صفحات سوريةهوشنك أوسي

العلمانيّة في سورية ايضا وايضا


هوشنك أوسي

أثبتت تجارب الحركات والأنظمة السياسيّة والدول في الشرق الأوسط، أنه تمّ استثمار الدين لغايات غير دينيّة، والعلمانيّة لغايات غير علمانيّة، وغير ديمقراطيّة. وانه أمكن استثمار الأخيرة، بالضدّ منها، ولغايات غير ديمقراطيّة أيضاً. ولعلّ أوّل تجربة في الشرق الأوسط للنظام العلماني، كانت التجربة التركيّة. إلاّ انها، ومنذ نشأتها وحتّى الآن، لم تكن علمانيّة رصينة ومتزنة وناجزة، ومحافظة على جوهرها، ومنتجة لقيم الاختلاف والتنوّع وحريّة الأفكار والمعتقدات، ومواظِبة على انتاج الدولة الوطنيّة وتطويرها وتحفيزها، بالضدّ من تعزيز وتدعيم وتنمية الدولة-الأمّة، ناهيكم عن عدم دفعها بالعمليّة الديمقراطيّة نحو افقها الأرحب، والسعي نحو تنميتها وصونها من الوصايات الدوغمائيّة، سواء أكانت، دينيّة أم دنيويّة. ذلك أنه لا يستقيم الحديث عن علمانيّة نزيهة، ولا يشوبها شائية في تركيا، مع وجود مديرية الأوقاف، (بمثابة الوزارة)، تابعة للحكومة التركيّة، من جهة، ومن جهة أخرى، استبدال دين الدولة (الإسلام) بالأتاتوركيّة ديناً. ناهيكم عن أن الدستور التركي، يشير الى ان دين الدولة هو الاسلام، ومذهبها ‘الحنفي’!. بالاضافة الى أن أئمّة الجوامع والمساجد، هم موظّفون عند الدولة، ويتلقّون رواتبهم من خزينتها. وعلى زمن حكم حزب العدالة والتنمية، غدت تركيا، بعلمانيّتها المنقوصة أصلاً، منزلقة أكثر نحو الدولة الدينيّة. ذلك أنه يستحيل الإبقاء على العلمانيّة في دولة يرأسها شخص غير علماني (عبدالله غُل)، ويرأس وزارتها، شخص غير علماني (رجب طيب اردوغان)، ويرأس وزاراتها، وزراء غير علمانيين، ويرأس مخابراتها (هاكان فيدان) وهيئة أركانها (نجدت أوزال)، والكثير الكثير من مؤسساتها، أشخاص إسلاميين، متديّنين، غير علمانيين. إذن والحال هذه، ماذا تبقّى من علمانيّة تركيا؟!. وكيف سيحافظ أشخاص غير علمانيين على علمانيّة تركيا، إذما أمسكوا بكل مفاتيح الدولة، كما يسري الحال في تركيا الآن؟!.

في سورية أيضاً، ومنذ مجيء حزب البعث العربي الاشتراكي، (القومي -العلماني) للحكم بانقلاب عسكري في 8/3/1963، وحتّى الآن، لا يمكن القول، مطلقاً: ان هذا الحزب، وعبر نصف قرن من الحكم، أسس لنظام علماني، وأنتج دولة علمانيّة. ذلك أنه بعد انقلاب حافظ الاسد على رفاقه الحزبيين (صلاح جديد ونورالدين الاتاسي)، أُدخِل المتبقّي من مدنيّة الدولة في غيبوبة، على حساب انعاش دولة الطائفة، ثم تعزيز دولة العائلة. ناهيكم عن أنه لا يستقيم الحديث عن كون سورية دولة علمانيّة في زمن حكم البعث، مع وجود وزارة الاوقاف والشؤون الدينيّة في الحكومة، فضلاً عن الكثير من المظاهر والتوجّهات التي تنفي وجود علمانيّة حقيقيّة في سورية. والحال هذه، ومع اندلاع الانتفاضة السوريّة، يسعى النظام جاهداً الى اثارة الترويع والتخويف من المخاطر التي تهدد (علمانيّة) الدولة، إذما سقط النظام، وتأكيده على ان الحركات الإسلاميّة والأصوليّة السلفيّة، ستكون البديل عنه، وسينسفون ‘علمانيّة سورية البعثيّة’!. وفي هذا المقام، يُظهر النظام، العلماني شكلاً، والطائفي مضموناً، نفسه على انه منتج العلمانيّة في سورية، وحاميها وضمانتها. وهو لم يكن كذلك مطلقاً.

على الطرف المقابل، التيّار الإسلامي المعارض للنظام السوري، مصرّ ومصمم على محاولات تجنيب ان تكون سورية مابعد نظام الاسد، علمانيّة، والاستعاضة عنها بمفهوم الدولة المدنيّة التعدديّة. وتبدّى ذلك جليّاً في كل مؤتمرات المعارضة، دون استثناء. ورغم قوّة التيّار العلماني المعارض (قوميين، يساريين، ليبراليين، عرب وكرد وسريان)، إلاّ أن مواقفهم كانت هشّة وهزيلة وتوفيقيّة أكثر ما هي توافقيّة، في ما خصّ عدم الدفاع عن جديّة وجدوى وأهميّة أن يكون نظام مابعد الاسد، علمانيّاً ومدنيّاً في آن، وبالتالي، العلمانيون، عاجزون عن الدفاع عن علمانيّة سورية المستقبل، وهم في المعارضة، وفي هذه المرحلة المصريّة والحسّاسة، فكيف ستكون حالهم، وهم في السلطة؟. كما أن الإسلاميين الذين رفضوا علمانيّة الدولة، وهم في المعارضة، مُستقويين بتركيا وحزب عدالتها وتنميتها الاسلامي، فما هي ضمانات عدم اتلافهم لمدنيّة الدولة وعدم استثمارهم للعمليّة الديمقراطيّة لصالح جرّ الدولة نحو المزيد من الدين، حين يستلمون السلطة في نظام مابعد الاسد؟. ومعلوم ان إسلاميي تركيا (حزب العدالة والتنمية) صاروا القدوة والمثال والانموذج، لكل أفرع جماعة الاخوان المسلمين في العالم العربي. وغنيٌّ عن البيان كيف ابتلع التيار الاسلامي الدولة التركية وعلمانيّتها، وعبر اللعبة الديمقراطيّة، ما أن شكل الإسلاميون القوّة الضاربة في المجتمع والدولة.

وبناءً على ما سلف، فالعلمانيّة في سورية، أولاً، لأنها حصانة للنظام الديمقراطي. ذلك أن الديمقراطيّة بدون حصانة من تدخّلات المؤسسة الدينيّة أو سطوة التيارات السياسيّة الدينيّة، ستجعل الدولة تحت وصاية الأغلبيّة الدينيّة أو المذهبيّة أو الطائفيّة. والعلمانيّة أولاً، لأن مبادئ وقواعد اللعبة الديمقراطيّة في تداول السلطة، يجعل الاغلبيّات القوميّة أو المذهبيّة والطائفيّة صاحبة القرار، وسيّدة الدولة والنظام السياسي، بشكل مباشر أو بغيره. وهذا ما باتت تستثمره تيّارات الإسلامي السياسي، أيّما استثمار، في تركيا ومصر والاردن. والعلمانيّة في سورية أيضاً وأيضاً، لأن الدولة المدنيّة، وإبعاد العسكر عن السلطة، لا يعني البتّة ان المجتمع والدولة وصل لمرحلة التصالح والتسامح والخلاص من ذهنيّة الوصاية أو الذهنيّات الوصائيّة والإقصائيّة، ما يهدد حضور ووجود وحقوق المكوّنات الأخرى الشريكة في تاريخ وحاضر ومستقبل سورية. العلمانيّة والمدنيّة والديمقراطيّة أولاً وأخيراً في سورية، لأن المجتمعات ذات التنوّع القومي والاثني والديني والمذهبي والطائفي، لا يمكن لهواجسها وقلقها أن تسكن، وتطمئن لنظام سياسي، لا يتدخّل في شؤونه، دين او مذهب أو طائفيّة الأغلبيّة.

‘ كاتب كردي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى