صفحات الرأيعمار المأمون

الفن بوصفه حدثا سياسيا وليس وسيلة للخلاص الذاتي/ عمار المأمون

 

 

تعتبر إليزابيث بوفينيلي من أشد نقاد أنظمة الهيمنة النيو- ليبراليّة، والسلطات الغربية الديمقراطيّة، إذ تراها تسعى لتسميم العالم، وتحويله إلى مستنقع كبير، حيث تتحكم القوة السياسيّة- الاقتصاديّة العابرة للقارات باقتصاد السموم وتوزيعها، تاركة “الحياة الصحية” حكرا على فئة قليلة، تتحكم في أدوات الإنتاج والعنف، هذه الفئة وأدواتها تحاول احتواء “العالم”، بوصفه مساحات صرفة، لا بدّ من تغيير شروطها، كي تصبح مناسبة للإنتاج، بحيث تستهلك الجسد البشريّ الخانع، وتجعله وقودا لها، ولا تلبث أن تستبدل بشرا بآخرين، للحفاظ على سير الإنتاج.

الفن ضد السلطة

ألقت بوفينيلي مؤخرا سلسلة من المحاضرات في العاصمة الفرنسيّة باريس، بالتعاون مع جامعة السوربون ومركز كولومبيا الدوليّ، بعنوان “بين غايا واليابسة/ القوة الجيو- أنطولوجيّة والسياسة وعلم الجمال بعد الأرض المسمّمة”، وفيها تقترح بوفينيلي مفاهيم جديدة لفهم العلاقة بين الإنسان والأرض والسلطة، وتفكيك التاريخ الغربي، واستغلاله للأرض بوصفها “بكرا”، ثم تسميمها، ليأتي بعدها شعور الندم الرومانسي، والسعي للعودة إلى سحر الأرض الأول، حيث تقترح خارطة جديدة لعلاقات القوة في العالم، لا يكون مركزها “الذكر الأبيض”، الذي يبتلع عوالم الآخرين، ويعيد إنتاجها، لخدمة ماكينة الإنتاج.

تمتلك بوفينيلي لغة شديدة التعقيد، حيث تنحت مصطلحاتها ومفاهيمها الخاصة، محاولة تجاوز تاريخ الفلسفة التقليديّة والراهنة، فأفكار الغرب وسردياته، تختزن التاريخ الاستعماري وبنيت على أساسه. إذ تبدأ محاضرتها، بالحوريات كمفهوم شعريّ وميتافيزيقي، وعلاقته مع حنا أردنت و”الشرط الإنسانيّ” الذي تحدثت عنه بعد الحرب العالميّة الثانيّة، كما ترى أن “التشابك” هو أساس العلاقات بين الموجودات وسبب ظهور أي “موضوع” بشكله الحاليّ، إلى جانب تبنيها مفاهيم كالابتلاع، واللفظ، لوصف استراتيجيات التخريب التي تتبناها القوى النيو- ليبراليّة، التي “تبتلع” فضاءات “الحياة الأخرى”، ثم تنتج ذاتها على أساس المكونات الجديدة التي تتبناها، مهمّشة حقائق السكان الأصليين.

تقترح بوفينيلي في المحاضرة الأخيرة نظرية جماليّة، ترى فيها الفن كوسيلة لمساءلة الهيمنة النيو- ليبراليّة، بوصفه يقدّم علاقات أخرى بين مكونات الكون، فالفن وسيلة للإضاءة على أماكن التشبيك التي تختزن العنف، ويقترح حقائق بديلة عن تلك القائمة، وتناقش ثلاثة جوانب يجب على الفنّ تجاوزها، كي لا يقع في فخ السلطة، ويتحول إلى “حدث” ذي تأثير في العالم.

ترى بوفينيلي أن على الفن اجتناب الوظيفة “الطقسيّة”، بمعنى ألّا يتحول إلى غرض للخلاص الذاتي، بل جعله يسعى لتخليص ذاته من قيوده، فهو ليس غرضاً ينقل من مكان إلى آخر لتتم مشاهدته، والانتشاء به، فالقيمة الطقسيّة مرتبطة بالدين، الذي يجعل من الغرض الفنيّ فيتيشاً، ذا قوى خارقة، تنفي قدرته على التغيير “الآن وهنا”.

كذلك تقترح تفادي الفاشيّة، والمقصود بها تفادي تكريس الفن ضمن خطاب وطنيّ أو أيديولوجيّ، كي لا يتحول إلى معادل للانصياع، أو أداة للدعايّة. فالعمل الفني لا يختزن فقط قيما جمالية، بل يختزن كذلك أنساقا وعلاقات قوّة تخلق سلوكيات الطاعة، سواء في الدول القمعية أو في أشدها ليبرالية و ديمقراطيّة، إذ يتحول الفن إن كان “فاشيا” إلى وسيلة ترسخ أشكال الإنتاج الحاليّة، ويفتح المجال للسلطة لتوسيع أماكن هيمنتها الثقافيّة.

الفن ضد الماكينة

الجانب الأشد خطورة والذي ينسف جوهر الفن كحدث، هو التسليع، وتحويله إلى بضاعة للتداول، وخصوصا أن هذه العملية ديناميكيّة، فرأس المال قادر على “ابتلاع” المنتجات الفنيّة، حتى لو كانت مقاومة أو ضد الفن والسلطة نفسيهما، وهنا تكمن خطورة رأس المال، وقدرته على السيطرة، ليأتي الفن أشبه بمحرك للديالكتيك، ينفي “التشابك” الموجود، ووضعية الإنسان ضمنه، متحديا رأس المال، الذي يشبه صيادا بانتظار الفريسة، مترصداً لأي “ظهور فنيّ” حتى يتبناه ويتلاعب بشروطه من أجل الربح.

النظرية الجماليّة المقترحة تسائل شروط الإنتاج، وعلاقات القوة، التي تظهر ضمنها الأعمال الفنيّة المنصاعة، وتسعى لتقديم نوع جديد من “التشبيكات”، واقتراح حقائق ومعارف مغايرة لتلك السلطويّة أو الرأسماليّة، حقائق ديالكتيكية تشكك في ما نظنه “صحيحا” أو “جميلا”. إذ ترى بونيفيلي أن رأس المال أشبه بماكينة سحريّة، أو لاعب خفة، يشغل الأفراد من جهة، ليسرق جهودهم من جهة أخرى، وتوظيفها لخدمته.

وترى أن تفكيك هذه الماكينة ممكن عبر تبنيّ الأخطاء في العمل الفنيّ، وتلك نعتبرها سوء إنتاج، وتحويلها إلى شكل “ما فوق سرديّ”، يحيل إلى حقيقة تتجاوز الكمال الذي تدعي ماكينة الإنتاج أنها تمتلكه، سلسلة الأخطاء هذه، تحرر الفن من كونه “عالقا” ضمن شروطه، وتتيح له أن يتناول الفرد، بوصفه موضوعة في ذاته، وغرضا فنيّا بحاجة إلى التحرير من العلاقات التي يخضع لها.

تشير أيضا، أن رأس المال السلطويّ، يروج لأشكال فنية بوصفها “أصيلة” أو تعبر عن منتجيها، لكن هذا ليس إلّا جزءا من المنطق الكولونياليّ، الذي ينفي الحقائق التي تتبناها جماعة بشريّة، وينتج أغراضاً تنتمي إلى تلك الجماعات ويدّعي أنها “فن”، في حين أنها تكون مجرد غرض تواصلي أو دينيّ مشحون بأشكال الدونيّة، فعملية “التحويل إلى فن” في ذاتها تعكس التراث الاستعماري، والمنطق الذي يرى أن الشكل “الأبيض” للعلاقات هو الأمثل، لا ذلك القادم من “وراء البحار” أو “المستعمرات”.

كاتب سوري

العرب

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى