضة هذا الخط، وملاقاة القابلين بالتسوية في مكان ما. وكان هذا يعني : التفاوض مع العدو مباشرة، أو بصورة سرية من تحت الطاولة، أو عبر وسطاء .

ـ حين تعرّضت الثورة الفلسطينية لمذبحة أيلول السود في الأردن/ أيلول 1970/ باستخدام تجاوزاتها وأخطائها كغطاء لتصفيتها باعتبارها الظاهرة النقيض لخط التسوية، اتخذت القيادة الوطنية السورية قراراً جريئاً، واستثنائياً بالتدخل العسكري لحماية الثورة، وهو التدخل المفتوح حتى المدى التي تقرره قيادة الثورة الفلسطينية.. فتباطأ الأسد ـ وزير الدفاع ـ في تنفيذ القرار أياماً، ولم ينصاع له غلا تحت ضغط وتهديد رئيس الدولة ـ الأمين العام للحزب : الشهيد الدكتور نور الدين أتاسي الذي أعلن كشف المستور ما لم يتم إنقاذ الثورة من المذبحة، وحين دخلت بعض القطعات رفض الأسد تغطيتها بالطيران، فكان ذلك عاملاً مهما ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ في الإخفاق بتحقيق الهدف الرئيس، وكانت هذه محطة أخرى لحساب انحياز الأسد لمعسكر التسووين .. ومن يدعمهم ..

ـ حين صار الأسد القائد الفرد صاحب الصلاحيات المطلقة.. أغلق الحدود السورية بوجه الفلسطينيين الهاربين، الباحثين عن ملجأ من مذابح جرش وعجلون عام 1971 التي كانت استكمالاً لمذابح أيلول، وبهدف ترحيل المقاومة نهائياً من أهم وأكبر جبهة مواجهة مع العدو الصهيوني.. فلجأ كثيرهم مضطراً إلى فلسطين المحتلة وتسليم أنفسهم لقادة العدو، وكانت هذه أيضاً محطة أخرى في حساب علاقة الأسد بالغرب والولايات المتحدة .

ـ ورغم محاولات التحايل على الكلمات، ورفع الشعارات البراقة.. إلا أن نظام الأسد الارتدادي(الارتداد يأخذ أبعاده الموضوعية في جميع المجالات) كان موافقا على التسوية والقرار /242/ بشكل ضمني، فصريح، وهذا ما يفسر أحد أسباب الترحيب بانقلابه من قبل النظام العربي الرسمي بقيادة السعودية، ومن الدوائر الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية .

                                         *******

 لا يسمح المجال بتعداد محطات النظام الأسدي البارزة في علاقاته مع الغرب وموقع المعارضة السورية المناهض له على هذه القاعدة الوطنية ـ القومية التي كانت تطغى على ما عداها(المجال المطلبي والحريات العامة)، ويكفي التدليل ببعض المرتكزات والمواقف :

1 ـ موضوعياً، وواقعياً كان البقاء في السلطة يمثل الهدف المركزي الأول، الذي تهون دونه التراجعات والتكتيكات والمقايضات واللعب بكل الأوراق، وتقديم الخدمات، والضغط باستخدام الشعارات والقضايا الوطنية، خاصة القضية الفلسطينية، ولا يخفى على أحد كمّ المناورات والتدخلات السافرة التي مارسها النظام على الثورة الفلسطينية لتدجينها وقولبتها، وإلحاقها به، أو استخدامها رأس حربة، والتخويف بها أحياناً، وزرع الانقسام فيها، وينسحب ذلك على محاولات التدخل بدول الجوار : العراق والأردن، وقوفاً عند لبنان .

2 ـ لقد كان الدخول السوري إلى لبنان (بدءاً من عام 1975، وترسيمه عام1976) بمثابة الفاصل القطعي بين النظام  وعديد القوى المعارضة السورية التي راهنت ـ لسنوات ـ على إمكانية التعاون معه في إطار كذبته الكبرى في “إقامة الجبهة الوطنية التقدمية”.. فكان ذلك الانكشاف للدور الخطير الذي يقوم به النظام، بالاتفاق الكامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومباركة “إسرائيل” القشة التي قصمت ظهر كل علاقة به، ومراهنة عليه من قبل القوى الوطنية السورية، التي انضمت، من تاريخه، إلى البعثيين (الشباطيين) الذين ناهضوه منذ الأيام الأولى.. حين تعرّت النوايا، وظهر الموقع الحقيقي للنظام، واستعداده للقيام بأخطر وأقذر الأدوار التي لم يكن من الممكن أن يقوم بها غيره : ضرب الثورة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية، وإجهاض مشروعهما لصالح مشروعات مناوئة .

3 ـ ويكفي للتدليل على طبيعة الدور في لبنان النتائج الكارثية التي نجمت عن وجوده والتي يضمها العنوان الكبير : التطييف بديلاً للقوى القومية واليسارية والعلمانية، وعمليات التمزيق والتشقيف والنخر، والاغتيال، واللصوصية، وغيرها كثير يحتاج إلى عديد المقالات، بما في ذلك التلطي خلف شعارات المقاومة الإسلامية، والممانعة، وحروبه اللئيمة ضد منظمة التحرير والقوى الحيّة اللبنانية .

4 ـ إن جميع الشعارات الخلبية للنظام عن ممانعة، ومقاومة الأمريكان وحلفائهم سقطت في حفر الباطن حين زجّ بالجيش السوري تحت القيادة الأمريكية وحلفها الشيطاني لضرب العراق، فانكشف المستور، ومع ذلك ظل تعهير الشعارات ماشياً وكأن شيئاً لم يحدث ….

5 ـ وحين أراد النظام قبض ثمن المشاركة في تدمير العراق… كان ” مؤتمر مدريد” البائس عنوان التفاوض المباشر مع العدو الصهيوني، وفتح صفحة الحوارات المباشرة بديلاً للوسائل السرية، وعن طريق الغير.. فكان مسلسل اللقاءات المباشرة بين وزير الخارجية السابق(فاروق الشرع) وقادة الكيان الصهيوني، وبالطبع بمشاركة وليد المعلم وعديد القادة الأمنيين والعسكريين، وصولاً غلى ” وديعة رابين” التي اعتبرها النظام الوريث حرز الأحراز وهو يطالب بالعودة إليها، والتمسك بها.. وهذا غيض من فيض ..

6 ـ وخلافاً لشعارات مقاومة غزو واحتلال العراق.. فقد احتضن النظام ودعم معظم قوى المعارضة العراقية التي تعاونت مع الأمريكان(من قبل ومن بعد)، وربطته، وما زالت علاقات وطيدة بها، واعتراف بشرعيتها، وكان جزءاً رئيساً في عمليات التحضير لمرحلة ما بعد صدام حسين(وإن لم تكن حصته بالمستوى الذي كان يأمل) .

                                                  ******

في كل هذا المحطات الرئيسة وسواها.. كانت جميع القوى المعارضة السورية بمشاربها القومية واليسارية والإسلامية في الخندق المقابل الذي يرفض تلك المواقف، ويدين المقايضة بالقضايا القومية، بل وتذهب حدود التطرف في رفض التعامل مع أعداء الأمة، أو التنازل عن الحقوق القومية في فلسطين، ناهيك عن الحق الكامل باستعادة الجولان، والموقف من الاسكندرونة الجزء الصميمي من الوطن السوري..

   مع ذلك، ورغم أن عديد فصائل المعارضة أعلنت مراراً وقوفها مع الوطن، بل مع النظام، إن تعرّض البلد لأية مخاطر، أو اعتداءات خارجية، وبطريقة تصل الابتذال والاستعراض أحياناً.. ظل النظام يرفع شعارات الاتهام والتخوين، وكأنه المحصّن، الوصي، النقي، وكأنه فعلاً يقوم بفعل التحرير ومقاومة العدو، ولا يحاول التفاوض معه مباشرة أو عبر الوسيط التركي وغيره، وكأنه لا يتوسل العلاقة التعاونية مع الأمريكان(يكفي للتدليل ما قدّمه النظام من خدمات جليلة في ” ملف الإرهاب” الذي اعترف الأمريكان بأهمية الملفات التي تبلغ عشرات الآلاف التي أعطاها لهم النظام، والمتعلقة بملفات مواطنين سوريين وعرب) ..

ورغم أن التكرار ملّ من إعادة موقف إدانة التعامل مع الخارج، أو الاستنجاد به، أو التعكيز عليه، أو رهن مصير وسياسة ومستقبل الوطن لأي جهة خارجية، وإدانة كل دعوة للتعاون مع الخارج، فإنه من الموضوعية، هنا، تسجيل الملاحظات التالية :

1 ـ أكدت أحداث السنوات المنصرمة، خاصة منعطفاتها الهامة، أن الأطراف الدولية الفاعلة، ومن خلفها الصهيونية العالمية بنفوذها وهيمنتها على صنّاع القرار في عديد الدول والمراكز، ليس بواردها ـ حتى اليوم على الأقل ـ العمل على إسقاط النظام، وليس لديها قرار بهذا الخصوص، وأن أقصى المطلوب منه هو ” تعديل سلوكه” ضمن قائمة شروط ومطالب تتفاوت وتتغيّر سقوفها بين مرحلة وأخرى. كان ذلك قرار الإدارة الأمريكية في عزّ قوة وهجوم المحافظون الجدد بإدارة المجرم بوش، واستمر الأمر حتى اليوم، وهو ما توضحه المواقف الدولية مما يجري في بلدنا من مجازر، وعمليات قتل وعنف يمارسها النظام ضد شعبه، بينما لم ترق ردود الأفعال الدولية إلى الحد المألوف في مثل هذه الحالات، كما أن الصمت العربي المشين، وتحنّط الجامعة العربية عن القيام بأي دور هو مؤشر آخر لفعل وأثر الخارج على النظام العربي(لاحظوا الفرق بين المثل الليبي والسوري) .

لقد سبق وكتبت مراراً في أسباب هذا الموقف الذي يعود إلى عاملين متراكبين : الأول الذي يرتبط بالإستراتيجية الصهيونية في منطقتنا التي تعتمد، في واحد من أسسها القوية، على عمليات التفتيت العمودي للمجتمعات العربية على أسس دينية ومذهبية(بغض النظر عن طبيعة علاقة النظام المباشرة، والتي ننفيها)، وثانيهما الخاص بالموقف من الحدود الآمنة والتزام نظلم الأسد الأب والوريث بالحفاظ على صمت الجبهة مع العدو الإسرائيلي..وإن أقصى ما تريده إضعاف النظام أكثر فأكثر، وليس تغييره .

2 ـ لقد نبتت في السنوات الأخيرة بعض الفطريات السورية التي تدّعي المعارضة في الخارج، وهي كمشات متفرقة لا وزن ولا أهمية لها، بعضها ـ كالغادري الظاهرة الفريدة ـ طرح بوقاحة التعامل مع الخارج على طريقة المعارضة العراقية، وزار فلسطين المحتلة.. لكنه يبقى عملاً معزولاً، وهجيناً .

3 ـ أمام مفاجأة النظام لبعض المعارضين بهذا المستوى من العنف الإجرامي، وعمليات القتل الواسعة، وإدخال الجيش إلى المدن، وحجم التضحيات والمعاناة التي يقدّمها الشعب السوري.. يمكن رصد بعض ردود الأفعال الشعبية، والسياسية.. التي يحلم بعضها لو يأتي الشيطان ويقوم بمساعدته على التخلص من نظام لا شبيه له، نظاماً يقتل شعبه ويفتري بأكاذيب مرعبة، وهي نوع من هبّات وقتية، بينما ينمو عند بعض الأوساط السياسية اتجاه طلب الدعم الخارجي تحت عناوين، ومبررات الخلاص من الجحيم، والتهديد بتمزيق البلد والحرب الأهلية، والبعض يجري مقارنات بين ما يجري وبين أسوأ أشكال التدخل الخارجي، مرجحاً الأخير الذي بتقديره لن يكون أكثر سوءاً ودموية من النظام، واستمراره .

هذا الاتجاه المغمغم لم يجد مرتسماته في موقف أي قوة سياسية معارضة : قديمة، أو مما يلد كل يوم، ولذلك يبقى حصراً على أصوات فردية، دون أن نغفل إمكانية وجود قوى، وأطراف خفية تعمل على ذلك، بما فيها عملاء مجندون قد لا يكونون في صفوف المحسوبين على المعارضة وحسب، بل يمكن وجودهم في أماكن مختلفة، بما فيها داخل النظام والمحسوبين عليه .

4 ـ الفرق كبير ونوعي بين حق وواجب ودور ومهمة المعارضة وكافة الناشطين والمنتمين إلى الثورة السورية في تأمين الدعم الخارجي لها من قبل الرأي العام العالمي، والمنظمات الحقوقية، والإنسانية، ومنظمات حقوق الإنسان، والمحكمة الدولية الخاصة بمجرمي الحرب والإبادة البشرية، والهيئة الأممية وحضها على اتخاذ قرارات رادعة للنظام القاتل، ومحاصرته والضغط عليه. بل إن الذهاب أبعد من ذلك في العمل على رفع الغطاء عن هذا النظام من قبل الجهات الدولية، ودفعها لاتخاذ قرارات لصالح الثورة السورية ومستقبل البديل الديمقراطي.. هو مهمة ملقاة على عاتق جميع المعنيين بالشأن السوري.. كل ذلك في الإطار السياسي وغيره، وبعيداً عن التدخل العسكري المباشر وغير المباشر، والذي هو أمر مشين، ومدان، ومرفوض.

5 ـ إن العداء للنظام مهما بلغ مداه، وهو اليوم في مداه الأقصى حيث يخوض الشعب السوري الثائر معركة مصيرية بالفعل، يقدّم فيها أغلى التضحيات.. لا يبرر أبداً مدّ اليد، أو التعاون مع أطراف معادية لشعبنا وأمتنا، وهي في موقع عدونا الاستراتيجي: الصهيونية وكيانها الاغتصابي . ولا كذلك الانخراط في أنشطة ظاهرها دعم الثورة السورية وباطنها مشبوه، وهنا فإن مقولة ” عدو عدوي صديقي” ليست إطلاقية، وهي خطيرة إذا ما تركنا لها العنان، حين يشرعن البعض لنفسه، أو للغير الانخراط والتورط في أنشطة، أو علاقات مع أطراف معادية لشعبنا ومصالحه العليا الإستراتيجية التي تظل أهم من أي نظام ووضع، وقبله وبعده .

6 ـ إن سورية المنشودة، سورية الدولة المدنية الديمقراطية، سورية المساواة والتعددية والتداول السلمي على السلطة ليست منزوعة الهوية والانتماء، أو مجوّفة من تاريخها، ودورها، وموقعها في أمتها العربية، ومحيطها. إنها سورية القادرة على لعب دورها بثقله المعهود في جميع المجالات .

7 ـ بالمقابل .. فإن بيت النظام الزجاجي المكشوف لا يبيح له توزيع شهادات الوطنية على الغير، وهو ليس الوطن الذي يدعي، بل يقع في النقيض منه.. لذلك فإن فزاعاته يجب ألا تكون رهاباً على عنق المعارضة يضعها وكأنها في موقع المتهم الذي عليه أن يقسم أغلظ الأيمانات أنه وطني وغيور، وضد التدخل الخارجي على الطالع والنازل وبشكل مبتذل وساذج، لأن الوطنية السورية متأصلة في عروق ودماء أبنائها، وفي المعارضة الرئيسة، وقيادات الثورة الشباب.. والتي تناضل على أرضية الوطن، كما تناضل على قاعدة الحريات الديمقراطية والنظام البديل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى