مراجعات كتب

العنف وإشكالياته عند حنّه أرندت/ مراجعة: د. ريتا فرج

 

 

 

[ الكتاب: في العنف

[ الكاتبة: حنّه أرندت

[ ترجمة: ابراهيم العريس

[ الناشر: دار الساقي، بيروت 2015

تُعد الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنة أرندت (1906 – 1975) أبرز منظرة سياسية ورائدة ومن رواد علم الاجتماع السياسي. اشتهرت في أعمالها عن التوتاليتارية والحداثة والسلطة والعنف والثورة والديموقراطية. ارتبطت فكرياً وعاطفياً بالفيلسوف الألماني مارتن هيديغر. ونالت شهادة الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف كارل ياسبرز من جامعة هايدلبرغ الألمانية.

يعتبر كتابها «في العنف» الصادر بالإنكليزية عام (1970) من أهم التنظيرات السياسية الفلسفية التي تناولت العنف وقضاياه. وقد أرست مفاهيم وخلاصات جديدة تغاير النظريات الكلاسيكية التي تطرقت إلى هذا الموضوع الحيوي الملازم للتاريخ البشري. يتقاطع الكتاب في طبعته العربية الثانية مع انعطافات تاريخية كبرى يشهدها العالم العربي، يسيطر عليها الطابع العنفي الذي يبرز ضمن مؤشرين: العنف الناتج عن حركات الاحتجاج وانبثاق العنف السلطوي.

تناقش أرندت متعلقات العنف ومجالاته في سياق العلاقات الدولية والسلطة السياسية والمجتمع والكائن الإنساني. وإذ تشدد على أهمية الدور العظيم الذي لعبه العنف في شؤون البشر، تنتقد الآراء التي أرساها بعض علماء الغرب وفلاسفته لا سيما الاتجاه الماركسي الذي عرّف العنف بكونه مسرعاً في عملية التنمية السياسية كما خلص أنجلز. وتدرس رؤية كارل ماركس الذي أدرك دور العنف في التاريخ، لكنه كان يعتبره دوراً ثانوياً: فليس العنف ما يقود المجتمع القديم إلى الزوال، بل التناقضات داخل ذلك المجتمع.

تجادل صاحبة «أسس التوتاليتارية» المفكر الثوري الاشتراكي الفرنسي جورج سوريل (1847 -1922) منظِّر مذهب النقابية الثورية والاضراب العام وواضع كتاب «تأملات حول العنف» (1908). وترى أن جهوده التي انصبت حول الخلط بين الماركسية وفلسفة برغسون الحياتية والنظر إلى الصراع الطبقي عبر رؤية عسكرية واعتبار الإضراب العام أقصى درجات من درجات العنف، أسبغت عليه سمعة تضعه في خانة الفاشيين.

تعكف أرندت على دراسة التمرد الطالبي وتجلياته التاريخية وتمظهراته العنفية التي تبدت مع ظهور حركة القوة السوداء في الجامعات الأميركية. وتنتقد ما تسميه «التمجيد الجديد» للعنف من قبل الحركة الطالبية التي استمدت محاججاتها النظرية من كتابات فرانز فانون (1925 – 1961). تساجل بشكل عام مواقف «اليسار الجديد» تجاه السلطة وصراع الطبقات والبروليتاريا. كما أنها تتناول النظريات الفلسفية التي قاربت جدلية التقدم والعنف والثورات الآيلة إلى إحداث القطعيات مع الماضي.

تعتبر صاحبة «أزمات الجمهورية» أن العنف في أساسه نقيض السلطة، وأنهما حين يتصادمان يكون النصر دائماً للأول. تبني فرضيتها هذه بعد طرح النقاشات التي درست ظاهرة السلطة لدى المنظرين السياسيين، أكانوا من اليسار أو من اليمين، حيث نظروا إلى العنف باعتباره لا شيء أكثر من التجلي الأكثر بروزاً للسلطة. تستحضر منظور الفكر السياسي التقليدي في هذا المجال الذي انبثق من التصور العتيق للسلطة المطلقة، ذلك التصور الذي واكب صعود سلطة الأمة – الدولة الأوروبية والتي تمثلت بشكلها الأكثر حضوراً عند توماس هوبس وجان بودان. وإذا كانت التنظيرات السياسية التي دمجت بين السلطة والعنف شكلت رافداً نقدياً لدى أرندت، فهي في المقابل لا تتوانى عن دحض العلاقة وثيقة الصلة والتبادلية بين إرادة السيطرة ورغبة الخضوع التي وضعها ستيوارت ميل.

تميز أرندت بين مصطلحات: السلطة والقدرة والقوة والسيطرة والعنف لتأكيد التمايز والاختلاف بينها. وترى أن التسلط والسلطة والعنف ليسوا شيئاً واحداً. إلى ذلك تسجل أكثر من نقطة مفارقة للنظريات السياسية التي نظرت للثورات بداية القرن العشرين. فتخرج بخلاصتين: الأولى: انتفاء الرابط بين انفجار الثورات وامتلاك الدول القدرات التدميرية للأسلحة التي تشكل مانعاً لقيام الاحتجاجات الشعبية؛ والثاني: تفتت السلطة يؤدي إلى نشوب الثورة أمر ممكن، ولكن هذه النتيجة ليست حتمية. حتى أكثر الأنظمة السياسية استبدادية عندها لا توطد سلطتها على أساس أدوات العنف وحدها، على اعتبار السلطة والعنف ظاهرتين متمايزتين على الرغم أنهما غالباً ما يظهران معاً.

بعد تحليل معمّق لإشكالية السلطة والعنف على قاعدة التمايز بينهما تقول أرندت في نهاية نقاشها: «من الناحية السياسية لا يكفي القول إن السلطة والعنف ليسا شيئاً واحداً. فالسلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكماً مطلقاً يكون الآخر غائباً. والعنف يظهر حين تكون السلطة مهددة، لكنه إن تُرك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة. ويترتب على هذا أنه من غير الصحيح التفكير باللاعنف بوصفه نقيض العنف؛ والحديث عن سلطة لا عنفية هراء لا معنى له. إن بإمكان العنف أن يدمر السلطة لكنه بالضرورة عاجز عن خلقها».

تنتقل أرندت إلى مستوى آخر من التحليل حين تستحضر خلاصات علماء البيولوجيا والطبيعة حول العدوانية الماثلة في طبيعة السلوك البشري. تحاجج «قائلة بأن العنف ليس حيوانياً ولا هو عمل لا عقلاني». وتلفت إلى أن غياب العنف والغضب مؤشر واضح على انتزاع الإنسانية من الإنسان. لا ينحصر سجالها الشاق في البعد أو التجربة الفردية/ الإنسانية بل يصل إلى مستويات سياسية ترتبط بالجموع والثورات وقوى الانتاج الاقتصادي والبورجوازية والتظاهرات. فتناقش في هذا السياق طروحات عالم الاجتماع والاقتصادي الإيطالي فيلفريدو باريتو وسوريل وفانون.

قدم الكتاب مقاربة جديدة في الموضوعات التي طرحها. تميّزت أفكاره بالكثافة والعمق والرصانة العلمية والسجال مع النظريات التي عالجت أشد الظواهر البشرية تعقيداً. سيبقى من أهم الكتب التي درست إشكاليات العنف وتمثلاته في المجتمع والسلطة والسياسة.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى