صفحات سوريةعدي الزعبي

العلمانية والليبرالية في سوريا


عدي الزعبي

الاعتراف بالمشكلة يشكّل الخطوة الأولى لمحاولة حلّها. يرى الكاتب السوري ياسين الحاج صالح أن المثقفين السوريين يتوزعون بين أهل العفة وأهل الإباحة. يتناول أهل الإباحة الطوائف كمعطى سياسي ثابت، في حين ينفر أهل العفة من التكلم عن الطائفية. يعتقد ياسين أن معالجة مشكلة الطائفية يجب أن تتجاوز الاثنين. هنا محاولة أولى لمعالجة هذه المشكلة.

أولاً، في كون الطائفية مشكلة. حين نقول أن الطائفية مشكلة، نعني أمرين. أولاً، مشكلة سياسية، بمعنى أن يقوم النظام السياسي باستغلال الطوائف لأغراض سياسية. رأينا هذا الاستغلال في سوريا، حيث يقوم النظام بتخويف الأقليات الدينية من الأكثرية. أو أن يتم بناء النظام السياسي بأكمله على أسس طائفية، كما هو الحال في العراق ولبنان. بهذا المعنى، يقوم النظام السياسي بنزع صفة المواطنة عن المواطنين وتحويلهم إلى أبناء طوائف، إلى طائفيين. الحل يكون بتأكيد المواطنة. النظام السياسي غير معني بالطائفة التي يتنمي إليها المواطن. لا يجب أن تتحول الطوائف إلى كيانات سياسية، كما هو الحال في لبنان والعراق، أو أن تستخدم في السياسة، كما هو حاصل في سوريا.

هذا الحل يختلف عن استخدام أهل الإباحة للطائفية، بمعنى أنه لا ينظر للطوائف ككيانات سياسية. البعض يعتقد أن الطوائف معطى ثابت، وأنها سياسية في الجوهر. أي أننا حين نعترف بالمشكلة الطائفية، فيجب أن نقبل بوجود الطوائف ككيانات سياسية. هذه مقولة أهل الإباحة. أما نحن، فحين نقول أن الطائفية مشكلة سياسية، فنحن ندعو إلى تجاوزها عن طريق المواطنة، وليس إلى القبول بها.

في المقابل، يرى أهل العفة أن مجرّد الاعتراف بالمشكلة الطائفية هو الوقوع في فخّها. هذه هي مقولة معظم العلمانيين السوريين. يتبع ذلك القول بالمواطنة مع الترفّع عن الخوض بالمشكلة الطائفية. أكثر من ذلك، يتم النظر إلى الطوائف بحد ذاتها كمشكلة، وليس إلى الاستخدام السياسي للطوائف. يرى أهل العفة أن مشكلة الأصولية السنية تنبع من جوهر ثابت. هكذا يشترك أصحاب هذا الموقف مع أهل الإباحة في النظر إلى الطوائف ككيانات سياسية. في حين يرى أهل الإباحة القبول بها، يعتقد أهل العفة أن العمل على علمنة السنة هو الحل. وهم يتماهون مع دعاية النظام السوري في التخويف من الأصولية السنية. هنا يكمن الوجه الآخر للمشكلة. معالجة المشكلة الطائفية يجب أن تنطلق من النظر إليها كمشكلة سياسية، وليس كمشكلة إيمان ديني. لا يوجد معطى ثابت في المشكلة الطائفية يؤكد أن الطوائف هي كيانات سياسية. من هنا، نختلف مع أهل العفة في النظر إلى المواطنة. ليس المطلوب علمنة السنة، أو الطوائف ككل، للوصول إلى المواطنة. المطلوب الاعتراف بالمشكلة الطائفية، ومعالجتها كمشكلة سياسية.

الاختلاف مع العلمانيين السوريين ينطلق من اختلاف أساسي في فهم الطائفية والعلمانية. الإيمان الديني يجب أن يكون خارج نطاق السياسة. وهذا التخارج يكون على مستويين. أولاً، أن لا تعامل الدولة الأفراد أو الجماعات الدينية ككيانات سياسية تعكس إيمانهم الديني. ثانياً، ليست مهمة الدولة أن تفرض على المواطنين أي قيود فيما يتعلّق بإيمانهم الديني. المستوى الثاني هو المستوى الذي نختلف فيه مع العلمانيين السوريين. المقصود أننا حين نقول بالمواطنة، نريد أن نكفل للمواطنين حقهم الكامل في ممارسة شعائرهم الدينية. لا يوجد أي تبرير للتخوّف من الطوائف، طالما لم تتحوّل إلى كيانات سياسية. سوريا، من الناحية الدينية، تتكوّن من طوائف وأديان ومختلفة. الاعتراف بالطوائف والأديان المختلفة، لا يعني القبول بالطوائف ككيانات سياسية. العلمانية بهذا المعنى الذي ندعو إليه هنا تتخذ شكلاً ليبرالياً. الشكل الآخر من العلمانية هو الذي يضعها في مواجهة مع الدين. علمانية الاتحاد السوفييتي نموذجاً. في حين أن العلمانية بشكلها الليبرالي حيادية فيما يتعلق بالدين.

الليبرالية المُشار إليها ليست اقتصادية، بل سياسية وفلسفية. بالمعنى السياسي، تكفل الليبرالية للمواطنين حرية الاعتقاد الديني، بمعزل عن السياسة. لا يوجد أكثريات وأقليات دينية في الليبرالية. ممارسة الشعائر الدينية، أو كون المرء لا-أدرياً أو لا دينياً أو ملحداً، هو شأن شخصي بالكامل. بالمعنى الفلسفي، السؤال حول الدين الذي يتبعه الفرد سؤال مفتوح للجميع، والإجابة التي يختارها الفرد ليست نهائية أو مُلزمة لبقية الأفراد. كان لبعض الفلاسفة رأي تاريخاني في الظاهرة الدينية. هيغل وماركس واوغست كومت رأوا بأن الظاهرة الدينية تنتمي إلى عصر تاريخي محدد، وان التقدم العلمي والفكري سيحل بشكل ما محل الظاهرة الدينية. في المقابل، رأى إمانويل كنط أنّ الظاهرة الدينية لا تحتمل إجابة نهائية، بل إيمان فردي لا مكان لنقضه أو لإثباته. ليس المطلوب من الليبراليين الوقوف مع أحد هذين الطرفين. بل المطلوب هو إبقاء السؤال مفتوحاً. ليست مهمة الدولة أن تتبنّى موقف فلسفي. مهمة الدولة أن تكفل للأطراف المختلفة حق النقاش والاختلاف والبحث. استلهم العلمانيون العرب هيغل وماركس في مقارباتهم. في حين كان لليبرالية موقف مختلف. حتى لو كانت تحليلات هيغل وماركس صحيحة وهو ما أراه – لا يجوز أن تتبنّى الدولة رؤية دينية أو لا- دينية. الحياد، بمعنى تشجيع الأطراف المختلفة على التفكير والنقاش هو الموقف الليبرالي الفلسفي من الدين. أما ما نراه كليبراليين، سواء كنا مؤمنين أم لم نكن، فهذا جزء من عملية الحوار ذاتها.

كليبراليين، ننظر للمشكلة الطائفية من زاوية سياسية، ونعالجها من زاوية سياسية. المشكلة تكمن في تحويل الطوائف إلى كيانات سياسية. الحل هو بالاعتراف بالطوائف وبحرية العبادة، مع التأكيد على حيادية الدولة فيما يتعلّق بالإيمان الديني. بالطبع، للمشكلة الطائفية في سوريا جذور متنوّعة، تاريخية واقتصادية واجتماعية. لم نتطرّق في هذا المقال لأي منها. هذه محاولة أولى لطرح مشكلة الطائفية كمشكلة سياسية، لا كمشكلة دينية. ليس للطوائف مُعطى سياسي جوهري، كما يرى أهل العــــفة واهل الإباحة. نزع الصفة الســــياسية عن الطوائف يكون بتعميم مفهـــوم المواطنة والحرية الدينية.

المعركة مع النظام الاستبدادي في سوريا تنطلق من محاولة بناء سوريا جديدة خالية من الاستبداد. الحرية الدينية يجب أن تكون حجر أساس، ومعالجة المشكلة الطائفية هي إحدى الأولويات في مواجهة نظام يستخدم الطائفية كدعامة رئيسية في تثبيت حكمه.

‘ كاتب من سورية يقيم في بريطانيا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى