صفحات الناس

“القاعدة” و”فتح الشام”: تناقض الرواية وتجزئة الحقيقة/ عقيل حسين

 

 

 

“القاعدة” و”فتح الشام”: تناقض الرواية وتجزئة الحقيقة الخلاف استمر دون الوصول إلى حكم نهائي حتى الآن

“من الآخر، الجولاني نقض بيعته وانتهى الأمر، وما الاجتماعات والمحاورات والوفود واللجان إلا لصرف الأنظار عن تلك النقطة المحورية، فالجولاني لن يقبل بعودة للقاعدة بأي شكل كان..”. هكذا حسم طارق عبدالحليم، أحد أشد داعمي موقف “القاعدة” في خلافه مع “هيئة تحرير الشام”، المسألة التي ما زالت تنتظر الحسم رسمياً منذ شهرين، والتي تفاقمت في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، عندما ألقت “الهيئة” القبض على قادة التيار الساعي لعودة تنظيم “القاعدة” إلى سوريا.

وعلى الرغم من تشكيل لجنتين للحكم في القضية، من شخصيات بارزة في التيار السلفي الجهادي، إلا أن الخلاف استمر دون الوصول إلى حكم نهائي حتى الآن، ما سمح بتصعيد متبادل، تشير كل المعطيات إلى أنه مستمر، خاصة مع تشبث كل طرف بموقفه، وإظهار استعداد متنام للدفاع عنه حتى النهاية.

اللجنة الأولى التي أطلق عليها اسم “الصلح خير”، وباشرت أعمالها لحل الخلاف بين الجانبين في تشرين الأول/أوكتوبر 2017، لم يستمر عملها سوى أيام، بسبب تحفظ “هيئة تحرير الشام” على غالبية الاسماء المكلفة بها. وهو الأمر الذي جعل الطرف الآخر يتحفظ بدوره على لجنة التحكيم الجديدة، التي تم الإعلان عنها في 4 كانون الثاني/ديسمبر، والتي حملت اسم “لجنة الفصل/واعتصموا”، بسبب ما قال فريق “القاعدة” إن “هذه اللجنة أقرب إلى هيئة تحرير الشام، وأن حكمها سيكون متحيزاً على الأغلب”.

“التحيز” يبدو هو العنوان الرئيسي للخلاف الأخير والأكبر داخل التيار السلفي الجهادي، بعد الخلاف المشهود إبان صعود “تنظيم الدولة الإسلامية” عام 2013، إذ يغلب التشكيك على رواية كل طرف للمشكلة، ويبدو واضحاً مدى تحيز كل فريق في صياغته للسياق والتفاصيل. وإذ حاول كل منهما تجنب الاختلاق والتلفيق، فإنهما وبانتقائية واضحة، عملا على اجتزاء ما يعزز سرديتهما، من خلال تركيز كل طرف للأضواء على الأجزاء التي يفضل إظهارها، وتوظيف ذلك في التأثير على الجمهور، ما أمكن، لتأكيد مظلوميته، وأحقيته أيضاً.

يمكن الحديث بأريحية طبعاً عن وجود مصدرين لكل سردية من سرديات طرفي المشكلة، وهما المصدر الرسمي؛ البيانات والتصريحات الصادرة عن القياديين المخولين، والمصدر الرديف التي تعبر عنه المقالات والأخبار والتعليقات الصادرة عن شخصيات ومنصات تابعة أو مؤيدة لطرفي الخلاف. ومن خلال ملاحظة وتلخيص ما أوردته المصادر الرسمية وغير الرسمية منذ تفجر المشكلة حتى اليوم، يمكن تلخيص سرديتي كل طرف التي تجري محاولة تسويقها وتقديمها على أنها تمثل الحقيقة.

بالنسبة لرواية “هيئة تحرير الشام” التي أمكن استخلاصها من بيانات “الهيئة” الرسمية التي صدرت عنها بهذا الخصوص، وكذلك من رد المسؤول الشرعي العام فيها، عبدالرحيم عطون على رسالة زعيم “القاعدة” وكلمته المسجلة الأخيرة المخصصتين لهذه المسألة، وكذلك أيضاً من تعليقات ومقالات قياديين من الصف الثاني فيها، أو مؤيديها الاساسيين داخل التيار السلفي الجهادي، فيمكن القول إن هذه الرواية تقوم على العناصر الرئيسية التالية: كل ما يجري حالياً مفاجئ ولا مبرر له، فليس هناك أسباب منطقية تفسر موقف الطرف الآخر وإثارته لفتنة من هذا الحجم في هذا التوقيت الحساس، سوى قصر نظر خصوم “هيئة تحرير الشام” وضيق أفقهم، وتقديمهم الخلافات الشخصية على المصلحة العامة. بل أن كثيراً من أنصار “تحرير الشام” لم يتوانوا عن اتهام خصوم “الهيئة” بالغيرة من أبي محمد الجولاني، شخصياً، بسبب ما يقولون إنها “نجاحات كبيرة” يحققها.

وعليه، فإن هؤلاء ينفون كل ما يقال عن نقض “هيئة تحرير الشام” البيعة لتنظيم “القاعدة” بطريقة مخالفة للشرع، ويؤكدون أن ما جرى بهذا الخصوص، هو اتفاق “الهيئة” داخلياً على فك الارتباط بـ”تنظيم القاعدة”، وموافقة قيادة “التنظيم” على هذه الخطوة، بدليل مباركة مندوبي الظواهري إلى سوريا، عندما ظهر نائبه أبو الفرج المصري، في تسجيل إعلان فك الارتباط، في تموز/يوليو 2016، بعد تلقيه رسالة من الظواهري تمنحه الضوء الأخضر للقيام بذلك.

وإن كانت هذه المباركة أو الموافقة قدد التبست لسبب ما أو في ظرف ما، فإن “جبهة النصرة”، حسب المدافعين عنها، لم تكن لتقدم على هذه الخطوة إلا بعد عدد كبير من الرسائل الخاصة والخطابات العامة لقائد تنظيم “القاعدة” ومشايخ التيار الجهادي المقربين منه، والتي تحث كلها على ضرورة التوحد والاندماج بين الفصائل الجهادية في الشام، ونبذ النخبوية عبر الانفتاح على الجماهير، والتعاون مع مختلف التيارات الإسلامية، بحيث تبدأ ترجمة عملية لمفهوم “جهاد الأمة” وليس جهاد النخبة.

ولتحقيق هذا الهدف، تضيف رواية الطرف الأول، فقد كان على “جبهة النصرة” الاستجابة لمطلب رئيسي يتفق عليه الكثيرون، بمن فيهم قادة “القاعدة” أنفسهم، وهو ضرورة فك ارتباط “الجبهة” بتنظيم “القاعدة”، على الأقل لنزع ذريعة ربط الثورة بالإرهاب.

لكن ما ظهر لأصحاب هذا التوجه كما يقولون، هو أن الحث على التوحد والدعوة للانفتاح على الشعوب والمجتمعات، حتى لو كان ثمن ذلك التضحية بالاسماء والتنظيمات، كما تردد مطولاً في خطابات الظواهري وغيره من القادة والمنظرين الداعمين له، لم تكن إلا كلاماً دعائياً تهاوى عند أول محك. وما تأكد عندها، يضيف هؤلاء، هو أن قادة تنظيم “القاعدة” والمشايخ المتحالفين معه، الذين يمكن تسميتهم بالحرس القديم، أظهروا استعداداً جامحاً لتقويض أي محاولة، ولتعطيل أي جهد قد يؤدي إلى إضعاف قبضتهم أو تهديد هيمنتهم التقليدية داخل التيار الجهادي، في حال ولادة أشكال جديدة من التنظيم والقيادة والتوجيه فيه. أشكال سيجعلها الحرس القديم مارقة ومغضوباً عليها، وسيحاربها بكل ما يمكنه من أجل المحافظة على سلطته وسطوته، المقدمة عندهم على أي اعتبارات أخرى.

وأخيراً، فإن أنصار الجولاني وفريقه في هذا الخلاف، لا يترددون في اتهام الطرف الآخر بالسعي لتخريب “هيئة فتح الشام” وشق صفها، من خلال السعي لإعادة تأسيس فرع جديد لتنظيم “القاعدة” في سوريا. بل والأسوأ في كل هذا، هو التركيز على استقطاب المقاتلين “المهاجرين” إلى هذا الفرع، من خلال عزف مريب على وتر هذه الفئة الحساس، باستخدام أكاذيب وتلفيق أخبار وتسويق معلومات مضللة لكسب التعاطف وشيطنة “فتح الشام”، ما أدى لانسحاب المئات منهم من “الهيئة”، وترك كثير من المهاجرين ومن السوريين مواقع الرباط في ظرف شديد الخطورة.

في المقابل، يرى الطرف الذي يمثل تنظيم “القاعدة” بشخص زعيمه أيمن الظواهري، وأتباعه الموجودين على الأراضي السورية، أو المشايخ والمنظرين الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، أن رواية قيادة “هيئة تحرير الشام” وأنصارها، لا تعدو أن تكون دعاية تضليلية تهدف للتغطية على سياق طويل من البراغماتية التي مارسها أبو محمد الجولاني واتباعه في العلاقة مع “القاعدة”. ويمكن تلخيص سردية هذا الفريق بالنقاط التالية: ما جرى من إعلان لفك الارتباط بين “جبهة النصرة” وتنظيم “القاعدة” عام 2016، إنما جرى بترتيب مدبر من جانب الجولاني وفريقه، الذين استطاعوا أن يوهموا الجميع بأن قادة “القاعدة” في خراسان قد وافقوا على هذه الخطوة بهذا الشكل، كما أوهموا الجميع، بأن عملية فك الارتباط ستكون شكلية، بينما ستبقى البيعة والعلاقة بين التنظيم الأم وفرعه في سوريا قائمة سراً.

عملياً، يضيف اصحاب هذا السرد، فإن قيادة “الهيئة” التي اتخذت هذا القرار، لأسباب هي في الحقيقة بعيدة تماماً عما تعلنه وتروج له، قد تعاملت على أرض الواقع مع البيعة لتنظيم “القاعدة” على أساس أنها منتهية تماماً، فبدأت تتصرف بشكل مستقل من جهة، ومخالف من جهة أخرى لنهج وفكر “التنظيم” ورؤية قيادته، خاصة بعد مقتل كل من أبو الفرج المصري وأبو الخير المصري، بعد إعلان فك الارتباط بأسابيع. الأمر الذي أراح فريق الجولاني من سلطة الرقيب، ورمزية الرجلين الذين ما كانا ليقبلا بأي من تصرفات قيادة “فتح الشام” وانحرافاتها المنهجية والشرعية.

ومع وجود تيار داخل “جبهة النصرة” رفض خطوة فك الارتباط من حيث المبدأ، وعارض تطبيقها عملياً بهذا الشكل، واستمر عناصره في محاولاتهم عرقلة اندفاعة قيادة “فتح الشام” المحمومة نحو الاتجاه الخطأ، ومع شعور الجولاني وفريقه بتعاظم قوة هذا التيار الذي يقوده أردنيون مقربون من أبو محمد المقدسي، هما سامي العريدي وأبو جليبيب، بالإضافة إلى أبي همام الشامي، وزيادة عدد اتباعهم، والخشية من تفاقم تأثيرهم، خاصة على العنصر المهاجر في “الهيئة”، فقد تحرك الجولانيون للبطش بهذا الفريق والقضاء عليه، باستخدام ذرائع واهية لا تقيم أي اعتبار لاسم أو تاريخ أو رمزية.

وتعود رواية تنظيم “القاعدة” مرة أخرى إلى النقطة الأكثر حساسية في الخلاف مع “هيئة تحرير الشام”، لاتهام الجولاني وفريقه بتوظيف موقف تنظيم “القاعدة” من “داعش” والاستفادة منه في المواجهة العسكرية والفكرية، من خلال التجنيد والتمويل الذي وفره له إعلان التبعية لتنظيم “القاعدة”، بما ساعدهم على التخلص من التبعية لتنظيم “الدولة” والنجاة من بطشه. وعندما أصبحوا في موقف القوة، بدأوا يسعون للتخلص من التبعية لـ”القاعدة”.

وهناك نقاط أخرى عديدة في رواية كل طرف للمسألة، والحقيقة أن في كل قول جزء من الحقيقة التي يغفل كل طرف أنها تتشكل لدى الجمهور في النهاية، بشكل لا يقبل التشكيك على قاعدة “من فمك أدينك”، باعتبار هاتين السرديتين اعترافات، وذلك من خلال دمج الروايتين المجتزأتين، بما يؤدي إلى أدانة كل منهما بما يتهم به الآخر، بعد عقود من القداسة والطهرانية التي أسبغها التيار السلفي الجهادي على نفسه أمام الرأي العام الذي ظل خارج اهتمامات هذا التيار حتى الآن.

والقاسم المشترك في هاتين السرديتين هو أنهما متصلبتان وعدائيتان، تفترضان الحقيقة المطلقة في جانبهما، وتنطلقان بناء على ذلك في التعاطي مع المسألة، التي تكشف منذ البدابة عن نقطة جوهرية لا يبدو أن التيار السلفي الجهادي بوضعه الحالي قادر على استيعابها، وتتعلق بولادة أجيال جديدة ترفض ما هو سائد وتطالب بتغييره. وهي تطورات طبيعية في النهاية، لكنها لا تجد في العادة قبولاً داخل الاطارات الإيديولوجية المتصلبة. وبالتالي، فإن مصير هذا التيار لن يكون مختلفاً، بأي حال، حتى مع إمكانية توفر حلول مؤقتة، عن مصير كل الجماعات الإيديولوجية الأخرى التي تشظت وتفتت أو أفنت نفسها بنفسها، بسبب عجزها عن استيعاب ديناميات التطور داخلياً وخارجياً.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى