صفحات سوريةفاطمة ياسين

القاعدة وتنظيم الدولة../ فاطمة ياسين

 

 

من بين الغبار الكثيف، نبشت الصحفُ وجهاً قديماً لرجل بعين واحدة، كان يقود حركة طالبان، يدعى الملا عمر، وقالت إنه قتل. النسخة القديمة لشكل من الإسلام المسلح المتزمت، أعلنتْهُ طالبان قبل أن تقضي عليها الهجمات الجوية الأميركية بعد غزوة أبراج التجارة. قيّض للملا عمر أن يعيش ليرى نسخة جديدة من ذلك الإسلام الجهادي الذي لا يعترف إلا بميادين القتال؛ حيث يمارس أقسى أنواع الفتك، ولا يتوانى عن إنزال السلاح الأبيض في رقاب أسراه. أما الإسلام الذي يحمل الكاميرا، ويستخدمها بأقصى إمكانية متاحة، ليحوّل حقول الإعدام إلى مسارح استعراض دامية، يركّز فيها العدسة على آخر الأنفاس الملفوظة من الضحية، فهو نوع جديد مبتكر، يعني، في ما يعنيه، أن حفلة الألعاب النارية التي هندسها بن لادن في جزيرة مانهاتن لأبراج التجارة العالمية ولّى، وبدأ طور جديد من استعراضات ذات طابع محلي.

استقر تنظيم طالبان في أفغانستان، الدولة المنهكة بالحروب التي ورثت تراثاً إسلامياً، لا وجود لحرف الضاد فيه! ومن هذه القاعدة، أشيع قالبٌ إسلامي عنيف، في الداخل، فيما استقر بن لادن في معقله الحصين الآمن، يهندس مع زملائه الهجمات الإرهابية عبر العالم، فكانت تفجيرات السفارات الأميركية في نيروبي ودار السلام وغيرهما.

لم تهدّد هذه الغزوات الصغيرة المتباعدة النظام العالمي، لكنها حوّلته إلى كائن غاضب، شكَّل بعد حوادث سبتمبر قوة ماحقة، أودت بقلاع القاعدة الحصينة في أفغانستان، لكنها، طبعاً، لم تقضِ عليها بشكل كامل، فقد احتفظت القاعدة بجيوب كثيرة موزعة هنا وهناك، لكن أصابعها الطويلة القادرة على الوصول بفاعلية إلى عواصم أوروبا أنهكت تماماً، وأصبحت تعيش على صورة بن لادن، بلباسه شبه العسكري، وسبابته المرفوعة.

يتطلب هذا “الإسلام” المرتكز على الغزوات بعيدة المدى “قاعدة” حصينة، تنطلق منها التوجيهات والأفكار إلى جيوش منتشرة بأعداد قليلة، قادرة على الاختراق والضرب السريع، جيوش يمكنها أن “تنتج”، بميزانيات قليلة، رقعة دمار كبيرة تحفز الإعلام، وتمده بالأخبار فترة طويلة.

تركّز كاميرا الفضائيات في هذا النوع من النشاط على ساحات الدمار والوجوه الخائفة والورود المنثورة في مواقع سقوط الضحايا، لا يتدخل “الفاعل” هنا بالكاميرات، ولا بفتحة عدستها، فهذا الدور متروك لإعلامي مستنكر، أو غاضب، وربما متعاطف، فتخرج التقارير الإخبارية ملونة بوجهة نظر المصور، فيما يختفي الفاعل خلف أكوام الدمار، وفي مؤخرة المشهد الذي تعيد الذاكرة تشكيله بهيئة رماد أو دخان أسود. ركز بن لادن على الشكل الديني الورع، كالزي والآداب العامة، وإظهار سنة نبوية ذات طبيعة تقشفية، تنفر من كل ما يُلهي عن ذكر الله، كالموسيقا والغناء.

الظرف الذي وجد فيه تنظيم الدولة الإسلامية مختلف تماماً، فالأرض أمامه شبه مفتوحة واسعة وثرية بالماء والنفط. وعليه أن يُخضع عدداً كبيراً جداً من الناس ذوي إثنيات مختلفة، ومن مِلَل ونحل مغايرة، فأسس جيوشاً محلية ضخمة بمعدات ثقيلة “متاحة”، وانكفأ نحو الداخل الغني، وأداره بقوة، ليُبقيه تحت السيطرة، طالما العدو على مقربة. انشغلت “نسخة الإسلام” الحالية عن العدو الخارجي وفسطاط “الكفر”، فالعدو أصبح على مقربة، وضمن المدى الممكن التحرك فيه. ووجد التنظيم الجديد نفسه بحاجة إلى حمل الكاميرا بنفسه، فدخول كاميرات مغايرة إلى أرضه ممنوع، وتفنن في ذلك، وابتكر هندسة للموت، لا تمل منها الشاشات، وبالغ في إظهار التفاصيل، حتى لا يسأم المشاهد من تكرار الصورة نفسها، فعرض بمهنية عالية شرائط تدل على إيمانه بقوة الإعلام. ركز هذا “الإسلام” على إقامة الحدود، وبالغ في تطبيقها بكيفية يُظن أنها طبقت بها في عصور الإسلام الأولى، وهو يسوّق هذه الصور على أنها الأكثر نقاء للتقوى في إقامة الحدود.

نشأت كل صورة من هذه الصور بشكل منفصل، وبلْورتها الظروف المحيطة فشكلت إسلاماً حسب القالب المتاح، لكن العامل الأساسي في ظهورها إلى الوجود هو الفوضى وغياب الأفكار المنافسة للعقائد الدينية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى