صفحات الثقافة

الفيديو السوري الأول

 

روجيه عوطة

حنين إلى الصورة السلمية ولو كانت مهزوزة

الصورة مشوّشة، لا ألوانها “مرتبة” ولا الأصوات. هنا مئات الناس سائرون، يخرج صراخهم هتافاً: “الله سوريا، حرية وبس! يا سوري وينك وينك؟”. إنهم يبحثون عن ذواتهم المفقودة، يفتشون عن لغةٍ جديدةٍ توصلهم إلى الحرية.

شكّل فيديو التظاهرة الدمشقية الأولى في منطقة الحريقة صدمة بصرية للمشاهدين. فبالنسبة إلى غالبيتهم، يستحيل أن يتجرأ أحدٌ على مواجهة سلطة بشار الأسد. لكن، في 15 آذار 2011، تجمّع سوريون في مسيرة شعبية في أحد شوارع عاصمتهم. صوّروها، ونقلوا أحداثها إلى العالم عبر “يوتيوب”. كان ذلك بمثابة إعلان عن بداية ثورة تاريخية على النظام البعثي.

خرج المشهد السوري غير رسمي، للمرة الأولى منذ زمن طويل. فبعدما اعتقلته السلطة طوال عقود، انتفض عليها، وأطلق سراحها. خرج منهكاً من الصورة النظامية، مهزوزاً ومبهماً، ولعل ثوريته كمنت في المجهول الذي ينطوي عليه. لم يكن معروفاً يومها إن كان هذا الفيديو سيفتح الباب أمام تحركات جديدة، ولا إن كان المتظاهرون فيه سيتكاثرون، مستقطبين سائر الشوارع السورية.

المؤكد أن السوريين لم يكونوا كتلة واحدة. استردّ كل منهم وجهه الخاص، ومعه استرجع صوته ولغته. سمع المشاهدون هتافات، ورأوا وجوهاً مختلفة، يسير أصحابها معاً، كتفاً بكتف، من دون أن يطغى وجه على آخر. كسر الفيديو التظاهراتي الأول الحاجز بين العين والصورة. ما عادت الأولى تنظر إلى الثانية من زاوية شمولية، بل باتت تحدق في تفاصيلها. فالشابة السورية التي تمر أمام الكاميرا، وتهتف بصوت مرتفع، تخلق المشهد من جديد، كما لو أنها تصنع  الفيديو وحدها، بلا تدخل لسُلطة المصوّر. الأمر نفسه ينطبق على كل متظاهر، بحيث لا تبقى الصورة أحادية، ومرتكزة إلى التماثل، بل تمسي متعددة ومتنوعة. فبدلاً من الفيديو الواحد، هناك مئات الفيديوات، وبدلاً من التظاهرة الواحدة، الآلاف منها.

“سلمية، سلمية”، هتف المتظاهرون في وجه الطاغية. قالوا له إن عصر الخوف انتهى، وأن جدران استبداده توشك على الإنهيار. اصطدم هتافهم الأبيض بلغة النظام السوداء، فاجأها، فلم تعرف كيف تعيقه. لذا، لم يتردد بشار الأسد في إفلات شبيحته وعناصر أمنه، لينكّلوا بهم، أحياناً حتى الموت. فالمتظاهرون تجرأوا على إعلان سلميتهم باختراقهم لصورته.

ليس الفيديو الأول تظاهرة دمشقية فحسب، بل مفتاحاً بصرياً، شرّع أبواب التاريخ السوري على التغيير. والأخير لا يُقاس بالمفاهيم المسبقة، لأنه وليد الواقع المتفلت من السلطات. بالتالي، على المرء، قبل مشاهدة الفيديو، اختيار الحقبة الزمنية التي ينتمي إليها المُشاهد: هل يسكن ماضي الثورة، أم مستقبلها؟ وهل سينظر إلى صور التظاهر بعين الحسرة أم العزم؟

عامان انقضيا على اندلاع الحرية في سوريا، وعلى السكوت الدولي حيال المذبحة المستمرة بحق الشعب السوري، ما أدى إلى ظهور التطرف والتشدد في المجتمع. لم يعد الفيديو الأول موجوداً في الفيديوات الأخرى، بل تعسكرت الصور، وازدادت دموية.

تغير كل شيء في سوريا. الشوارع التي رسمت التظاهرات تضاريسها خُرّبت، الهواتف والكاميرات المحمولة لتصوير التحركات والاحتجاجات استبدلت بالأسلحة لمقاومة الشبيحة والعسكر. لوهلة يظن المشاهد أن الضوء الذي انقشع في الفيديو الأول، خان السوريين، وتكشف عن عتمة غليظة، خانقة. وذلك، بالتوازي مع تغيّر اللغة، وانغلاقها الجزئي أمام مساعٍ مدنية ونسائية وديمقراطية. فالقتل وحده المسيطر، والأولوية لدحره وطرده من المشهد.

لم يبق من الفيديو الأساس أي صورة سلمية. العنف أطاح بكل مساعي اللا-عسكرة وحلولها. بدل الصورة التظاهراتية، صرنا نشاهد صوراً حربية، تفيض بالدم والجثث. تغيرت الأصوات، من هتاف الى أنين وعويل، وفقدت الوجوه تقاسيمها بعدما تلطخت بالآلام. بات الوجع سيد المشهد، واحتل التذابح غالبية الأفعال. فالفيديو الأول انتهى تحت القصف بالصواريخ والبراميل، كما انتهى بالتطرف، وما عادت الأجساد داخله مختلفة، بل متشابهة بخوفها من الموت، ومذعورة من مجزرة الأسد المستمرة.

الصورة انتهت، أما المذبحة فلا. إذ لا يتوقف الديكتاتور عن القتل، مدمّراً البلاد، ومنكلاً بمستقبلها بعد إبادة كل ماضيها العمراني والاجتماعي. لم يعد للسوريين مكان يلجأون إليه، حتى الفيديوات باتت غير آمنة. نزحوا منها، رحلوا عن الإبهام الذي خلقوه، وتفرقوا خوفاً من الاعتقال، وهرباً من القتل في صور غامضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى