صفحات سوريةماهر مسعود

الفشل الكردي والحرية العربية/ ماهر مسعود

 

 

على رغم السلطة التي كان يملكها مسعود بارزاني في «إقليمه» باعتباره رئيساً للإقليم، فإنه عند إجراء الاستفتاء لم يكن ممثلاً لسلطة، بل لشعب، السلطة كانت في بغداد. وعلى اعتبار أن الاستفتاء يمثل شكلاً من أشكال حرية الشعوب أمام مركزية السلطة، فلنا أن نسأل: هل لشعب في هذه المنطقة وهذه المرحلة من التاريخ أن يتحرر وحده، أم أن الهزيمة هي التي ترسم ملامح شعوب المنطقة، وحدودها، إلى أجل غير مسمى؟

ربما يبدو مكرراً أن نقول: إن حرية السوريين هي المركز والمقياس الذي تُقاس عليه حرية شعوب المنطقة، وعلى كل حركة تحرر أو شعب يطالب بالحرية في هذه المنطقة المنكوبة أن يبدأ من هناك، أو ينظر، على الأقل، لما يحصل هناك، لكي يعرف مصيره ويدير تحركاته. ليس الشعب السوري هو المركز لأنه شعب مميز أو الأفضل أو غير ذلك من الترهات التي تقترن عادة بالمركز، بل لأن الشعب السوري مركز المقتلة الجماعية المستمرة التي اجتمعت جميع السلطات، المختلفة والمتفقة، الصديقة والعدوة، المتحاربة والمتحالفة، لكي تجعل منه عبرة لمن يعتبر عند كل شعب تسوِّل له نفسه طلب الحرية بعد الآن.

يمكن اعتبار ما حصل في كردستان العراق ببساطة صورة مصغرة، وسلمية إلى حد ما، عمّا حصل في سورية. فبالطريقة ذاتها، اجتمعت الدول الكبيرة والصغيرة، المتحالفة والمتحاربة، ضد استفتاء الشعب الكردي في كردستان العراق، ويمكن أن نقول إن هذا ما تكرر، على رغم بعد المسافة والزمن والتاريخ، في كاتالونيا الإسبانية، فزمن الشعوب توقف في سورية، وتحطم فوق جثتها، ولا نعرف إن كان سيعاود إقلاعه من هناك.

الزمن اليوم زمن السُلطة، زمن القوة العارية والبلطجة، زمن «الدول ذات السيادة»، زمن الخوف والتخويف من الفوضى، زمن السيسي وبشار وسليماني وترامب وكيم جونغ اون، زمنٌ بوتينيٌ بامتياز، فهذا ما أراده بوتين، وهذا ما كان.

ظن بارزاني، وظن الأكراد، أن هذه فرصتهم التاريخية، فهم الأكثر قبولاً من الغرب وأميركا في منطقة تعج بالإرهابين السني والشيعي، وهم الأكثر علمانية في منطقة تعج بالطائفية، والأكثر تماسكاً في منطقة تفسخها الحروب، وأرادوا الإيحاء بأنهم الأكثر «تقدماً» في منطقة يفككها التخلف. لكن بارزاني والكرد معه تناسوا مجموعة كبرى من الأشياء والحقائق، منها مثلاً: أولاً، يكفي أن تكون إثنية واحدة وعرق واحد لكي تكوِّن شعباً بالمعنى «الطبيعي»، ولكن هذا لا يكفي لكي تكوِّن شعباً بالمعنى السياسي، فالشعب الكردي بالمجمل أشبه ما يكون بالشعب العربي، أو «الشعب» السوري، أي شعباً بلا حقوق ولا تمثيل سياسي ديموقراطي ولا مواطنة متساوية بين أبنائه، وإن كان الكرد يحسدون العرب على «دولهم»، فالأولى بهم أن يرثوا لحالهم على تلك الدول الفاشلة والخَرِبة التي لم تجلب لهم سوى الهزائم والاستعباد، والتي أثبتت جميعها أنها قابلة للانهيار من دون أن تنهار أنظمتها المبجلة، وقابلة للتحطم فوق رؤوس أبنائها كرمى لعيون قادتها. وإن ظن الكرد أنهم لن يقعوا بما وقع به العرب، فدلائل الانقسام الكردي في الإقليم وفي كل منطقة من هذا الإقليم لا توحي بأي خير، ومنازعات قادتهم البينية واستغلالهم بؤس شعبهم وقضيته في التحشيد للزعامات ذاتها وللانقسام ذاته لا تُؤمِّل بأي اختلاف أصيل عن تجربة العرب.

ثانياً، يعرف بارزاني جيداً أن الإرهاب لم يأت من المجتمع السني لأنه سني أو عربي، بل جاء من طائفية صدام التي انقلبت الى طائفية المالكي، وأن الإرهاب الضارب في العراق منذ الاحتجاجات الشعبية العراقية المتصلة بالثورات، على الأقل، ربّاه المالكي «برموش عيونه» تحت إدارة ولاية الفقيه. كما يعرف شخصياً ماذا أخبره المالكي: «اهتم بإقليمك ولا تتدخل»، عندما أشار إلى تصفية جميع رؤساء العشائر المعتدلة في الموصل قبل دخول مئات الجنود «الدواعش» لاحتلالها، وأن المالكي ذاته هو من أمر بتصفيتهم وتمهيد الأرض والشروط جميعها لدخول «الدواعش».

الفكرة من هذا الكلام، أن الحرب الكردية من أجل الحرية والاستقلال، كان عليها أن تأتلف مع حرب شعوب المنطقة ضد أنظمتها القاتلة، وأن الإرهاب الحقيقي هو تلك الأنظمة ذاتها وليس إرهاب الشعوب. وما أصاب الكرد في العراق ليس أكثر من صورة مكبرة عما أصابهم وسيصيبهم في سورية، فوقوف الكرد السوريين «ممثلين بالقوة» من حزب الاتحاد الديموقراطي، في صفّ الأسد وإيران، أي ضد حرية الشعب السوري، لن تأتي لهم بالاستقلال الموعود حتى لو بدت كذلك اليوم، والحماية الأميركية المفترضة لن ترحمهم من حضن الأسد أو أسياده في طهران وموسكو، ولا من عدوهم السلطان المستظل تحت عباءة بوتين الفضفاضة.

إن الفشل الكردي ليس أكثر من تكرار واستمرار وذروة للفشل العربي في تحقيق دولة مواطنة مستقلة وديموقراطية، ومهما حاول الكرد إثبات تميزهم واختلافهم عن جيرانهم أمام الغرب، فإن مصيرهم سيبقى متشابكاً مع مصير شعوب المنطقة الموبوءة بأنظمتها. أما عن حقهم بتقرير المصير وهو حق مبدئي وسامٍ وإنساني لا يمكن الخلاف عليه، فليسأل الكرد أندادهم الفلسطينيين ماذا حل بحقهم في تقرير مصيرهم، وعندئذ ربما لن يجدوا جواباً أفضل من القول: «كلنا فلسطينيون» نحن شعوب هذه المنطقة، لا بل إن إسرائيل باتت تخجل بضعف عنصريتها تجاه الشعب الفلسطيني أمام عنصرية جيرانها من الأنظمة المتجانسة والشقيقة تجاه شعوبها.

مثلما لم يتنازل الأسد لشعبه قيد أنملة، لن يتنازل العبادي قيد شعرة، فقد كفّ القادة عن التنازل للشعوب، مذ رأوا رئيساً يقتل شعبه ويُكافَأ بمن يحميه، ويضفي عليه الشرعية ولو في مقابل الاحتلال شرعاً.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى