صفحات سوريةطيب تيزيني

الفكر الديني والوهم المنهجي

 

د. طيب تيزيني

تقدم أحداث مصر المشتعلة راهناً مادة حية مشتعلة للبحث في قضية الإسلام السياسي عموماً، وفي ارتباطها بـ«الربيع العربي» على نحو خاص، وسنرى أن ذلك كله مشروط بوضعه في موقعه من السياق التاريخي، ومن التموضع المجتمعي. وحين نأخذ الأمر على هذا النحو، نكون قد خرجنا من انغلاقية الوهم المنهجي المنطلق من أن الفكر الديني يعيش فوق التاريخ وخارجه، بحيث نقول -بمقتضى ذلك- إن الإنسان المتدين هو الذي يتغيّر، دون أن ينسحب ذلك على الفكر الديني نفسه، فالأول متغير، بينما أن الثاني ثابت. هذا من ناحية أولى. أما من ناحية أخرى، فيعلن «الإخوان المسلمون» من ذوي التشدُّد الأيديولوجي، السلفي- الأصولي: الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف! فالحقائق التي يستمد منها الأخلاف قواعد حياتهم ومبادئها، ثابتة محفوظة في حرز حريز، وتصلح «لكل زمان ومكان». فإذا قامت العلاقة بين ثابت ومتحرك، فإن الانطلاق في ذلك يتم من الأول إلى الثاني، أي -في هذه الحال- من المقدَّس اللاهوتي إلى العادي البشري.

بناءً على ذلك، لا يصحّ للبشر أن يزعموا القدرة على امتلاك الحقيقة الكاملة ولا الكمال، لأن ذلك من خصائص الألوهية: (الكمال لله). وقد تحركت الاتجاهات الدينية بين هذا وذاك، مع الحذر من انغماس المقدس بالعادي، والمطلق بالنسبي، وهكذا دارت المناقشات والصراعات بين الإسلاميين من «الإخوان» وغيرهم. واتضح في سياق ذلك أمران كبيران بلورا الفكر الإسلامي بالصيغة، التي يأخذ بها «الإخوان المسلمون»، والناشطون في حقل «الإسلام السياسي» عموماً. أما الأمر الأول فيتمثّل في تصور «القداسة»، في حين يُفصح الأمر الثاني عن نفسه في «النشاط السياسي».

وهنا يبرز السؤال المنهجي التأسيسي التالي: إذا تناقض السياسي مع القداسي، أو ظهر أن الأمر يقوم على هذا التناقض، فما العمل إذا كانت هنالك مهمات واستحقاقات على صعيد الواقع السياسي والاقتصادي، مثلاً ننتظر معالجات وحلولاً وأجوبة راهنة من النوع، الذي قد يكون غير متوافق مع النص الديني الأصلي (القرآني)؟! وهذا الأمر يزداد اضطراباً وإشكالاً، حين يظهر السياسي مناقضاً أو مضاداً للقداسي. ببساطة، سيلجأ هنا البعض المتمترس بالنص، إلى مواجهة خصمه من موقع أن ما يطرحه من مشكلات سياسية مخالف لـ«النصّي». ها هنا يجري استبدال التعارض بين موقفين ينتميان -أساساً وبشكل مُضمر على الأقل- إلى وسطيْن أو مرجعيتين اثنتين، سياسية ودينية، لتُلحَق الأولى منهما بالمرجعية الدينية القداسية. ومن شأن هذا أنه يعني بالنسبة لذلك البعض، أن التعارض مع هذه المرجعية الأخيرة إنما هو تعارض مع القداسة أي مع النص المقدس، وذلك يعني دخولاً في المحظور.

نعم، في هذه الحال، حين يحدث حوار بين ذوي المرجعية الدينية المتشددة (المغلقة) وبين العاملين في حقل سياسي أو آخر، فإن هؤلاء سوف يخطَّؤون بل يُدانون من قبل أولئك، اعتقاداً بأن الاختلاف بين الفريقين إنما هو اختلاف بين سياسي يُخطئ ويصيب، ورجل دين يتكلم باسم «المقدس»، ومن ثم «لا يخطئ تحت حماية المقدس»، فتوجيه نقد إلى ذلك الرجل، سيفهم على أنه نقد للدين نفسه.

لقد ظهرت معارك فكرية خصبة في التاريخ العربي الحديث «عصر النهضة»، خصوصاً منها ما جرى بين علي عبد الرازق وعبد الحميد الزهراوي على هذا الصعيد. وانشقَّ القوم إلى فريقين، واحد يرى أن الإسلام ليس ديناً (عقيدة) فحسب، وإنما هو دولة كذلك، فخلطوا بين المقدس الديني وبين السياسي الواقعي القائم على الصراع. واليوم نواجه معركة كبيرة في مصر، تمثل فعلاً مُعيقاً على طريق الحكم السياسي. فهل يصح، الآن في القرن الحادي والعشرين، الأخذ بفكرة «المرشد» أو «ولاية الفقيه»، بدلاً من الأفكار الدينية المحفزة على التسامح والديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، والتنمية الاقتصادية، والعدالة المؤسسة على توزيع الثروة بمقتضى الحاجات والإمكانات والضرورات…إلخ؟ ثم، هل ما زال وارداً الحديث على «حدٍ يطبق على المرأة والرجل؟» ولابد من التأكيد على أنه إذا كانت غاية الأديان سعادة البشر، فإنه يصبح من الضرورة العمل على إنجاح أفكار التقدم والنهوض عبر البشر أنفسهم.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى