صفحات سوريةطيب تيزيني

القذافي و”المأساة الملهاة”


د. طيب تيزيني

مع مقتل القذافي تتحقق خطوة جديدة على طريق تأسيس عالم عربي جديد، وكان المشهد مذهلاً، حين عُرض القذافي مقتولاً على قنوات تلفزيونية، وصح القول بأن الطغيان يلتهم صاحبه. بل إن ما أعلنّاه في كتابات سابقة تحت مصطلح “الاستبداد الرباعي”، يجد في هذا الحدث انعكاساً مفرطاً في مأساته الهزلية. فلقد حرص الرجل طوال حكمه المديد (اثنين وأربعين عاماً) على التأكيد على أنه الأول والأخير في ليبيا والعالم العربي (لنتذكّر ما خاطب به الزعماء العرب في سياق حديثه عن قتل صدام حسين. قال: (سيمرُّ الدور عليكم جميعاً)! أعلن ذلك بلغة ساخرة منهم جميعاً، وواثقة منه نفسه بإطلاق. القذافي، جسد السلطة الليبية في ذاته المتعالية. وقد أفصح عن ذلك في النظر إلى ذاته عبر “الكتاب الأخضر” على أنها اكتشفت قوانين المجتمعات عامة وطبقتها على ليبيا بعبقرية واقتدار.

أما من طرف الثروة فقد وظّف عائدات النفط في بلاده في خدمته وخدمة عائلته ومقرّبيه. والملفت أن بعض وسائل الإعلام أعلنت نقلاً عن مراجع مالية معينة أن القذافي امتلك ثروة يصل حجمها إلى خمسة وستين ملياراً من الدولارات، ناهيك عن الكتل الذهبية الهائلة، التي امتلكها. أما الإعلام الليبي فتمثل في ما كان يفكر به قائد الثورة وما كان طرحه أمام الرأي العام، الذي كان عليه أن يتمثله ويعمل بمقتضاه.

ذلك هو ما ضبطه المفكر السياسي عبدالرحمن الكواكبي، الذي رأى في كتابه (طبائع الاستبداد)، أن الاستبداد إنما هو الرذيلة بعينها، التي تدمر العباد وتلتهم صاحبها، حيث يرتفع الأمر إلى مستوى كارثة وطنية، أما المستوى الأخلاقي الوطني لـ”ملك الملوك” فقد اتضح من خلال حربه الشعواء، التي قادها ضد شعبه، حين حدّد هذا الشعب بكونه “جرذاناً”. وبهذا الاعتبار، يمكن القول بأن ما حدث في ليبيا إنما هو حالة نموذجية لما حدث وما يحدث وسيحدث في العالم العربي، وإنْ كان أكثر هزلاً ومأساوية و”مسخرة”. ولعلنا نضيف إلى ذلك عنصراً آخر تمثل في أن القذافي، في مسلكه الجنوني، فتح الأبواب أمام مطالبةِ مجموعات قد يشكَّك في وفائها الوطني تجاه ليبيا، بالاستقواء بالخارج، ممثلاً بحلف “الناتو”، وهذا ما كان، وسنلاحظ أن هذا الموقف القذافي يكاد أن يكون قاسماً مشتركاً بين حكام البلدان المشتعلة راهناً بثورات الشباب: إنهم لا يستجيبون لمطالب شعوبهم المشروعة، فهم يواجهونهم بالعنف، ويصمونهم بالحقارة وبكونهم حشرات، ويلعبون على حركاتهم الشبابية، التي جاءت رداً على أربعة عقود ونيّف من الاستبداد والفساد والإفساد. وفي هذا وذاك، يندهش أولئك الحكام، حين يقوم أولئك الشباب بثوراتهم، التي يعلنون أنها “مؤامرات أميركية”.

وإذ يتحول التحرك الشبابي إلى “عمل أميركي إجرامي”، فإن الحكام العرب المعنيين يعتقدون أنهم أصبحوا يملكون الحق في مواجهة ذلك التحرك. والأمر يزداد اضطراباً، حين يلجأ بعض الحكام المذكورين إلى استخدام الرصاص. وهكذا تكتمل عناصر المأساة – الجريمة. وحين تنتهي أسطورة الحاكم العربي الأبدي في سلطته حيث يسقط تحت قبضة ضحاياه من الشباب وعموم الداعين إلى الإصلاح الوطني الديمقراطي.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى