صفحات الثقافة

الفن السوري يهاجر إلى الأبدية/ أسعد عرابي

 

 

1-  آخر حبّات عنقود الموت: ممتاز البحرة

الإثنين (16 كانون الثاني 2017) كان يوماً مشؤوماً في دمشق. فهو تاريخ اختطاف الموت آخر القائمة المبدعة التي حصدها خلال الأشهر الماضية وهو الرسام الأول لأدب الأطفال في الوطن العربي (سواء في الكتب المدرسية أم مجلة أسامة): الفنان ممتاز البحرة، آخر حبات العنقود من الرواد التشكيليين الذين هاجروا إلى الأبدية. الواحد إثر الآخر حتى تبينت دفتر هواتفهم وقد تحول إلى قائمة نعوات بالجملة. لا شك بأن المحنة، أو القيامة الشامية، تعتبر أرضاً خصبة لمنجل الموت، تقرّب الأجل وتختصر المسافة بين تعاسة الحاضر والمستقبل المجهول.

كان ذلك بعد فترة وجيزة من تقليده وسام التقدير الرسمي الأعلى، وأخذت صوره الأخيرة قبل رحيله: تشيع ابتسامته المكابرة التي تجابه تعاسة وشقاء وإعياء لا يعادله سوى تفاؤله. يرتفق على عكازته وانتفاخ السرطان بادٍ على محياه، وذلك في مأوى العجزة المدعو “دار السعادة” (صدّق أو لا تصدّق) في ظاهر دمشق يعانقه فلذتا كبده: باسم ورباب اللذان خلدهما برسومه الواقعية المدهشة، قرر أن ينهي مجاهداته في هذا الركن التعيس إثر خلافه مع “أم الأولاد” كما يسميها، تركتهما قبل عقدين من الزمان في أسعد حال، خاصة وأن أخوها الفنان خالد أسود زميل دراسة فنية بدوره ويملك روحاً مرحة تتغلب على أصعب الظروف. وكان رغم محبته وتقديره لزوج أخته يلوم فيه بعض النزق العائلي، ولكنه نزق ذكوري خلوق ونبيل، ورثه من والده مفتش الرياضة الذي كان أستاذي في التجهيز الأولى في الخمسينات. لذلك فإن ممتاز مولود في حلب عام 1938 من عائلة دمشقية ومتوفىً عن عمر يناهز 79 عاماً، ومهما يكن من أمر فإن هذا الحادث الأليم نبش في قلبي قبور من سبقه من الرواد الفنانين في الفترة القصيرة الأخيرة.

لعل من ألمع الغائبين (المقصوف عمرهم قبل وقت) اثنان: نذير نبعة في الداخل (من مواليد ريف المزة في ظاهر دمشق 1938) رحل في نفس العام عن عمر يناهز 78 عاماً، ومروان قصاب باشي في برلين، من مواليد دمشق عام 1934 توفي في نفس العام المشؤوم 2016 عن عمر يناهز 82 عاماً.

2- نذير نبعة وتفرّق “جماعة العشرة”

وبما يتمتع به نذير من خلق ودماثة وحسن ضيافة، فقد كان مروان عندما يفد إلى دمشق يبيت لديه مثله مثل المرحوم محي الدين اللباد ومثل زكريا تامر في أغلب الأحيان، وكذلك المرحوم برهان كركوتلي. وكان خلقه اليساري يقيم احتفاءً خاصاً كلما وفد فنان غير معروف من الريف إلى دمشق، كان متعصباً للريف والبستان والحقل. نقلهما إلى سطحه الرحب في حديقة سقفه المزدانة بكل ما تشتهي الأنفس والريحان من زهور وأنواع النباتات والثمار، تشاركه توأمه زوجته شلبية المصوّرة المدهشة، حملت في رسومها أساطير ضيعة المنوفية في مصر، كان تصويرهما متكاملين، يقضون ستة أشهر في دارهما القاهرية وستة أشهر في ملحقهما في حي أبو رمانة، وبالتالي فمختبرهما مشترك، اكتشف شطحها الطفولي (لأنها علمت نفسها بنفسها) زكريا تامر وعمل معها ومع زوجها أكواماً من المشاريع الطباعية لرسوم الأطفال وقصصهم وغيرها.

3- مروان: الاغتراب مرتين: برلين ودمشق

مروان بدوره الذي كان مختصاً برسم وجهه عن المرآة (ما خلا الشاعر العراقي بدر شاكر السياب)، صوَّر شلبية وابنتها صفاء ونذير عدة مرات في أجمل لوحاته.

أما نذير إسماعيل المخطوف بدوره ضمن سرب المهاجرين إلى الأبدية باكراً، فهو من مواليد دمشق أيضاً 1948 قصفه الموت عن عمر يناهز 68 عامًا. اختص غالباً بتصوير وجوهه المجازية لذا فهو أقرب إلى وجوه مروان منه إلى فن نبعة.

مع ذلك لا يخلو هذا التبسيط من السذاجة مقارنة بوجوه مروان النخبوية. هي التي تملك تواصلها التقني العالي والفكري مع زميل دراسته جورج بازلتز مع استلهامات من أقنعة إنسور وتراجيدية سوتين. ولعل أشد أعماله خصوصية هي التي تكشف عورة هيرمافروديت التي تقع بين الذكورة والأنوثة. يعلّم في جامعة برلين ومعروف في الأوساط التشكيلية خاصة المتاحف. نذير إسماعيل عكسه، فنُّه عصاميٌّ فطريٌّ لم يدرس في أي معهد ولا ينقذ لوحته الوجهية إلا عمودية انفعاله الصادق، فالوجه لديه يمثل توليفاً تشريحياً إحباطياً قد يملك علاقة مع وجوه المعتقلين في أقبية المخابرات السورية التي كثيراً ما كانت تستدعيه من دون مبرر. وتوفي بصمت مريب في ڨيينا عمر حمدي. وسبقه في دبي عبد اللطيف الصمودي.

إذا راجعنا موروث نذير نبعة بالمقابل، وجدناه أشد ثراءً وتنوعاً من هؤلاء. خاصة وأنه يملك جرأة القفز من أقصى التجريد من جهة (من دلالة لقاح التشريح الصخري مع التنظيمي على مثال حواضر الأنباط وسيولة الألوان القزحية الفلكية البالغة الخصوصية)، إلى أقصى التشخيص الاستشراقي (ما بعد الرفائيلية).

نقرأ في الحالتين طبوغرافية تجريدية تعتمد ليس فقط على اللطخة اللونية وإنما أيضاً على تنوع نحت السطوح وخصوبة ملامسها الحسية وأنسجتها مثل ثقافة الملصقات التكعيبية أو بالأحرى “موادية” المدرسة الإسبانية وسواها. ولكنه تربوياً علّم تلامذته وهم كثرة، “فضيلة الرسم” في مناخ من الانفجار السكاني من المعاقين ما بين النقابة والجامعة.

(لذا فإن ابنه الروحي والأخلاقي باعتراف الاثنين هو يوسف عبدلكي الذي عانى من قهر مهمة دفنه بعد عمر أميرالاي). لا شك بأن نذير مثله مثل معاصره وزميله في مصر سعيد العدوي يقيم توازناً نادراً بين مفهوم الكرافيك و”الوحشية” اللونية. وإذا كان بين فنه وفن قرينته شلبية ما صنع الحداد من خلاف فإنهما يتبادلان الأطروحة وعكسها، حتى تبدو هي منهل خصب لبراءته التعبيرية وتبدو هي عقلاً أسطورياً مراهقاً يتشبث بشموخ فن نبعة.

4- رابع المستقيلين من الحياة غسان السباعي

يقع غسان السباعي رغم اشتراكه في الكثير من المواصفات الأيديولوجية مع نذير ومروان وممتاز في موقع آخر، لسبب بسيط أنه درس في مدرسة الإسكندرية فحمل خصائصها الفنية: الفرشاة العريضة وموضوعات محمد سعيد المرحة وبناءات أستاذه المباشر حامد عويس، يعتمد على نفس منهج هذه المدرسة في التبسيط اللوني ونحت العجائن الترابية المتوسطية الضوء. فيبدو أومض إشعاعاً من مروان ونذير. ولكنه لا يصل إلى مستوى الثلاثة في أخلاقية فضيلة الرسم لأنه في عجلة دائمة رغم ما يوحي به من صيغة تأملية. أما النحات الأصيل والواعد أحمد الأحمد فمعرفتي به وبفنه محدودة، رغم أني على يقين أن مصابنا به كفنان مضاعف لأنه لم يفرغ جعبته الإبداعية بعد.

علينا بالاستدراك أنّ اثنين من هؤلاء كانوا من جماعة العشرة: نبعة والسباعي والذين توفي منهم سابقاً نعيم إسماعيل وعبد القادر أرناؤوط وطارق الشريف وأحمد دراق السباعي. نتوقف عند الاسم الأخير الذي أسس متانة وروحانية “لمدرسة حمص” الفنية المتفوقة، من خلال تدريسه وقيادته لمركز الفنون فيها حتى توفي. جميعهم أيضاً تقدميّون يساريّون وعلى رأسهم المرحوم رضا حسحس وكرم معتوق وعبد الله مراد و إدوارد شهدا وغسان نعنع وسواهم، كانوا على تواصل مع جماعة العشرة (من الجيل الأكبر) بدليل أن عبد الله مراد أصبح عضواً في جماعتهم، وشكلت على نواظمها جماعة العشرة في طرابلس (لبنان) ومنها الفنان والناقد فيصل سلطان. بقي أن نذكر أنها كانت متزامنة مع جماعة “الرؤيا الجديدة” في العراق، وعلى تواصل دائم، مما سمح لبعضهم بالعرض أكثر من مرة في دمشق مثل ضياء العزاوي. ويملك صداقات متينة فيها. وكذلك علي طالب والمرحوم رافع الناصري صديق مؤسس مادة الحفر في جامعة دمشق الفنان غياث الأخرس (من جماعة العشرة أيضاً).

5-  عراقة خريف الموت

يبدو مصاب التشكيل السوري بالوفيات الجماعية عريقاً، ابتدأ منذ الثمانينات والتسعينات بغياب المؤسسين الرواد الأربعة: محمود حماد ولؤي الكيالي ثم فاتح المدرس ثم ناظم الجعفري والموسيقي الأكبر نجيب السراج وغيرهم. بل إن هذا المصاب لا يوفر الإبداعات الرديفة: فقدنا منذ أشهر المخرج نبيل المالح وقبله عمر أميرالاي وبعدهما مؤخراً الفيلسوف اليساري: صادق جلال العظم. سبقهم في دبي القصاص الدمشقي الشعبي حسيب كيالي ثم زميله الشاعر محمد الماغوط بعد نهاد قلعي الممثل وزميله السبيعي (أبو صياح) و، و، وحتى تعبت الذاكرة من تكسّر “النصال على النصال”.

أمدَّ الله بعمر الباقين على ندرتهم اليوم. والذين هاجر أغلبهم إلى أوروبا ولبنان وبقية الدول العربية.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى