صفحات العالم

الغوريلا في الغرفة السورية … أين هي؟


جمال أحمد خاشقجي

في أوائل الثمانينات، كنت أدرس في الولايات المتحدة ونشطت ضمن تجمع طلابي قريب من تيارات الإسلام السياسي. كانت قضيتنا الساخنة تلك الأيام «الثورة الإسلامية في سورية» والسؤال الحرج: «لمَ لا تدعم الثورة الإسلامية المنتصرة في إيران – والتي تريد تصدير ثورتها شرقاً وغرباً – ثورة نشطة أعلنت بوضوح أنها تريد بناء دولة إسلامية في سورية؟»

منذ ذلك التاريخ، تغيّرنا جميعاً، ولكن النظام السوري وإيران الثورة الإسلامية، لم يتغيرا ولا يزال التحالف بينهما صلباً عنيداً على رغم الاختلاف بين العقيدتين السياسيتين الحاكمتين في البلدين.

تغيّر «الإخوان المسلمون» الذين قادوا «الثورة الإسلامية في سورية» التي اشتعلت بمجزرةٍ في مدرسة المدفعية بمدينة حلب، ضحاياها ضباط علويّون عام 1979، نفذها ضابط سنيٌّ غاضب من توغل العلويين في الجيش، وانتهت بمجزرة أبناء مدينة حماة من السنّة عام 1982. ويبدو التغيير واضحاً على أداء «الإخوان» خلال الثورة الشعبية الجارية الآن في سورية. تخلوا عن موقع القيادة، واعترفوا أنهم ضمن نسيج معارض يشمل كافة التيارات السورية ديناً ومذهباً وسياسة، تخلوا عن فكرة الدولة الإسلامية والتي وضعوا حتى ميثاقها خلال تلك الفترة المؤلمة، وتخلوا عن الخطاب الطائفي ولم يعودوا يصفون النظام بالعلوي أو النصيري، بل انتقدوا المشايخ السوريين السلفيين المتبنين خطاباً كهذا، والذين قفزوا في عربة الثورة بعدما انطلقت. لقد كان الخطاب الطائفي هو السيد خلال تلك الفترة، ولعله كان، إضافة إلى العنف، أهم أسباب عزل «الحركة» عن الشعب. لقد بدت حينها الثورة كمواجهة بين «الإخوان» والطائفة، فبقي الشعب بعيداً عنها وإن اكتوى بنارها بين آونة وأخرى، فالاعتقال بالشبهة والقرابة كان هو السائد، فاعتقل واختفى واضطهد ولجأ إلى الخارج عشرات الآلاف.

ولكن أهم تغيير حصل هو «الوعي الجماعي» الذي اختزن كل تلك الإخفاقات، فحصّن نفسه من الاندفاع في مغامرات، هذا الوعي كان ضعيفاً في السبعينات، لم يستطع عقلاء «الإخوان» وقتها الوقوف بحزم ضد شاب غاضب اسمه مروان حديد أصر على أنه لا حل إلا بالجهاد، بل عندما رفضوه قال لهم كتابة: «إن أخرجتموني من الباب سأعود إليكم من النافذة، وأحملكم على الجهاد قسراً». فشكّل ما سماه «الطليعة المقاتلة»، ونشطت، بدأت تثخن النظام جراحاً وألماً. البعض يقول إن «الإخوان» ركبوا الموجة في النهاية، إذ توقعوا نصراً فخافوا أن يفوتهم الركب، والبعض الآخر يقول إن النظام لم يفرق بين «الطليعة» و «الإخوان» فاستهدفهم تنكيلاً واعتقالاً فاندفعوا جميعاً نحو ثورة إسلامية كارثية.

اليوم حاول الكثيرون – بما في ذلك النظام – جرّ الجماهير إلى العنف والطائفية خلال الثورة الجارية، فرفض عامة الشعب بوعي شديد الوقوع في هذا الفخ القاتل، رفضوا أيضاً التعلق بالزعامات، والأحزاب، ولم يجادلوا حول سورية المستقبل، ولا علاقاتها الخارجية، بينما ثورة السبعينات شابتها كل تلك الأعراض، «الإخوان» انقسموا بين زعامات عدة، جماعة الخارج والداخل، جماعة دمشق، الطليعة، اختلفوا حول قبول مساعدة صدام وبعث العراق، اختلفوا حول هوية الدولة القادمة.

الحركة الجارية حسمت المسألة ببساطة في خطوات محددة، إسقاط النظام، مجلس تأسيسي منتخب يضع الدستور، ثم انتخاب رئيس للجمهورية وبرلمان. تلك المجالس المنتخبة هي من سيقرر الزعامات القادمة وطبيعة الدولة، وهي من سيجيب على الأسئلة الشائكة التي يتحاشاها الجميع الآن كالطائفة وأجهزتها الأمنية ومزاياها.

هذا الوعي هو الذي أنزل عقلاً جمعياً على الجمهور السوري بترحيل هذه المسألة الطائفية التي يمكن أن تفجر الثورة الشعبية التلقائية، الجميع يعرف أنها الغوريلا الموجودة في الغرفة، يراها الجميع ولكن يتظاهرون بعدم رؤيتها، وهو ما يشرح لماذا تغير الجميع ولم تتغير إيران والنظام منذ 1980.

كانت الثورة الإيرانية في موقف الدفاع، أمام انتقادات شباب الصحوة الإسلامية الذين اعتقدوا أن الزمان زمانهم في الثمانينات، في كل الجامعات العربية بمصر والسودان وتونس والأردن، وفي الولايات المتحدة وأوروبا حيث كان الإسلاميون الشباب في عز حماستهم، كانوا يتجادلون مباشرة أو بمقالات حول السؤال اللغم: لماذا لا تُنصر ثورة إسلامية منتصرة جاءت تبشر بزمن المستضعفين ثورةً أخرى على مرمى حجر منها؟ لماذا البعث العراقي شر يجب إسقاطه، بينما البعث السوري مسكوت عنه؟

أمام مسجدنا، وزع ناشط إيراني علينا نحن الطلبة العرب صحيفة «تابلويد»، أذكر أن اسمها «جهاد البناء»، وهي غير المنظمة النشطة الآن في لبنان بنفس الاسم وتتبع «حزب الله»، وقتها لم يكن هناك حتى «حزب الله». وأنا متأكد من أنها لا تزال بين أوراقي الكثيرة، ومن المفيد إعادة نشر تحليل استغرق صفحتين يجيب على السؤال المشار إليه آنفاً، لكي نفهم كيف تبلورت العلاقة الإيرانية السورية مبكراً. كان عمر الثورة وقتها عاماً ونيف، ولكنه كان وقتاً كافياً لتحديد حلفائها وأعدائها. التحليل أجاب وفق ما أذكر بوضوح أن «الإخوان» الذين يقودون الحركة في سورية ليسوا من الحلفاء الموثوق بهم، تحدث عن علاقاتهم «المشبوهة» بالسعودية والعراق والغرب، وتحديداً تنظيمهم الدولي. وبالتالي فإن دعم ثورة يقودها مشبوهون لا يخدم مصلحة الثورة. لا أذكر أنه استخدم مصطلح «الوقوف مع معسكر الممانعة»، وهو التبرير الرائج للمدافعين عن النظام السوري هذه الأيام، غير أنه كان على كل حال تبريراً ركيكاً كتبريرات اليوم، ولكن الرسالة وصلت يومها بأن إيران الشيعية لن تدعم ثورة إسلامية سنية.

منذ ذلك الحين أخذت المواجهة المذهبية تتبلور، تصادمت أمنياً وسياسياً في لحظات عدة طوال الثلاثين عاماً الماضية في أكثر من مكان، ظهرت بقوة وعنف في عراق ما بعد صدام حسين، وفي البحرين اليوم، وسوف تستمر حتى يصل ربيع العرب إلى طهران ويحررها من المذهبية مثلما تحرر «الإخوان السوريون» منها.

أعتذر عن الطرح الطائفي في مقالي هذا، ولكن ألم أقل إنها الغوريلا الموجودة معنا، ونتظاهر بعدم رؤيتها؟

الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى