صفحات سوريةطيب تيزيني

الفكر النقدي التاريخي والمعارضة/ د. طيب تيزيني

قبل ما يقترب من ثلاث سنوات، وبعد ظهور المجلس الوطني السوري ورئيسه الأول، توجه الإعلام العربي في بعض قنواته المتلفزة إلى عدد من الكتّاب والباحثين والمفكرين يستطلع آراءهم عن الخطوة المتخذة تواً، وهي خطوة جديدة نوعياً في الفكر السياسي العربي كما في العمل السياسي المباشر ضمن المجتمعات العربية، وكان ذلك خطوة تأسيسية كبرى على طريق الحدث الكبير المتمثل بالثورة السورية، ومن ضمن هذا النشاط الإعلامي الجديد اتصلت بي قناة «الجزيرة» طارحة السؤال التالي: ما رأيكم فيما أنجزه “رجال الثورة” خارج سوريا؟ أتى جوابي بالحدث الجديد، الذي انبثق عن لقاءات رجال الثورة، هؤلاء، ولما كان كل جديد، خصوصاً ما أنجزه أولئك البُناة، فإن للحوار الذي ينطوي خصوصاً على البعدين الاثنين الرئيسيين، النقدية والتاريخية، فقد تعين على المعنيين في هذه الحال أن يبذلوا نشاطاً مفتوحاً ومعمقاً للإحاطة بما يطرحه هذا التأسيس الجديد.

فمع الإشادة بالأهمية الكبرى لذلك الجهد التأسيسي النظري والعملي، فإن من قواعد العمل إياه أن يظل مفتوحاً ليس لفترة نهائية محددة، وإنما لكل الفترات الأخرى القادمة، وبتعبير آخر إن درجة ما “لإعادة بنينة” الواقع تظل قائمة، مما يستدعي من الباحث أو بصورة أكثر عمقاً من الباحث الثوري أن يكون مفتوحاً على ما يمكن أن يطرأ على الواقع المعني والخاضع للبحث، ومن طرف آخر، فإن النظرة التي نتجه في ضوئها إلى الواقع، هي نفسها تجد نفسها أمام مهمة تطويرها بذلك المعنى الذي أتينا عليه، أي إعادة البنية.

وبالعودة إلى الإجابة عن سؤال “الجزيرة” نقول إننا في ذلك الحين أكدنا على ثلاث مسائل رأينا أنها بالمقياس العلمي الاحترافي ذات أهمية منهجية قصوى على صعيد ما كان يعمل على إنجازه فريق “التأسيس الثوري” المذكور. أما هذه المسائل الثلاث فهي أولاً: الديمقراطية التي إذ تؤسس لشرعيتها السياسية ومصداقيتها المعرفية، فإنها وفي السياق نفسه تفتح الأبواب والآفاق أمام “الآخر المخالف” بمثابته حافزاً لها وكذلك مراقباً إضافة إلى ما قد يتضمن عناصر منها (على سبيل السلب تزول إيجاباً)، وتشمل هذه المسألة على فهم معمق للديمقراطية ينطلق من الإقرار بتعددية تقوم مكوناتها على كون بعضها منفتحاً حيال بعض وليس على صيغة من المكونات المتماهي زعماً بعضها ببعض، بل يوصلنا هذا الفهم للمسألة إلى أن الصراع السياسي (وهو نمط من الصراع المجتمعي) لا يجوز أن يقود إلى الاحتراب بالسلاح، بل يقضي الوصول بالاختلاف والتعددية إلى حدودهما السلمية القصوى.

وتبرز المسألة الثانية على القول بأن إسقاط السلاح لا يعني انتهاء حدود وتجليات “الخلاف والاختلاف” بقدر ما يعني إيجاد حالة أو حالات من المساومات التاريخية تغطي مراحل تاريخية تتجسد في التعايش بين أنساق وصيغ مختلفة من الوجود المجتمعي، وهذا يظهر بالضرورة في إطار الحديث عن عمل سياق ممتزج بالجهد المعرفي.

تبرز ثالثاً وأخيراً مسألة الإنتاج السياسي الثقافي أو الثقافي السياسي، لتكون الأساس الأيديولوجي لوحدة التنظيم السياسي، وهو ذلك التنظيم الذي ينشأ في سياق النشاط الذي تقوم به المعارضة لإيصال المهمة إلى الأوساط الشعبية، هنا تتبين الأهمية الخاصة لهذه المسألة، فهذه تقوم على أساس المنظومة الفكرية السياسية التي تأخذ بها، والذي سيأخذ بها التنظيم الذي سينشأ غداً أو بعد غد، تعبيراً عن وحدة العمل الذي بمنجزه المعارضة في سبيل انتصار الثورة ضمن مجتمع سوري مدني.

تلك المسائل الثلاث تبرز أهميتها منذ تشكل الإطار التنظيمي للمعارضة وحتى الآن (الائتلاف)، ومع الإشارة إلى أن المعارضة قدمت منذ تشكلها خطاً عاماً ناظماً، احتكمت إليه في نشاطاتها المختلفة، فإن التدقيق في الخط المذكور يمكن أن يظهر بل إنه يظهر ضرورة إخضاعه لقراءة تقويمية نقدية تناقش مجالات أولية كانت موضع مساءلات وحوارات في وسط المعارضة الخارجي، ولكن كذلك في الداخل السوري، فثمة هنا بعض النقاط الجديرة بالحوار المعمق، فما راح يحدث على مدى السنوات الثلاث من تاريخ الثورة من مشكلات ومساءلات جدير أنه مجال حوار واسع مع الإقرار بأهمية ما قدمه مراسلون ومحللون وباحثون على هذا الصعيد من ذلك تبرز خصوصاً قضايا الدين والسلطة السياسية، ووحدة سوريا في ظل مشاريع التفتيت التي ظهر منها ما جرى طرحه كردياً مثلاً، وكذلك ظهور كان كثيفاً للطائفية والتقسيم وكذلك التدخل العسكري.. ذلك كله يضعنا أمام مهمات كبرى لاستكمال العمل الوطني الثوري الجديد لإنشاء سوريا الحرة الديمقراطية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى