صفحات سوريةعمر قدور

القدر عندما يسخر من الطاغية

عمر قدور

“قديش بتعمل بالتنكة؟”، سؤال متداول يطرحه السوري عن مدى اقتصادية السيارة، لمعرفة المسافة التي تقطعها السيارة لقاء تنكة “20 ليتراً” من الوقود. أحد المدوّنين السوريين على الفيسبوك يحرِّف السؤال ليصبح: “قديش بتعمل الميغ بالتنكة؟”. فتأتي الإجابة: “على الأقل، خمس بنايات وحوالي تسعين قتيلاً”. سبق أيضاً، مع دخول دبّابات النظام إلى مدينة حمص، أن أنشأ أحد المدوّنين صفحة بإسم “مغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات”، مفتتحاً بها موسماً من التندّر على آلة الحرب التي راحت تدكّ بيوت المدنيين.

بمثل هذه السخرية ينتزع السوري ابتسامته من تحت أنقاض القصف، سخرية تحمل خصوصية ما يكابده السوريون. لكنها ليست المرة الأولى التي يجترح فيها شعبٌ الفكاهةَ من ثنايا المعاناة، إذ لطالما كانت السخرية ملاذ المقهورين. مع ذلك سيكون للسخرية السورية اعتبارٌ خاص، بوصفها افتراقاً عن الرطانة والسماجة البعثيتين. بسبب الحكم المديد للبعث لم يُعرف السوري كصاحب نكتة، وتغلّبت عليه صورة السلطة وشعاراتها وإنشائها المملّ عن القضايا الكبرى. فضلاً عن ذلك كانت الرقابة تضيّق دائماً على مساحة الحرية الضرورية لانتعاش السخرية، ولم يكن ممكناً تداول بعض النكات إلا همساً.

بدورها لم تكن الثقافة السائدة إلا لتخفض من قيمة السخرية، وهي في هذا تقتفي أثر الثقافة السائدة عالمياً. ولعلّنا هنا نسترجع القسمة الموغلة في القدم، حيث كانت الأساطير والملاحم تصنّف كفنّ نبيل، على الضد من الفكاهة التي يُنظر إليها كفنّ أدنى خاصّ بالعوام. مثلاً، ما كان مسموحاً تناوله في مسرح الساتيرا الإغريقي من تلميحات ونكات لم يكن مسموحاً به في مسرح الأساطير، ففي الأخير تُحافظ القيم على هيبتها من أي خدش، وينعدم المرح، بل يُنظر إليه كنوع من البذاءة. لم تتخلّص الثقافة المعاصرة من هذا الإرث تماماً، إذ لا تزال القسمة موجودة، وقلّما يأخذ الأدب الساخر الاهتمام النقدي الذي يحظى به الأدب الجاد، وأيضاً قلّما اعتلى نجوم الكوميديا وأفلامها لائحة الترشيحات للجوائز الكبرى.

على العموم لا تعترف السلطات التقليدية بالسخرية كطريقة من طرق المعرفة، ومن الأولى ألا تعترف بها الديكتاتورية، وأن تعمل في الحد الأدنى على الحطّ من قيمتها، أو دفعها إلى مقام التهريج السطحي، وأن تسعى في المقابل إلى الإعلاء من شأن الطاغية، وترسيمه كخلاصة للمهابة، وبالتالي امتناعه عن أن يكون موضوعاً للتندّر. على ذلك لن يكون مستغرباً الحجم الهائل من التندّر الذي حظي به رأس النظام السوري، فالسخرية بهذا المعنى هي انتقام من القداسة التي أصبغتها ثقافة الاستبداد على شخص الطاغية. هي إنكار لكل ما حاول الطاغية تعزيزه عن نفسه من صفات تعلو به عن البشر العاديين، وبالتالي قد تغالي في إعادته لا إلى حجمه الواقعي وإنما إلى ما يبدو دون الواقع.

لكننا أيضاً نجافي الواقع عندما نقرأ هذه السخرية في إطار النقمة العابرة وحسب. فمن المنتظر في نظام ديمقراطي أن تنال حصة أكبر من الاعتراف الثقافي والمجتمعي، وأن تكفّ عن كونها مجرّد باب خلفي للتنفيس عن الاحتقانات، بخاصة أنواع الكبت في الديكتاتوريات التقليدية التي تتمحور حول السياسة والدين والجنس. لقد أثبتت الديمقراطية على المستوى الكلي أنّ ما كان يُعدّ فناً أدنى حظي بالفرصة لتعزيز مواقعه باطّراد، بالتزامن مع ما نالته الفئات المهمّشة من حق في المشاركة السياسية. لذا من المأمول ألا يقتصر أثر الثورة على المستوى السياسي، أو على زمن حدوثها، بل أن تطال لاحقاً البنية والتراتبية الثقافية التقليديتين. بانتظار ذلك الأثر المديد لا بأس في أن نستمتع بما درج على تسميته بـ “سخرية القدر”، فالثورة تؤوّل هذا المجاز بأن القدر لا يكون رحيماً البتة عندما يسخر من الطغاة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى