صفحات العالم

القراءتان الإختزاليتان للوضع السوري


ميشال أبو نجم

كشفت الأزمة السورية مدى هشاشة القراءتين الاختزاليتين اللتين عبّر عنهما الحلفاء الإقليميون واللبنانيون لفريقي النزاع من سياسيين و”مثقفين” ويصرّون عليهما حتى الساعة.

هذا مع العلم أنَّ الصراع في سوريا يوفّر مادة دسمة للدراسة والتحليل والغوص في التركيبة الإجتماعية السورية ودعائم سلطوية النظام وتشابك مصالح اللاعبين وتقاطعها، فضلاً عن رهانات القوى الدولية والإقليمية التي باتت تتحكم بكثير من مفاصل الصراع السوري. كانت القراءات التحليلية العميقة التي تغطي كل أبعاد الأزمة السورية نادرة…

منذ بداية الإنتفاضات، أصرّ النظام السوري ومعه فريق “الممانعة” في المنطقة بأن التغيرات العربية ستتوقف عند الأسوار السورية لا لشيء، إلا لأنَّ “الممانعة” في وجه إسرائيل ودعم حركات المقاومة هي الدواء السحري لكل المعضلات الداخلية التي ستشكِّل لاحقاً “العاصفة المتكاملة” Perfect Storm حين تتوافر لها الظروف الخارجية الملائمة. قدّم فريق “الممانعة” وحلفاؤه قراءةً اختزالية أو تجاهلية لأبعاد الثورتين المصرية والتونسية حين ألبست إيران هذه التغيرات طربوش “الصحوة الإسلامية”، واعتبر النظام السوري بأن وضعه يختلف عن وضع النظامين المصري والتونسي بسبب وقوفه في وجه إسرائيل ودعمه “حزب الله” و”حماس” الخارجة لاحقاً من عباءة المحور الإيراني الشيعي إلى رحم “الإخوان المسلمين”.

وكأن ثورتي تونس ومصر لم تنطلقا من دوافع داخلية وكأن “كمب ديفيد” كانت هي العامل المفجر لانتفاضة 25 يناير، وكأنَّ السياسة الإقليمية للنظام السوري تعفيه من معالجة تداعيات التسلط الأمني وقتل السياسة والإحتقان الإجتماعي في الريف، والتناقضات الطائفية، والنمو العمراني العشوائي، وتمدّد الأصوليات التي غضَّ النظام الطرف عنها واستخدمها لمواجهة الولايات المتحدة في العراق. لم يتأثر أطفال درعا والشباب المعارضون بممانعة النظام ضد إسرائيل ليندفعوا عفوياً في مطالب محقة كنظرائهم في الدول الأخرى، ولم تكن في بداية الإنتفاضة السورية حالة مسلّحة يمكن أن تبرّر الخيار الأمني القاسي.

اختزلت قراءة الممانعة الوضع السوري بقراءة استراتيجية تضعه في إطار لعبة الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية فقط وتجاهلت الداخل والعوامل الديموغرافية والإجتماعية والإقتصادية.

في المقابل، اختزل فريق “الإعتدال” في المنطقة ولبنان الإنتفاضة السورية وتداعياتها بثورة الحرية والكرامة ضد نظامٍ استبدادي، من دون إغفال العوامل الخارجية المحيطة. وعلى الرغم من اشتراك قوى إقليمية مذهبية ودولية في الصراع السوري، ومع الإتجاه نحو عسكرة الإنتفاضة السورية، بقيت القراءات “الإعتدالية” و”الربيعية” مقتصرة على مقاربةٍ داخليةٍ محض تستند إلى منظومة “القيم” والحقوق، متجاهلةً الوضع الإستراتيجي الإقليمي والدولي، وغافلة عن المدى الذي يمكن أن تأخذه أي انتفاضة مهما كانت شعاراتها محقة في مجتمعٍ متعدد مذهبياً ويحمل هواجس الماضي القريب والبعيد.

تجاهلت القراءة المؤيدة بالمطلق للإنتفاضة السورية أيضاً السعير المذهبي الذي أذكته السعودية وقطر والشيوخ الوهابيون والسلفيون، وأغفلت مدى تعقيد التركيبة التي برع النظام في إنشائها على مدى عقود ولو محمية بالأجهزة الأمنية، والتي جعلت الوضع السوري مختلفاً عن دول “الربيع” العربي الأخرى. وكان من الصعوبة بمكان أن تُقنع “المعتدلين”، واللبنانيين منهم بصورةٍ خاصة، بأن المطامح الإستراتيجية في المحيط الإقليمي والدولي ستجعل مدة بقاء النظام أطول من “الأشهر” القليلة التي حددوها لسقوطه، وبأن الإندفاعة العثمانية لتركيا وسعي السعودية وقطر لكسر المحور الإيراني السوري لا يمتان بصلة إلى مطامح الشعب السوري ومنتفضيه، مع ما يمكن أن يستجلبه ذلك  في المقابل من رد فعلٍ إيراني وروسي في شكل خاص لمنعِ كسرِ التوازن الإستراتيجي الذي لا تقتصر أبعادُه على الحدود السورية.

واتضح لاحقاً أن الرؤى الرومنطيقية لا تنفع في حثّ واشنطن على التدخل العسكري وقاصرة عن التقاط مدى خطورة إسقاط النظام على الأمن القومي لروسيا المحُاصرة من الدرع الصاروخية وإسلام القوقاز وآسيا الوسطى. كان الحديث عن أنَّ الصراع العسكري سيفتح شهية الجهاديين المتنقلين على محور العراق- سوريا- لبنان للمشاركة في تلبية نداء الواجب الديني دافعاً للتخوين بأنَّ قائله من أنصار النظام والقتل وقمع السوريين، في الوقت الذي سطعت الآن حقيقة اتجاه الأوضاع نحو “أفغنةٍ” ما باتت تثير مخاوف الغرب وقلقه.

وكان من الصعوبة بمكان أن تُقنع أصحاب الرأي الذي يلقي بكاملِ المسؤولية على النظام ويتجاهل الرهانات الخليجية والغربية، بأنَّ كل هذه العوامل تسرِّع في اتجاه المسار نحو تسوية ما، مع بشار الأسد أو من دونه، أو أنها ستزيد من حدة الصراع الدامي ولن تسهل إنهاءه على ما يتمنى أي محب لسوريا بلداً متماسكاً موحداً.

في كلتا القراءتين، اتسع المكان للتخوين وللمكارثية ضد كل من يقدِّم قراءة مختلفة أو متمايزة، تحت شعار “إما معنا أو ضدنا”، مع العلم أن المعطيات المذكورة ساطعة للجميع.

يستحق الوضع السوري أكثر من قراءاتٍ أحادية لتداعيات انتفاضة تحولت لاحقاً حربا دامية، هي اليوم إحدى تعبيرات التطاحن الإقليمي والدولي على النفوذ في شرق المتوسط.

مساعد مدير مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى