صفحات الرأي

العنف والتطرّف عندما يعكسان الأمان المفقود/ إبراهيم غرايبة

 

 

أظهرت الصراعات السياسية الداخلية والخارجية، في سنواتها الأخيرة، ارتباطاً واضحاً بين الانتماءات الطائفية والجغرافية والاتجاهات الفكرية العامة والانحيازات والاتجاهات والمواقف السياسية والفكرية من الأحداث والدول، إلى درجة أنه بات متقبلاً وشائعاً القول بردّ الصراعات إلى المخاوف والمشاعر المتعلقة بالانتماءات الطائفية أو الإثنية أكثر من تفسيرها بالتطرّف الديني أو القومي، فلم يكن التطرّف الديني سوى عنوان للهوية الحقيقية المنشئة للصراع والمخاوف. صحيحٌ، بالطبع، أن التطرّف الديني كان محرّكاً أساسياً في الحشد والقتال والتطوع والتأييد والمعارضة، ولكن لم يكن ممكناً حشد هؤلاء المتطرّفين أو بناء روايةٍ متماسكةٍ للمواجهة والصراع من غير قضيةٍ تنشئ الاتجاهات الاجتماعية أو الطائفية، والشعور بالخوف والتهديد والتهميش والإقصاء لدى فئاتٍ محدّدة في الدول والمجتمعات، هي حروبٌ وصراعاتٌ يمكن وصفها أنها بامتياز حروب الخائفين والمهمشين والهامشيين. وسواء كانت مخاوف أو مشاعر صحيحة أو خاطئة، وسواء كان الصراع، بما هو تمرّد على الأوضاع القائمة، لأجل قضايا عادلة أو غير عادلة، أو كان سلوكاً سليماً أو مضراً بأصحابه وبالدول والمجتمعات، فإن المواجهة مع التطرّف وتسوية الصراعات سوف تظل مرتبطةً أساساً بتحقيق المساواة والإنصاف لجميع المواطنين، على مختلف فئاتهم وانتماءاتهم الطائفية أو الإثنية، أو حلولاً ومشروعاتٍ تمنح لجميع الناس الأمان والرضا وفرصاً للازدهار وتحسين الحياة.

الخوف بما هو سلوك غريزي أو بدائي؛ واقعي أو متخيل؛ يمثل محركاً أساسياً للأفراد والمجتمعات، ويؤدي، في أحيان، إلى تحسين الحياة وبناء عقد اجتماعي، يضمن الأمان والمساواة، كما يؤدي، في أحيان أخرى، إلى الانهيار والصراع. ولكن، يبقى مهماً وأساسياً في تنظيم الدول والمجتمعات التعامل مع الخوف وإدارته على النحو الذي يزيله ولا يغذّيه، ويهدئه ولا يثيره. وقد وجدت أنظمةٌ سياسيةٌ كثيرةٌ في الخوف دافعاً أساسياً لضمان الولاء أو القبول ومنع المعارضة أو التمرّد، لكنها سياسة، وإن نجحت فترة، فقد أدت إلى الانهيار والانقسام الاجتماعي، ولم يعد متقبلاً في التحولات التكنولوجية، وما صحبها من تحولات اجتماعية واقتصادية أن تستمر الأنظمة السياسية في إدارتها الدول والمجتمعات، على النحو التسلطي والقهري الذي ساد فترة طويلة، وأن تكون هذه السياسة قد نجحت، في فترة ماضية، لا يعني أنها قابلةٌ للاستمرار بالنجاح نفسه.

ليس مهماً أو مفيداً في شيء مناقشة المخاوف التي تلح على فئاتٍ من المواطنين في دول ومجتمعات عربية عدة، فالشعور بالاستهداف أو التمييز لا يخفّف من حدّته وإلحاحه مناقشته بالأدلة والحجج والإحصاءات الصحيحة، لأنها لن تكون مقنعةً إلا في بيئةٍ من الحريات والشعور بالمساواة والأمن. وفي ظل نظام اقتصادي واجتماعي يتيح للمواطنين فرصاً في التنافس والمبادرة والمغامرة لأجل حياتهم وأسرهم وبلادهم، وإذا لم تكن منظومة الثقة هذه راسخةً في شعور المواطنين، فلن يكون في مقدورهم العمل أو الاستثمار أو المشاركة، كما أن سلوكهم السياسي والاجتماعي، منظورهم للأحداث والعالم من حولهم كما رؤيتهم لأنفسهم ومستقبلهم، سوف يظل محكوماً بالخوف وعدم الثقة والرغبة في الانسحاب أو الهجرة أو التمرّد والعصيان!

وفي النظر إلى العنف السائد في أقاليم ودول عربية، أو في عمليات العنف التي استهدفت دولاً ومجتمعاتٍ وأنظمةً سياسيةً حول العالم، يمكن ملاحظة رسائل الخوف والتهديد لدى جماعات

“فئة واسعة من المجتمعات لا تجد نفسها في الصراع بين فسطاطي الهيمنة والاحتكار أو الإسلام السياسي والعنف والتطرّف” العنف والتطرف، بما هي تنظيمات وجماعات، أو فئات اجتماعية أو طائفية، فهي تؤكد دائماً على أننا (الجماعات العنفية أو المتمرّدة أو المهمشة) أقوى مما تظنون، وأننا قادرون على الردّ والدفاع عن أنفسنا وحقوقنا ومعتقداتنا، وأن هذه الوسائل، وإن كانت تبدو مدمرة، أو غير قانونية، أو غير أخلاقية، هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل العالم والأنظمة السياسية تفكّر جدياً في مطالبنا، أو أننا لا نملك بديلاً توافقون عليه، أو يناسبكم للضغط والتأثير، فلم تتركوا لنا مجالاً سوى الإرهاب، وأنكم غير قادرين على تغييرنا أو إقناعنا بأفكاركم وسياساتكم.

وبطبيعة الحال، لن يخرج الردّ على الإرهابيين والخارجين على الدول والقوانين والمحاربين بيأس عن هذه الرسائل الثلاث، لكنه ليس الردّ التلقائي المتبع في القهر والتأكيد على القوة والإخضاع، وإنما في دفعهم وإقناعهم بأنهم يملكون فرصةً للاندماج والمشاركة والشعور بالأمن والرضا والعدل.

تقول أستاذة علم النفس والأعصاب في جامعة أكسفورد، كاثلين تايلور، إن الإرهابيين يعملون وفق الافتراض أنهم هم، وأعداؤهم، قادرون على السلوك العقلاني. وعموماً هم ليسوا مرضى نفسيين، وهم ليسوا أيضاً يعانون خللاً عقلياً، وإن كانوا فهم لا يعانونه فترة طويلة، إذ إن الترتيب والإعداد للجرائم الفظيعة لا يوحد بصورة سلسة مع الضلال والهلوسة وسوء التخيل.

وبالطبع، لا يدافع الكاتب عن جماعات العنف والتطرّف. ولكن، يجب القول إن فئة واسعة من المجتمعات لا تجد نفسها في الصراع القائم بين فسطاطي الهيمنة والاحتكار أو الإسلام السياسي والعنف والتطرّف، وأن الفسطاطين متفقان، أو متواطئان على نحو ما، على أن الديموقراطية مثل زائدةٍ دوديةٍ يجب استئصالها، فالنخب والجماعات العنفية والدينية تجدها خطراً على مصالحها، والمجتمعات لا تربط بها مصالحها وأولوياتها. ما حدث أن الديمقراطية في مستواها القائم لم تصلح شيئاً، والأوليغارشيا لم تشعر بالأمان.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى