مراجعات كتب

الفنّاص الفرنسي: الخضوع والكراهية/ الياس خوري

 

 

 

في روايته «خضوع» يبني الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك ما يشبه الحكاية الخرافية عن فرنسا عام 2022. حكاية منسوجة داخل بناء سردي خطي وبسيط وحميمي، من أجل ان تصل الى لحظة فوز مرشح الاسلامين محمد بن عباس بالرئاسة في فرنسا. ومع الرئيس الاسلامي ستنقلب الحياة راساً على عقب. جامعة السوربون تتحول الى جامعة اسلامية بتمويل سعودي، المحجبات يملأن أزقة الحي اللاتيني، وفرنسوا بطل الرواية وراويها في آن معاً، ينتهي به المطاف الى اعتناق الاسلام في انتظار مُتع تعدد الزوجات!

هذا المسار الذي يبدو مفرطاً في سذاجته لا يتوخى اقناع القارئ بأن الحكاية واقعية أو قابلة للتصديق. انه مسار ابهاري قائم على التفنيص الذي ينطلق من الاسلاموفوبيا كي يصل الى خواء المعاني في زمن ما بعد الحداثة.

تشبه الرواية سلسلة تحقيقات صحافية، بحيث يختلط المبنى الأدبي بالريبورتاج، وتصير الرواية صدى للحدث السياسي المباشر، وكأن النتاج الثقافي اصبح اليوم جزءا من منحدر السقوط في سياسات الهوية التي تلغي السياسة والأدب.

لكن ويلبيك يحاول انقاذ كتابه عبر لجوئه الى تقنية سردية تتداخل فيها ثلاثة مستويات:

المستوى الأول هو الحياة الحميمة والمملة لفرنسوا بطل الرواية. فرنسوا استاذ جامعي يدرّس الأدب الفرنسي في جامعة باريس الثالثة. انجز اطروحة دكتوراه عن الروائي الفرنسي جوريس كارل هويسمان. أكاديمي بليد لم ينجز شيئا بعد اطروحته سوى بعض المقالات المتفرقة عن أدب القرن التاسع عشر، حياته العاطفية تقتصر على اقامة علاقات جنسية شبه عابرة مع تلميذاته، يعيش وحيدا ومعزولا وبلا اصدقاء، لا يرى أي معنى لأي شيء، حتى الجنس لا يشكل مصدر متعة له.

المستوى الثاني هو سيرة حياة الروائي هويسمان، الذي يحيلنا الى القرن التاسع عشر والى المدرسة الطبيعية في الأدب وما بعدها. روائي القرن التاسع عشر هو الذات الثانية لبطل الرواية. صيرورة هويسمان تقوده من العقلانية الى السحر الأسود قبل أن يعتنق الكاثوليكية بحثا عن الخلاص والتطهّر.

المستوى الثالث هو التطورات التي رافقت المعركة الرئاسية الفرنسية عام 2022، تنتهي الجولة الأولى من الانتخابات باخراج مرشحي الحزبين التقليديين الفرنسيين، الحزب الاشتراكي وحزب التجمع من اجل حركة شعبية، ليتم التنافس بين مارين لوبين مرشحة الجبهة الوطنية الفاشية ومحمد بن عباس ابن البقال التونسي المهاجر الذي يقود حزب الأخوة الاسلامية. وتنتهي المعركة بفوز بن عباس الذي ينجح في بناء ائتلاف مع الحزبين التقليديين، فيصبح أول رئيس مسلم لفرنسا. هنا تنعطف الرواية الى وصف الحياة الفرنسية في سياق تأسلم يبدأ بتحجيب النساء ومنعهن من العمل ويصل الى اباحة تعدد الزوجات.

في المستوى الأول تذكّرنا حياة فرنسوا الرتيبة ببطل «الغريب» لألبير كامو، الذي يمكن قراءته في مستويات متعددة، احدها هو أنه «قدم سوداء»، اي معمر فرنسي في الجزائر. مؤلف الرواية هو أيضا «قدم سوداء» ولد في الجزائر قبل الاستقلال، لكن غربته ناجمة عن انهيار القيم العائلية أساسا، وهذا ما تشي به كتابة ويلبيك الميزوجينة التي تضمر اضافة الى العنصرية، احتقارا شديداً للمرأة . لا نعثر في هذا السرد سوى على نجاح الكاتب في كتابة نص ممل يصف فيه الملل، وعلى اشارة الى أزمة غامضة يعانيها رجل لا يجد معنى لحياته.

اما المستوى الثاني فهو محاولة لتقديم الروائي الفرنسي هويسمان بصفته مرآة للخواء الروحي الذي يعيشه فرنسوا. لن يكتشف فرنسوا فراغ حياته الا بعد صدمة فوز الاسلاميين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية حيث سيجد نفسه وقد تبع خطى هويسمان، يذهب الى الدير الكاثوليكي نفسه الذي اقام فيه هويسمان، لكنه لا يجد الخلاص.

المستوى الثالث هو لبّ المسألة. انهيار الحياة الرتيبة التي عاشها فرنسوا لا يأتي من علاقته الملتبسة بميريم، اليهودية التي تهاجر الى اسرائيل، بل من لحظة طرده من الجامعة لأنه رفض أن يغتنق الاسلام. يزور بواتييه حيث تم صدّ الفاتحين المسلمين، ويبحث امام تمثال العذراء السوداء عن خلاصه الروحي. لكنه يعود الى باريس، وهنا تبدأ لحظة غوايته لدخول الاسلام والعودة الى عمله في الجامعة.

هل كات رحلة فرنسوا نحو الاسلام ساذجة لأنها خاوية من المعاني التي كان يبحث عنها ادباء القرن التاسع عشر؟ ام لأنها رحلة مفبركة صيغت على عجل من اجل ان تلائم «الصرعة» الاعلامية التي تجسدّها الاسلاموفوبيا الزاحفة والصعود السريع لليمين الفاشي؟

لعبة ويلبيك مجرد خرافة محبوكة بشطارة اعلامية وبتحذلق ادبي، نقده العنيف للمجتمع لا ينقذه هذه المرة من فضح لعبته القائمة على رُهاب الاسلام. وهو لا يبذل أي جهد من اجل اقناعنا بأن روايته ممكنة. فعلى عكس واقعية الجزء الأول الذي يحكي عن حياة فرنسوا اليومية بتفصيل وترابط، فان القفز الى لحظة الأسلمة تأخذنا الى عالم وهمي يختلط فيه نيتشه بأدباء القرن التاسع عشر، وتتحول فيه الأفكار والتصورات حول الاسلام الى مفرقعات كلامية ساذجة هدفها الوصول الى تفجير كبسولة الخوف، والاقامة في قلب البريق الاعلامي.

ربما كان ويلبيك هو الروائي الفرنسي الأكثر قدرة على التعبير عن أزمة التعبير. معه صارت الكتابة مزيجاً هجيناً من نبرة طليعية عدمية تقتات على فتات نقد ايار 68، ومن صوت اعتراضي يحاول ان يكون متعالياً، لكنه يسقط في ذكورية فظة متبنياً لغة زمن القيم التي تخلّى عنها.

تتحول الكتابة الى مرجع للكراهية واداة للتحريض العنصري، وتحتل البورنوغرافيا مكان الايروتيكية، ويصير الخوف والتخويف الطريق الأقصر الى الفاشية.

الفنّاص الفرنسي أكثر تعقيداً وسماجة من القنّاص الامريكي، اذ بينما يبدو الأمريكي معتداً بنفسه مقبلا على جريمته، يتخذ الفرنسي شكل انسان هامشي يخضع مستسلماً، كي يكون خضوعه ذروة التحريض على كراهية الآخر.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى