صفحات الرأي

العنف والتسامح… والوعي العربي/ أحمد مفلح

 

 

هناك سؤال إشكالي عند المثقفين والمفكرين العرب، وحتى عند عامة الناس: إذا كان التسامح، كما يُشاع، من طبيعة الدين الإسلامي وجوهره، فلماذا نرى العنف سيد الأحكام والسلوك وآليات الحلول والاختلاف في المجتمعات العربية؟ بمعنى آخر، يدّعي بعضهم، وفي هذا خلاف، أن التسامح موجود في تراثنا العربي، وهناك آيات قرآنية وأحاديث نبوية تشير إليه، من دون أن تذكر كلمة تسامح، وهناك عنف دموي أيضًا في تراثنا، فلماذا تمسّكنا بالعنف وابتعدنا عن التسامح؟

قبل الإجابة، أو محاولة الإجابة وإبداء الرأي، نتوقف قليلاً عند مسألتين، ربما أشكلتا الإشكالية الأولى، وزادتا من صعوبتها: الأولى، ماذا نقصد بالتسامح؟ هل هو العفو عند المقدرة كما يفهمه بعضهم، أم التنازل عن الحقوق والرأي والعقائد كرمى الغير؟ والثانية هل هناك تسامح في تراثنا العربي أصلاً؟ فعلى الرغم من أن هذه الكلمة، بمعناها ودلالتها السائدة اليوم (كما سنحاول شرحها) غير مستعملة في القرآن، لكن دلالتها (بالمعنى المستخدمة به اليوم موجودة).

بالنسبة إلى معنى التسامح، كثرت تعريفاته أخيراً، وباختصار يعني اصطلاحاً (لا بالمعنى اللغوي) تآلف الحق والواجب، حق الفرد والجماعة في الاختلاف، وواجب الفرد والجماعة في احترام حق الآخر في الاختلاف. والمتسامح هو من يقبل وجود طرائق تفكير وحياة مختلفة عند الآخر، عما لديه هو. وبحسب منظمة اليونيسكو (نوفمبر/تشرين الثاني 1995) هو احترام وقبول التنوع والاختلاف، عبر الانفتاح والمعرفة وحرية الفكر والضمير والمعتقدات. والتسامح ليس أخلاقيا فقط، بل سياسي وقانوني، وهو فضيلة تساهم في إحلال ثقافة السلم محل ثقافة الحرب. ولا يعني التساهل والتنازل، بل اتخاذ موقف إيجابي يُقرّ بحق الآخر في التمتع بحقوقه، وهو ممارسةٌ يجب على الدول والجماعات والأفراد الأخذ به. ومسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية، بما فيها التعددية الثقافية والديمقراطية وحكم القانون. وينطوي التسامح على نبذ الاستبداد والدوغمائية، ويثبت المعايير التي تنصب عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. ولا يعني قبول الظلم الاجتماعي، أو تخلي الفرد عن معتقداته والتهاون بها، بل يعني تمسكه بمعتقداته، وقبوله تمسك الآخرين بمعتقداتهم، وهو إقرار بحق الفرد في العيش بسلام”.

هل مثل هذا السلوك موجود في تراثنا، مع العلم أنه وجد في أواسط القرن السابع عشر في أوروبا، بعد الحروب الدينية العنيفة (فكرة التسامح ارتبطت، أصلاً، بالمسألة الدينية، ثم تحوّلت باعتبارها ركيزة الليبرالية)، وتأخر حتى أواسط القرن التاسع عشر في الخطاب العربي، وانتشر في أواسط القرن العشرين، ليعمم من المنظمة الدولية (يونيسكو) في بداية القرن الواحد والعشرين.

بحسب سمير خليل، في كتاب (التسامح بين شرق وغرب)، يبدو هذا التسامح غائباً عند اللغة العربية، وبالتالي، غائباً غياباً طبيعياً عن أنماط التفكير كلها التي تعمل عبر هذه اللغة. وقد اختلفت الآراء في شأن هذا الموضوع، فالباحث إبراهيم أعراب في بحثه عن “التراث وسؤال التسامح: أركون والجابري وأومليل”، توصّل إلى أن محمد أركون يعتبر أن الإسلامي لم يعرفه تاريخياً، فيما محمد عابد الجابري يسعى إلى تأصيل هذا المفهوم، وتبيئته في التراث العربي، لضرورته اليوم، وسيجد ضالّته في مفهومَيْ الاجتهاد والعدل. أما علي أومليل، فيرى أنَّ التراث العربي الإسلامي، في الماضي، لم يعرف تجربة التسامح والقبول بالرأي الآخر، من دون أن ينكر أنَّ هناك حالات قليلة، طبعها الانقطاع، وأنتجت مناظرات أغنت الفكر العربي. بمعنى أن عدم معرفة الأسلاف، في الماضي البعيد والقريب، مفاهيم الحداثة والحرّية والتسامح والديمقراطية وحقوق الإنسان، لا يمنع من تأصيلها ثقافياً في تراثنا. وأومليل يقف، هنا، في الوسط بين أركون والجابري. لكن، يبقى السؤال: هل تراثنا كان مساعداً أم عائقاً في تكوّن عقلية قابلة بشرعيّة الاختلاف والتسامح؟ إلى الآن، لا جواب شافياً، كما لا وجود لتعريف عربي جامع ومعمم لمفهوم ومصطلح التسامح، لهذا اعتبرنا ما تقدم إشكاليات، إشكالية تعريف ومعنى التسامح، ووروده في خطابنا وقاموسنا اللغوي وفي تراثنا، لينعكس التسامح في ثقافتنا، ومن ثم في سلوكنا ووعينا. ومن خلال هذا الوعي والسلوك، يمكن الإجابة أو التصدي أو تصحيح مسار الإشكالية الأساس التي طرحناها في بداية حديثنا، إشكالية لماذا العنف وليس التسامح؟

إضافة إلى ندرة التسامح لغوياً، وفي الخطاب (التعريف) وفي التراث (تربوياً وتنشئة وثقافة)، ومع انتشار هذا المصطلح اليوم عالمياً مع الانفتاح العالمي، هناك عوامل أخرى، يمكن مناقشتها تحول دون هضم هذا المصطلح واستيعابه، وإعادة إنتاجه في لغتنا وفكرنا وسلوكنا، ما يترك الأمر لنقيضه، أي العنف، ليس لأن الإنسان، بطبعه، ميّال للعنف والأذى والسلبية، بل لأنه تربّى ونشأ اجتماعياً ضمن دائرة، أو في قالب مجتمعي، يستهلك ثقافة ولا ينتجها، أو “يجتر” عاداته وتقاليده من غير تطوير. فالمجتمع يربي الطفل من خلال الأهل والمدرسة والشارع والإعلام، ويسقط عليه العادات والتقاليد، وربما السلوك نفسه، وإن حاول الخروج على هذه التربية الصارمة، بصعوبة طبعًا، يلفظه هذا المجتمع، أو يعاقبه ويلغيه، وهذا بداية العنف مع الفرد، العنف المادي المحسوس، أو العنف الرمزي الإيحائي لمن يتمنى الخروج، ويؤمن بضرورته، لكنه لا يبادر أو يتجرأ، خوفاً من العقوبة المجتمعية أو الأسرية أو الدينية… وغيرها. وهذا ما سماه فولتير: التعصب، واعتبره مرضاً متجذراً في أعماق الشعب (الفرنسي)، وفي أعماق عائلته وطائفته. والحرية، كما يقول جون لوك، هي ألا يتعرّض المرء للتقييد والعنف من الآخرين، فمن دون حرية لا وجود للتسامح، وغياب التسامح يعني العنف.

تتعدد الآراء والتحليلات في شأن الإجابة عن إشكاليتنا الأساس: لماذا العنف وليس التسامح سيد وعينا العربي؟ من الباحثين من يذهب إلى أنها نتيجة الازدواجية، أو الازدواجيات التي يغرق فيها فكرنا، من ازدواجية القيم المادية التي تغزونا مع ثورة الاتصالات والمعلوماتية والانفتاح الكوني والعوالم الافتراضية والتقدم العلمي والمناهج الاستشرافية والمستقبلية؛ والروحية حبيسة الماضي والأساطير والنصوص والقدرية. وازدواجية التراث والحداثة، والأنا والآخر، والعولمة والهوية، والقبلية الضيقة والمواطنة والعالمية. ازدواجيات أدّت إلى الانغلاق والتقوقع على الذات والدوغمائية التي انعكست عنفاً، من منطلق من ليس معي ومثلي فهو ضدي، وعلى إلغائه وقتله، باعتباره آخر يريد إلغائي، فسقط شعور الإخاء الإنساني، وسقط معه التسامح. ومثل هكذا سلوك وفكر، لا يمكن أن يعكس وعياً تسامحياً، لا بل سينتج عنفاً بالتأكيد.

“العنف الذي يمارسه الفرد العربي ما هو إلا استجابة طبيعية لعنف تربوي، يعيد إنتاج ‏نفسه على نحو ‏شعوري تارة، ولا شعوريا في أغلب الأحيان”

وهناك من يُرجع أسباب هذه الإشكالية إلى غياب النخبة التي عليها إنتاج الفكر المنفتح، ونقول ربما انحسر دور المثقفين والمتنورين لحساب الفقهاء ورجال الدين والانتهازيين ورجال السلطات. لكن، في الوقت نفسه، لا ننسى أن المثقف وحده من دون بيئة حاضنة لا شيء، وأين مثل هذه البيئة الحاضنة في مجتمع أمي (بمعنى معرفة القراءة والكتابة والأمية المعرفية والثقافية)؟ ماذا يصنع المثقف مع أنظمة تربوية متخلفة وتلقينية، وأساليب تربوية عنفية مادياً ورمزياً، يطغى عليها أيديولوجيا النظام الحاكم، وتقليدية المجتمع وانغلاقه؟ وماذا يفعل منتج الأفكار مع مجتمع جائع، في ظل تنميةٍ في أدنى مستوياتها، وطبقية مقيتة بين قلةٍ تملك كل شيء، وكثرة لا تملك شيئاً، وغياب الطبقة الوسطى التي تعتبر محرك الثورات والمجتمعات؟ لا ندافع عن المثقفين، أو النخب التي إما انكمشت على نفسها، أو هادنت الأنظمة، أو هجرت مجتمعها. لكن، ليس بالمثقف وحده تتغير المجتمعات.

الأهم من ذلك كله في تعزيز العنف على حساب التسامح، هو أنماط الحكم والاستبداد الذي تعيشه مجتمعاتنا، هذه الأنظمة التي أسقطت إنسانية الإنسان العربي، وعزة نفسه، وعنفوانه وكرامته، وقتلت حلمه ومستقبله، وأنسته ماضيه، وإن تركته يعيش الماضي الذي رسمته هي بنصوص دينية، وحداثة استقدمتها هي، وفصّلتها على مقياسها. فالعربي يتعرف على الحداثة والتحديث الذي يستورده النظام، ولا يبدعه الإنسان العربي، ويتعرف عليه من مصادره ومناهجه الطبيعية، فمات عند الإبداع، وتحول إلى ناقم وتائه في دنيا الأساطير والغيبيات.

وقتلت هذه الأنظمة حس المواطنة، فارتدّ كل عربي إلى أسرته، أو قبيلته، أو طائفته، يحميه زعيمها أو متنفذها، لأن لا قانون عادلاً يساوي بين الناس، والقانون للقوي والمدعوم. المواطنة العربية ليست فردية، يشعر كل مواطن بحقوقه وواجباته وانتمائه لوطن، بل مواطنة أسر وقبائل وطوائف، الفرد فيها لا شيء، يعيش مع قبيلته (أو أسرته أو طائفته) ويموت معها، فالإنسان العربي لا شيء، مجرد رقم، أو صوت انتخابي، يستخدم عند كل مبايعة، أو عندما يحتاج إليه الحاكم، ويقتله مادياً وافتراضياً ورمزياً متى شاء.

هكذا تربى المواطن العربي تربية عنفية بكل مظاهر العنف. ومن المعروف أن كل عنف وعدوان هو، في نهاية الأمر، ردات أفعال ضد عنف آخر. فالعنف الذي يمارسه الفرد العربي ما هو إلا استجابة طبيعية لعنف تربوي، يعيد إنتاج ‏نفسه على نحو ‏شعوري تارة، ولا شعوريا في أغلب الأحيان، ومهما يكن نوع هذا العنف وطبيعته، ‏شعورياً أو لا شعورياً، إرادياً أم عفوياً، ‏فإن ذلك لا يغير شيئاً في حقيقة التأثير المدمر للعنف ‏في مجال الحياة الإنسانية، كما يقول الباحث علي أسعد وطفة.

في النهاية، هكذا واقع سينتج هكذا وعي، حياة ملؤها القمع والعنف والاستبداد وغياب الحريات والإبداع والتنمية والرفاهية والعقلانية والعلم والراحة والاحترام والإنسانية… ستفرز عنفاً ولا تسامحاً بالتأكيد، والإشكالية الغريبة التي لا تصدق لو أنتجت وعياً تسامحياً، لأن عندها سيكون في الأمر شيء غير طبيعي، والنتيجة بسيطة: نريد تسامحاً، إذاً علينا تغيير الواقع. والتغيير لا يكون بخراب الأوطان والتدمير، بل برؤية مدروسة وخطة مستقبلية تحفظ البشر والوطن.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى