صفحات الرأي

الفساد بوصفه آلية تحكم سلطوي/ سمير الزبن

 

 

 

يعتبر ماكس فيبر البيروقراطية إحدى السمات الأساسية للمجتمعات الصناعية الحديثة وعقلنتها، حيث الفرد ليس مالكاً وظيفته، ولا يمكنه نقلها، ويخضع نشاطه لقواعد شكلية، حيث المراكز محددّة بصرامة ومتخصصة، ويخضع التنظيم لمراتبية، ويقوم أخصائيون بمهام وظائفهم، ويكرسون لها كل وقتهم. وجود هذه البيروقراطية في المجتمعات الديمقراطية التي تخضع إلى رقابة مجتمعية، سياسية، قضائية، إعلامية… هي النموذج الإيجابي للبيروقراطية، لكن هذه البيروقراطية من دون وجود المؤسسات الرقابية الفعالة، تتحول إلى عنوان للفساد والسلبية.

على الرغم من صرامة التنظيم البيروقراطي ومراتبيته، فإن التنظيم بقواعده ومعاييره، يُبقي على الممكنات، فيحافظ على هامش من الحرية، حيث يختار الفاعلون سلوكهم انطلاقاً من هذا الهامش. فالقواعد والمعايير لا تحدّد كلياً هذه الاختيارات، بل تبقيها مفتوحة، أي أن التنظيم، حتى الأكثر بيروقراطية لا يقضي كلياً على هامش الحرية، ومن هذا الهامش يتسرب الفساد.

الفساد هو إساءة استخدام الوظيفة العامة من شاغليها لتحقيق مكاسب خاصة. لا يشترط السلوك الفاسد مخالفة القانون، بل هو يقدم الخدمة التي تحيلها عليه مهام وظيفته، لكنه يحصل على عائد أو مقابل مادي، أو معنوي شخصي، ممن تقدم له هذه الخدمة، أي يجبي الفاسد المال سواء خالف القانون أم لا.

أخذ الفساد في الدول العربية أشكالاً متعددة ومتنوعة، وتتسبب طبيعة الأنظمة السياسية في تعميم ظاهرته، بوصفها أداة سلطوية لإعادة توزيع الثروة في المجتمع. فعندما يحل الفرد مكان المؤسسات السياسية، يتم إضعاف هذه المؤسسات واستبعادها. حيث يتم استغلال المنصب والنفوذ السياسي، لأجل الحصول على مكاسب شخصية، كالحصول على رشاوى وعمولات سواء في الداخل أو الخارج، وينتج عن هذا الاستبداد استبعاد المشاركة السياسة للمواطنين، ما يحرر الفاسدين من الرقابة والمحاسبة التي توفرها المشاركة السياسية، فهناك علاقة عكسية بين المشاركة السياسية والفساد، فكلما انخفضت درجة المشاركة السياسية يزداد ظهور الفساد، والعكس بالعكس. وتعطي طبيعة الأنظمة السياسية العربية الحماية اللازمة التي تسهل عملية انتشار الفساد داخل النظام السياسي.

يشعر المتورطون في أعمال الفساد بدرجة عالية من الأمن، بسبب غياب المراقبة والمحاسبة، بالإضافة إلى العوائد الناجمة عن الفساد، فالموقف اللامبالي للمواطنين لا يخلق مناخاً معادياً للأعمال المرتبطة بالفساد، بل على العكس، يرون فيها نوعا من تسهيل التعقيدات التي يواجهونها في مراجعة دوائر الدولة، والحصول على موافقاتها. لذلك، يبدو من الطبيعي أن يزداد انتشار الفساد في غياب الاتجاهات المعادية له. فالفاسد عندما يكون امتداداً للنظام المستبد يقوم النظام بحمايته كجزء عضوي منه. ما يعطي المتورطين في أعمال الفساد درجة عالية من الأمان والحماية. لذلك، كلما زاد الشعور بالأمن وعدم القدرة على كشف الأعمال الفاسدة والمحاسبة عليها ازداد الفساد انتشاراً.

“تضامنت مجموعة من القيم السياسية السائدة في المجتمعات العربية مع طبيعة السلطة السياسية في زيادة حجم الفساد، فالفساد لا يتعارض مع قيم سائدة كثيرة، بل يعتبر، في أحيان كثيرة، قيمة إيجابية في حد ذاته”

تضامنت مجموعة من القيم السياسية السائدة في المجتمعات العربية مع طبيعة السلطة السياسية في زيادة حجم الفساد، فالفساد لا يتعارض مع قيم سائدة كثيرة، بل يعتبر، في أحيان كثيرة، قيمة إيجابية في حد ذاته، ويضاف إلى ذلك وجود تناقض بين توقعات الأفراد من القادة والقيم البيروقراطية الأصيلة، ما يؤدي إلى فساد الأجهزة البيروقراطية والمؤسسات السياسية، فهم يحكمون على السياسة، وفقاً لما تحقق لهم من منفعة مباشرة في شكل خدمات متعددة، ويصبح هذا هو المعيار في تقييم الساسة، وتقييم النظام ككل. ونتيجة لذلك، يتصرف القادة وفقاً لتوقعات الأفراد منهم، وينتهكون، نتيجة لذلك، القيم، ما يؤدي إلى ظهور الفساد المؤسسي الهيكلي.

لا يقتصر الفساد على المراتب السلطوية العليا، بل يتمدد عمودياً، ليشمل الجهاز البيروقراطي في مراتبه الوسطى والدنيا. وهذه ظاهرة واسعة الانتشار في البلدان التي ينخفض فيها دخل الموظفين إلى حد عدم تلبية الحاجات الضرورية لأسرهم، حيث يعتبر حصول الموظف على الرشاوى في مقابل أداء العمل، أو تقديم الخدمة، شكلاً من السلوك الطبيعي غير المدان اجتماعيا أيضاً. فعلى الرغم من أن الجهاز البيروقراطي يضع مجموعة من الضوابط في أداء أعماله، وتحديد كيفية أداء الخدمة وتحديد المستحقين لها. إلا أن هناك أساليب متنوعة، يستطيع الموظف من خلالها تحكيم رغباته وميوله الشخصية في أداء هذه الخدمة للجمهور، مخترقاً القواعد التنظيمية والضوابط الموضوعية التي تنظم العملية بأكملها، وبتضامن مجموع العناصر الفاسدة في مؤسسة يخترقها الفساد، يسير كل شيء بشكل طبيعي، ويتم إيجاد قانون موازٍ للوائح والأنظمة، غير مكتوب لكنه فعّال. والقانون الموازي يخلق سوقاً موازية لبيع الخدمات العامة بأسعار مختلفة عن التي تحددها اللوائح الرسمية، فترفع الأجهزة البيروقراطية سعر الخدمة التي تؤديها، مستغلة ظروف تزايد الطلب عليها، ويكون عائد سعر الخدمة الإضافي للموظفين المتضامنين في الفساد. وتصبح الخدمات المجانية والأسعار الرمزية نفسها التي تقدمها الدولة ذات أسعار مختلفة ومرتفعة، كالصحة والتعليم والمياه والكهرباء…إلخ، فلا يحصل عليها إلا من يدفع الثمن المرتفع، فلا تعود هناك خدمات مجانية إلا نظرياً. ويعبر هذا النمط عن نفسه في صعوبة حصول المواطنين على جوازات السفر ورخص القيادة وتراخيص البناء…إلخ، من دون دفع المقابل الموازي الذي لا يذهب إلى الخزينة العامة، بل إلى جيوب هؤلاء الموظفين.

تعبّر ظاهرة الفساد عن نفسها بأشكال مختلفة ومتنوعة، وبانتشارها المعمم يتم مأسستها، وتمتلك شرعيتها إلى حد كبير، ويتحول الفساد، بكل أشكاله، إلى قيمة مقبولة من الجميع. ما يخلق ازدواجية في النظام القانوني، الرسمي المتروك جانبا، والنظام القانوني الموازي المترتب على الفساد، والذي يلعب الدور الأهم في إعادة توزيع الدخل على الموظفين خارج الأطر الرسمية.

يتسبب الفساد المعمّم في عملية توقف المجتمع عن العمل، ويدخله في عطالة على كل المستويات، حيث يمكن النظر إلى مؤسسات الدولة وكأنها نسق بيروقراطي كبير متضمّن كل سمات الفساد التي يجب تجنبها. وباللامبالاة التي يعيشها المواطن تجاه هذه الظاهرة، يتم تبديد طاقات المجتمع وإعدام مستقبله.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى