صفحات الرأي

العولمة المتباطئة بين الانعزالية الحمائية وتعميق حقوق السيادة والضمانات الاجتماعية البيئية/ ماري دي فيرجيس

 

 

 

«هيلاري كلينتون ترى ان سياسة دونالد ترامب ستشغل حرباً تجارية، ولكن ما لا تدركه هو ان هذه الحرب اندلعت منذ بعض الوقت»، علق دان ديميكو، مدير «نوكور»، الشركة المنجمية الأميركية، في تموز (يوليو) الماضي على مواقف المرشحين البارزين الى الانتخابات الرئاسية. وكان دان ديميكو يقصد بنقده «تلاعب» شركاء الولايات المتحدة التجاريين، وأولهم الصين،ببنود الاتفاقات الدولية وإجراءاتها. والرجل، منذ اشهر، هو مستشار الرئيس الأميركي الجديد لشؤون التجارة، وما خلص اليه أن ثمة «حرباً». وهو لا يعني بالحرب القصف المدفعي المتبادل بل المواجهة بين دول تتوسل باحتياط قانوني كبير ينظم التعرفات الجمركية، والحصص المستوردة، والإجراءات التقنية، ودعم الصادرات، الى احراز «الانتصارات» وتفادي «الهزائم». ومنذ انتخاب الجمهوري ترامب، في 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، ذاعت كلمة السر، وأعلنت وشك اندلاع الحرب التجارية. فالخبراء الذين يتحلقون حول الرئيس الجديد يدرسون ترجمة تهديده الصين والمكسيك بإجراءات جمركية عقابية، ويلوحون بمفاوضات جديدة، وبإلغاء اتفاقيات تجارية كبيرة. ولا يتهيب بعضهم الإنذار بالخروج من منظمة التجارة العالمية التي تتولى منذ 1995 التحكيم في المبادلات التجارية الدولية… ولا يعلم أحد بدقة ما المدى الذي قد تبلغه إعادة النظر المزمعة. فتصريحاته، بعد فوزه، يخالف اعتدالها وإمساكها شطط سابقاتها في اثناء الحملة الانتخابية. فالرئيس المنتخب وعد بمعاملة الجميع «معاملة منصفة» ولكنه تمسك، في الحالين، بسياسة انعزالية. «قد تطوي هذه السياسة نظام التعاون القائم على التزامات متبادلة بين دول تتمتع بالسيادة، وإذا امتنعت الدول الرائدة من ريادة الانفتاح، ضعف نظام التعاون الدولي»، يتوقع سيباستيان جان، المختص بالعلاقات التجارية ومدير مركز البحوث المستقبلية والإعلامية الدولية (Capii).

والقبول الواسع بسياسة اقتصادية قومية، على ما يُرى في انتخاب ترامب، ليس إلا رمزاً من مجموعة رموز في زمن يشهد تضعضع العولمة تضعضعاً غير مسبوق. فالنازع الى الانكفاء، يعم الكوكب. وحكومات مجموعة العشرين (G20) اتخذت 350 اجراءً تمييزياً في حق شركائها التجاريين، في نصف السنة الأول من 2016، أي 4 اضعاف مثيلها في النصف الأول من 2009! وتشكو المفاوضات التجارية مساعي العرقلة التي تجبهها، على ما حصل في حال معاهدة «سيتا» بين الاتحاد الأوروبي وبين كندا، وكادت تحفظات الوالونيين (البلجيكيين الفرنسيي اللغة) أن تودي بالمعاهدة. وترفض فرنسا خطط الشراكة عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي وبين الولايات المتحدة. وأثارت المفاوضات في ألمانيا، وهي في صدارة الدول التي عاد عليها توسع المبادلات بفوائد لا تثمن، تظاهرات ضخمة. ويختصر ألكسندر دوليتي، استاذ الاقتصاد في جامعة ليل الأولى، البريكزيت بأنه «طعن في منطقة التبادل الحر الأوروبية، وفي مضمونها السياسي». فهل يعني هذا اننا نشهد طي صفحة من تاريخ العلاقات الاقتصادية الدولية؟ وهل هو ابتداء مرحلة العودة عن العولمة، أو تصفيتها؟ ما ينبغي الإقلاع عن اعتقاده هو استحالة العودة عن التبادل الحر، فالتاريخ دليل على امكان الرجوع الى الخلف، ينبه ليونيل فونتانييه، الأستاذ في جامعة باريس الأولى بانتيون – سوربون.

والحجة على هذا الإمكان هي مصير العولمة الأولى في اواخر القرن التاسع عشر، وكان سندها نمو السكة الحديد وتعاظم النقل البحري والاندماج المالي على المستوى الدولي. وآذنت الحرب العالمية الأولى بنهاية المرحلة الجديدة وصرمها. وبلغ الانكفاء القومي ذروته في بداية الركود العظيم، مع قانون سموت – هاولي الأميركي، في حزيران (يونيو) 1930. ونص القانون على زيادة التعرفة الجمركية على الواردات من 20 ألف سلعة. فأعقبته ردود عقابية أدت إلى تقليل قيمة التجارة الدولية الى الثلث طوال الثلاثينات. ولم تبلغ العولمة – وتقاس بحمل التجارة العالمية على الناتج الداخلي الإجمالي العالمي- مستواها في 1913 إلا في 1973، سنة الصدمة النفطية الأولى، اي بعد 60 عاماً…

ويبدو اليوم ان وهن المبادلات الدولية يؤيد حجة دعاة العودة عن العولمة. فمنذ 2012 تشهد التجارة العالمية تباطؤاً ملحوظاً. وتقدر منظمة التجارة العالمية نمو حجم هذه التجارة في العام الحالي بـ1.7 في المئة. ولأول مرة منذ 30 سنة، إذا استثنيت سنوات الأزمة المالية، يتأخر نمو التجارة العالمية عن النمو الاقتصادي العالمي الذي يقدر بـ2.2 الى 3 في المئة، في 2016. ففي العقدين الماضيين اللذين سبقا الأزمة نمت التجارة الدولية ضعفي نمو الناتج الداخلي. وعوامل التباطؤ ظرفية في المرتبة الأولى، ومنها ضمور المبادلات بين الدول الأوروبية نتيجة هزال نشاطها الاقتصادي، وتقلص الاستثمارات الذي يسم استئناف النمو بالعلو والهبوط الحادين. ويلاحظ لوديفيك سوبران، مدير الفريق الاقتصادي في أولير- هرميس للتأمين والتسليف، أن ثمة «تكيفات بنيوية تدعو الى التشكيك في مصير العوملة وصورتها المعهودة».

وقد يكون تراخي «صُنع في العالم» ولهاثه هو القرينة الأوضح على حال العولمة. فمنذ الثمانينات تسارعت وتيرة اندماج الشركات والدول تسارعاً محموماً. وأدت الهيئات المالية والتجارية دور الوسيط. وجزئت خطوط الإنتاج، وتولت الشركات المتعددة الجنسيات تفتيت إنتاج السلع فتاتاً، على مقتضى تقليص التكلفة وتوزيع أجزاء السلع على البلدان ذات التكلفة الرخيصة. وإنتاج أبل مرآة الإنتاج المعولم. وذلك ان 90 في المئة من مكونات الإنتاجين صنعت خارج الولايات المتحدة، بين الصين وألمانيا مروراً بروسيا. وهذا التجزيء الذي كان السبب الأول في تعاظم المبادلات يوشك على نفاد دوره وبلوغ حده. فالفرق بين الأجور يتقلص، والشركات المتعددة الجنسيات تنتبه الى ان تجزيء خطوط الإنتاج لم يعد مجزياً. ونجم عنه تضخم تكلفة النقل، وابتعاد مفرط من المستهلك، وفوضى في ادارة التنسيق بين الوحدات المبعثرة. ويلاحظ الموهوب موحود، الأستاذ في جامعة باريس- دوفين، حركة تنقيل معاكسة، ترجع بعض حلقات الإنتاج الى البلد المصدر أو الأم، كما يلاحظ تباطؤ حركة التنقيل من فرنسا وألمانيا وأميركا.

ويرى ليونيل فونتانييه أن العولمة المحمومة كانت شواذاً تاريخياً تضافرت عوامل ظرفية على استوائه وتوليده. ومنها سعر الطاقة المتدني، ونمو صناعة الحاويات البحرية، وإنجازات تكنولوجيات الإعلام والتواصل، وتخفيض رسوم الجمرك. وتجزيء خطوط الإنتاج هو ثمرة هذه العوامل. وهي تبلغ اليوم نهاية مرحلة وبداية أخرى، وبين المرحلتين استراحة. ولا يرى باسكال لامي، المدير السابق لمنظمة التجارة العالمية، ان الأمر يسوغ الكلام على عودة عن العولمة: «العولمة ماضية على مسيرتها، وبعض وجوهها يشهد تعاظماً لا نعرف كيف نقيسه الآن. ومن مظاهر ذلك تعاظم تدفق المعطيات المتبادلة في كل وقت. فهل تساهم هذه المعطيات في إنتاج السلع والخدمات؟ طبعاً. ورقمنة الاقتصادات تؤدي كذلك الى تعميق العولمة». والانعطاف يطاول مناقشة العولمة، على ما يرى باسكال لامي، نتيجة شيوع إحساس في المجتمعات الغربية بأن الرابحين يتعاظم ربحهم والخاسرين تتفاقم خسارتهم. فهذا الإحساس لا يفتقر إلى مسوغ.

وطوال عقدين إلى ثلاثة عقود، أبرز الرأي العام الغالب ثمرات العولمة المطمئنة والهانئة، وصوّرها في صورة أفق زاهٍ يقود الى زيادة الثروة الوطنية من طريق تخفيض سعر سلع الاستهلاك، ويخرج من الفقر بلداناً بقضها وقضيضها.

ويقدر البنك الدولي ان مؤشر الفقر المدقع في العام تقلص الى النصف بين 1990 و2010، وتقلص في الصين الى السدس. ولكن تحرير المبادلات التجارية وبروز الصين على مسرح التجارة الدولية سرعا من غير شك وتيرة التنقيل إلى البلدان ذات الأجور المتدنية، ودمرا مرافق عمل ووظائف في البلدان الصناعية. وفاقمت الروبوتية والأتمتة انكماش اليد العاملة المتوسطة التأهيل في هذه البلدان. وهذا انقطاع من الناخبين أمال كفة الميزان لمصلحة دونالد ترامب. فاقترع ناخبو «حزام الصدأ» في بنسيلفانيا وولاية ميشيغين وولاية ويسكونسين للمرشح الذي وعد بإحياء الحدود والحمائية.

وتقر فلور بيلوني، استاذة الاقتصاد في جامعة نيس صوفيا انتيبوليس، ان الاقتصادات الصناعية اصيبت فعلاً بتردٍ في مستوى بحبوحتها نتيجة التنقيل وانكماش التصنيع في بعض المناطق، وعلى الحكومات معالجة الأمر، والتفكير في انتهاج سياسات تعويضية مناسبة. ولم يغب الأمر عن صندوق النقل الدولي، داعية التبادل الحر، فغير موقفه ونبّه، غداة فوز دونالد ترامب، الى ضرورة احتساب «النتائج السلبية» المترتبة على التجارة الدولية، وتعهد استفادة «الجميع» من عوائدها، على قول جيري رايس باسم الصندوق.

ولا يقتصر الأمر على تخفيض التعرفات الجمركية، بل يتخطى مسألة التخفيض الى توحيد المعايير والمواصفات التي تؤدي الى حماية المستهلك. و»هذا أضعف من حماية المنتجين»، يقول باسكال لامي. ويتولى المجتمع المدني مهمات الرقابة، وحماية السيادة والضمانات الاجتماعية والبيئية والصحية. ويجتمع من هذه كلها مثال حياة ليس في مستطاع الطور الجديد من العولمة إهماله أو تفادي اعتباره.

* صحافية، عن «لوموند» الفرنسية، 15/11/2016،

إعداد م. ن.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى