مراجعات كتب

العلمانية والدولة المدنية/ عبدالرحيم علام

 

 

 

العلمانية والدولة المدنية.. جدلية اشتباك المقدس بنزعة الحداثة/ محمد الحمامصي

القاهرة – في العشرينات من القرن الماضي فجر المفكر الأزهري المصري علي عبدالرازق بين صفحات كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الشرارة الأولى لجدلية العلاقة بين الممارسة السياسية والسلطة الدينية في التاريخ العربي المعاصر، لتنطلق على إثرها موجة من الجدل الفكري العنيف بين المنظرين لإصلاح نظم الحكم في الأقطار العربية عبر اعتماد العلمانية في مواجهة الحرس القديم المتشبث بالدفاع عن مؤسسة الخلافة المهترئة.

وقوض عبدالرازق بين صفحات كتابه الذي اعتمد الدراسة التاريخية منظومة الخلافة في التاريخ الإسلامي ذي الطبيعة الثيوقراطية الاستبدادية مبينا أن “الغلبة كانت دائما عماد الخلافة، ولا يذكر التاريخ لنا خليفة إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلّحة التي تحوطه، والقوّة القاهرة التي تظلّه، والسيوف التي تذود عنه”.

وقطعت نظرية عبدالرازق مع دعوات الإصلاحيين من أمثال محمد عبده والكواكبي والأفغاني الذين حاولوا التنظير لنظام يوائم بين السلطة الزمنية السياسية والشرعية الدينية مع إضفاء بعض الإصلاحات السياسية والإدارية ما مثل بداية إشكالية المقدس بالدنيوي واشتباك فكرة الدولة المدنية بمفهوم تحييد الدين في التاريخ العربي والإسلامي بعد العشرات من القرون التي كانت فيها العباءة الدينية مقترنة بمشروعية الحكم السياسي.

جاء هذا الجدل متأخرا عدة قرون عن نظيره في أوروبا المسيحية والتي قطعت حينها أشواطا من التغيير السياسي بعد حقبة التنوير والإصلاحات داخل مؤسسات الحكم والكنيسة أنهت تحكم الكنيسة في الحياة السياسية.

ويتخذ الباحث المغربي عبدالرحيم علام من الصراع التاريخي الذي عرفه العالمان الغربي والإسلامي ونحو استيعاب العلاقة بين الدين والدولة منطلقا لمبحثه ضمن كتاب “العلمانية والدولة المدنية” والصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، معتمدا منهجية التحليل التاريخي لمختلف تجارب الحكم وتطورها وكمرتكز لتفكيك هذه الإشكالية الأيديولوجية المعقدة.

أفرد علام اهتماما خاصا بتجاذبات المقدّس والدنيوي من جهة، والديني والسياسي من جهة ثانية، ضمن مجالي الدراسة بالقارة الأوروبية والعالم العربي، محددا إطار المجال الأوّل من لحظة التلاقي بين المسيحية والإمبراطورية الرومانية إبّان القرون الأولى، مرورا بالعصور الوسطى وتفاعلاتها، وصولا إلى حقبة النهضة الأوروبية، وما تلاها من ثورات التنوير.

أمّا المجال العربي الإسلامي، فقد افتتحه بالتجربة النبويّة في مكّة والمدينة، وما تلاها من فترات وحقب تنوّعت بين “الخلافة الراشدة”، و”السَلْطنة”، و”الدول الشخصية”، إلى حدود الواقع الذي خلّفته موجة الاستعمار الأجنبي، والصراعات الإثنية والدينية.

حاول الباحث المغربي معالجة جملة من الإشكاليات ترتبط بخضوع الدين لمقتضيات التأريخ وظروف نشأة الفكرة العلمانية بالمجتمعات العربية ومدى تقبلها وتطابق التجارب المعتمدة في البلدان المسلمة مع النماذج الغربية كما عقد مقارنات داخل المنظومة الغربية نفسها، ووجد أن العَلمانية، من حيث التطبيق، تتعدّد نماذجها، وتختلف حسب السياقات التاريخية والظروف المحيطة بها.

التنظيرات الفكرية والفلسفية، والتجارب السياسية في الغرب قد بينت أن العَلمانية لم تَتَأسّس على العداء للدين، بقدر ما هدفت إلى الحدّ من التأويلات الدينية الرامية للهيمنة على الشؤون السياسية، والأخلاقية، والثقافية، والعِلمية

ولفت علام إلى أن الرجوع إلى التاريخ ضمن منهجه البحثي يهدف إلى الربط بين التطورات التاريخية في مسار العلمانية الغربية، ورِهانات الصراع في الشرق الإسلامي؛ وبما أن التطوّرات السياسية التاريخية ليست وحدها التي نحتَتْ مضمون العَلمانية في الغرب، أو نظَمت العلاقة بين الدين والسياسة في الشرق، فقد كان لزاما على الباحث ألّا يُغفل قراءة نصوص الفلسفة السياسية في كِلا التجربتين (على الرغم من طغيان الآداب السلطانية في التجربة الإسلامية). والتي أدّت دورا مهمّا في صياغة الذهنية الجَمْعية، وتشكيل الهُويّة السياسية للكثير من الشعوب.

ويشير إلى كون التنظيرات الفكرية والفلسفية، والتجارب السياسية في الغرب قد بينت أن العَلمانية لم تَتَأسّس على العداء للدين، بقدر ما هدفت إلى الحدّ من التأويلات الدينية الرامية للهيمنة على الشؤون السياسية، والأخلاقية، والثقافية، والعِلمية، وكان شعار الفكر العلماني في الغرب هو أنّه لا مجال للكنيسة القويّة إلا داخل الدولة القوية، وأنّ استقلالية الدولة لا تتأتّى إلا من استقلالية الدِّين، وأن التمييز بين العام والخاص وبين الدين والدولة، سيكون أكبر خدمة للدين والدولة بشكل مُتزامِن.

وضمن المقارنة بين أبعاد التجربة الغربية في فصل الدين عن الممارسة السياسية والجدل الذي حف بها في العالم الإسلامي، يقول العلام “يتبادر إلى القول إنّ ما عرفته التجربة الإسلامية ليس من صميم الدين الإسلامي، وإنّما هو من وحي التجربة البشرية، لكن تبيّن من خلال البحث أنّ هذا القول إنّما يقارِن بين المسيحية بما هي دين، وبين الإسلام بما هو حضارة وتجربة، كما يماثل بين الإسلام بما هو دين، والمسيحية بما هي حضارة.

والحال أنّ التاريخ المسيحي وُجد فيه من يدعو إلى دمج الديني بالسياسي، كما وجد فيه من يدعو إلى الفصل بينهما، وكلا الطرحين استندا إلى نصوص دينية تؤيّد مسعاهما”.

ورأى علام أن الاستعمار حرم الشعوب في البلدان العربية والمسلمة من أخذ الوقت الكافي لصياغة الأشكال السياسية التي تُلائمها والتي تأخذ بمتطلبات العلمانية مع مراعاة خصوصياتها الاجتماعية وتنوعها الإثني إذ كان بإمكان هذه الشعوب أن تعيش بضع سنوات، من دون كيانات مؤسساتية بعد خروج الاستعمار، إلى أن يتم تحقيق شروط بناء دول، أو اتحادات، تستجيب لضرورات العيش المشترك، حتى وإن صاحب ذلك موجات من الصراع القبائلي، أو الطائفي، لأنّ من شأن هذا المسار أن يقوم بفرز طبيعي للشعوب التي بمقدورها العيش في انسجام.

ويخلص علام إلى الإقرار بأن بناء الدولة المدنية اليوم لا يقتصر على الجانب التقني من الحداثة فالنظام الديمقراطي لم يكن ليصبح أفضل نُظم الحكم الموجودة إلا بعد أن استكملت المجتمعات الغربية نهضتها الشاملة على مستوى مناهجها التعليمية، وحياتها العملية، وممارستها السياسية، ورسخت مبادئ المواطنة، والمساواة، وحقوق الإنسان، والتعددية، والحكم المدني، وحيادية الدولة، كفعل ويومي وثقافة لدى المواطنين.

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى