بدر الدين شننصفحات سورية

العناوين الغائبة في الحوارات والمؤتمرات


بدر الدين شنن

حين انطلقت الاحتجاجات الشعبية عادت السياسة ، ونهض حراك ربيع التغيير في البلاد . ومنذ البدء والتمادي في الاشتباكات المسلحة ، بعد أسابيع من الاحتجاجات ، وسقوط آلاف القتلى والجرحى من المدنيين والأمنيين والعسكريين ، فاضت السياسة .. وتشظت .. باتجاهات متقاطعة ، متناقضة ، في ضفة المعارضات ، وفي ضفة أهل الحكم ، وعلى مستوى المجتمع كله ، وتجاوزت السقوف والمألوف . وأفضت إلى اشتباكات سياسية ، تكرست وتأصلت فيها اصطفافات وتيارات لم تكن في الحسبان . وبات من الصعب على حزب أو تحالف أو نخبة ثقافية ، الإمساك بزمامها والتحكم بمساراتها إلى حيث يشاء . ومرد ذلك يعود ، كما هو معلوم ، إلى محصلة تجربة معاشة على مدى خمسين عاماً من حصرية قيادة الدولة والمجتمع بحزب البعث الحاكم ، ومن تناقضات هذه الحصرية وإخفاقاتها على المستوى العقائدي والسياسي والاقتصادي . ويعود إلى متغيرات قيمية دولية هزت القناعة بالخيارات الأيديولوجية وبصوابية الانحياز إلى أسلوب إنتاج معين يؤمن حقاً توزيع الناتج الاجمالي بعدالة وإنصاف لكل أبناء المجتمع ..

وبدأ المشهد السوري يعكس انزياح السياسة من حال داخلي ، يعبر عن الرغبة العارمة في التغيير ، وإعادة بناء الدولة على أسس الديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتنماعية ، إلى حال خارجي تتداخل مفاعيله الإقليمية والدولية السياسية والإعلامية والاقتصادية ، لصياغة هذا التغيير حسب الرغبات الخارجية . كما بدأ المشهد يبرز مفاعيل عنفية مسلحة ببعديها الداخلي والخارجي ، لتسريع وتيرة إيقاع عملية الحسم وتقريب الخواتم ..

مع إنخفاض ملحوظ في أعداد وأماكن التظاهرات .. ومع انتشار الاشتباكات المسلحة في غير مدينة .. وفي غير مكان في المدينة الواحدة .. لم تعد الشعارات في الشارع هي اللافتة والمعبرة عن التجاذبات السياسية في البلاد . إذ حل محلها ما يشبه الرهان على مآلات الصراع المسلح ونتائج العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الأورو – أميركية ، للإمساك بناصية السياسة . ما أدى إلى تأثر الاقتصاد سلباً في حقوله المتعددة ، وتأثر الاستقرار النفسي الجمعي ألماً وارتباكاً في حركة المجتمع والإنسان العادي ، وإلى اختلاط كل مناحي الحياة للسوريين بالسياسة ، وأصبح الحياد في الأزمة الضاربة جذورها في البلاد مستحيلاً ، وأضحى البحث عن مخرج إيجابي ، بعد أشهر من الصراع المؤلم المفتوح على زمن غير محدد ، مستحقاً وملحاً .. وطنياً وديمقراطياً وإنسانياً .

وحسب المشهد السياسي تنقسم القوى المنوط بها إيجاد هذا المخرج إلى قسمين . القسم الأول يمثله النظام بأحزابه وبآليات الدولة التي بتصرفه . والقسم الثاني تمثله المعارضات بأطيافها وخلفياتها وأحزابها وشللها وشخصياتها . النظام يطرح الحوار و الإصلاح تحت ” سقف الوطن ” أي بقيادته . وأطياف المعارضات تطرح ، إن آجلاً أو عاجلاً ، بمختلف الوسائل السياسية وغير السياسية ، إسقاط النظام . ولكل طرف امتداداته الإقليمية والدولية المساندة له بكل أشكال المساندة .. !! ..

وعلى محاور البحث عن مخرج الإصلاح ، أو مخرج الإسقاط ، على مستوى الداخل والخارج ، صار يدور الحراك السياسي من قبل الطرفين ، الأمر الذي وضع السياسة في مرحلة جديدة شوشت على مسار التغيير . أهل النظام يستندون إلى أوراق الإصلاح ومفاعيل الداخل والآليات التي يملكونها أو يتصرفون بإدارتها . وأهل المعارضة يستندون ، إلى القناعة بعدم صلاحية النظام للقيام بالإصلاح ، وإلى تواصل التظاهرات والاشتباكات المسلحة في بعض المناطق ، وإلى دعم الخارج الدولي السياسي والإعلامي وبعضها لايتورع عن طلب التدخل العسكري وتكرار السيناريو الليبي في سوريا . ولعل إحدى تجليات هذا الحراك تظهر في الحوارات والمؤتمرات ، التي عقدت وتعقد في الداخل والخارج .

عشرات اللقاءات والمؤتمرات عقدتها تجمعات معارضة في البلدان الغربية وتركيا التي تحتضن وتدعم معارضي النظام . وتم في هذه اللقاءات والمؤتمرات تشكيل قيادات ومجالس تحت أسماء مختلفة ، منها جبهة الإنقاذ والمجلس الانتقالي ، لقيادة مخططات إسقاط النظام . كما عقدت أحزاب معارضة ونخب ثقافية في الداخل مؤتمرات عدة كان أبرزها مؤتمر ما سمي بالمعارضة الثقافية في فندق ” سميرا ميس ” بدمشق ، ومؤتمر أحزاب المعارضة في ريف دمشق ، لبرمجة ، ماصرحت به تكراراً ، تفكيك الاستبداد والدولة الأمنية ، مع عدم استبعاد حزب البعث من المشاركة في هذه العملية . وعقد أهل الحكم والقوى والشخصيات والفعاليات الموالية ، أو هي على مسافة من النظام ، عشرات اللقاءات والمؤتمرات أيضاً في دمشق وحلب ومن ثم شملت كافة المحافظات . ’طرحت فيها جداول عمل تضمنت مناقشة وإقرار نهج الإصلاح ، ونقل الدولة إلى النمط الديمقراطي التعددي .

وإذا ما قرأنا بإمعان محصلة نقاشات وطروحات هذه اللقاءات والمؤتمرات ، دون استثناء ، نجد أن عدداً من العناوين الأساسية قد تم تجاهلها وتغييبها بشكل متعمد . فمعارضو الخارج لاسيما المتشددون ، الذين يدورون في الفضاء الغربي ، الذي له أجنداته السورية والشرق أوسطية الخاصة في هذا الدعم ، يتجنبون التعرض لما تنبذه هذه الأجندات ، وخاصة في مسائل التحرر السياسي والاقتصادي ، وحماية البلاد من الهيمنة الخارجية ، وبناء دولة وطنية ديمقراطية عروبية قوية ، وتحرير الجولان ، ويتجنبون طرح النظام البديل في المجالات كافة ، وعلى الأخص في مسألة القطاع العام ، وخياراتهم فيما يتعلق بمجانية التعليم والصحة والخدمات التي تقدمها الدولة . ويستعاض عن كل ذلك بشعار ” إسقاط النظام ” . ويسوغون به كل علاقاتهم الإقليمية والدولية .

ومعارضة الداخل الحزبية والنخبوية الثقافية ، التي تعلن أنها على مسافة من معارضي الخارج ، لاتطرح مباشرة هدف ” إسقاط النظام ، بل تطرح تفكيك الاستبداد والدولة الأمنية وبناء دولة ديمقراطية جديدة ، حيث يكون لحزب البعث الحاكم موقع فيها حسب الدستور الديمقراطي الجديد أسوة ببقية الأحزاب العاملة في البلاد . إلاّ أنها تتجنب طرح برنامج بديل علماني متكامل دستورياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً . فهي تقف بين منزلتين بالنسبة للقطاع العام الإنتاجي والخدمي ، بين بقاء بعضه تحت إدارة الدولة وخصخصة بعضه الآخر ، ولاتدخل في حديث عن اقتصاد السوق وآلامه ومآلاته الاقتصادية المدمرة ، ولاتعبر عن موقفها من التمايزات الطبقية المجحفة بحق الطبقات الشعبية . فضيلتها المتميزة .. بالمقارنة مع معارضين آخرين .. أنها ترفض التدخل الخارجي في الشأن السوري .

أما أهل الحكم ومن هم على مسافة منهم ، فإنهم انكبوا أسابيع على انتقاد الفساد الذي أنتجوه في الماضي والحاضر ، وأسهبوا في مناقشة حقول الإصلاح السياسية والاقتصادية ، دون أن يقاربوا جدياً أهم مستحق في عملية الإصلاح ، وهو الدستور ، وشكل الحكم القادم . بل وبرزت أصوات تتشبث بنظام ” الحزب القائد ” الذي أفضى إلى ما يتناولونه في مناقشاتهم من نقد واستهجان . الخلاصة المتأتية عن هذا الجهد الحواري في المحافظات خاصة ، أن المتحاورين وجهوا رسالة إلى المواطنين ، مفادها ، أن لابديل لحزب البعث في قيادة الدولة والمجتمع ، الذي سيمارس سلطاته في المرحلة القادمة وفق نمط سياسي ديمقراطي تعددي ، ونمط اقتصادي مختلط ” عام وخاص ” ضمن نهج اقتصاد السوق ، من غير أن يقدموا كيف ستكون هذه الديمقراطية التعددية مع استمرار حصرية الحكم بحزب البعث . وكيف سيتم التوفيق بين اعتماد القطاع العام الانتاجي والخدمي كقاعدة أساسية للاقتصاد ، الذي يتطلب توجيه الدولة للاقتصاد مع اقتصاد السوق الذي يتطلب حرية السلعة والسعر والمنافسة والتصرف بالقيمة المضافة . وكيف ستتوضع المرتكزات الدستورية ، الديمقراطية والعلمانية ، التي ستدعم نمط الدولة السورية القادم .

أي أن العناوين الأساسية المطلوب بحثها في مثل هذه الحوارات والمؤتمرات المتعلقة بسورية الغد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، التي يطالب بها الحميع ، حسب الزعم المعلن ، قد أسقط من الحساب . وهذا ما أضعف نتاج المتحاورين والمؤتمرين ، ومدد في آجال نهاية الأزمة ، وشتت الجماهير الغاضبة ، وعوق الاصطفافات السياسية الصحيحة ، وطرح موضوعياً ضرورة قيام معارضة في المعارضة ، و معارضة داخل أهل الحكم ، لصياغة غد سوري وفق العناوين الأساسية المستحقة في المشهد السوري .. معارضة تلتزم قولاً وفعلاً بإلغاء حصرية الحكم بحزب أو تكتل سياسي وتنشد دستوراً ديمقراطياً علمانياً يكفل الحرية والتعددية .. وتلتزم بالوحدة الوطنية ، ونبذ استخدام السلاح في الاشتباكات السياسية ، ورفض التدخل الخارجي بكل أنواعه وأشكاله ، وتحرير الجولان ، وانتهاج سياسة رفض الهيمنة الخارجية الإقليمية والدولية ، وتلتزم بالديمقراطية والتعددية السياسية المتاحة للجميع ، دون اجتثاث أو استبعاد لأحد ، والاحتكام لصناديق الاقتراع في تحديد من سيتولى إدارة الدولة ، وبناء اقتصاد وطني يكون فيه القطاع العام الإنتاجي والخدمي القاعدة الأساس لتوجيه الاقتصاد ، لبناء دولة قوية قادرة على مواجهة مؤامرات ومخططات الهيمنة الخارجية ، ولدعم متطلبات العدالة الاجتماعية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى