صفحات الثقافةمنذر مصري

القصة شبه الكاملة لما حدث بين ي. ب. اللبناني وم. م. السوري: شهادة مقابل شهادة/ منذر مصري

 

 

إذا كان من حقّ أحد أن يتفجّع على توقف ملحق “نوافذ”، ويقيم له حفل عزاء لثلاثة أيام حسب السنّة النبوية الشريفة، فهو شاعر سوري، أول حرفين من اسمه (منذر مصري). في العام 1995، وبعد انقضاء 16 عاماً على صدور أول مجموعة شعرية لي، “بشر وتواريخ وأمكنة” (وزارة الثقافة/1979) تخللها صدور المجموعة الشعرية المشتركة “أنذرتك بحمامة بيضاء” (وزارة الثقافة/1984) مع مرام المصري ومحمد سيدة، ومصادرة “داكن” (وزارة الثقافة/1989). 16 عاماً من الصمت والنسيان والمحو، أكتب وأكوّم قصائد، أنشر القليل القليل منها في “ملحق النهار”، أو ملحق “السفير”، أو مجلة “الناقد”، كل سنة قصيدة أو قصيدتين، على الأكثر، وأعدّ مجموعات شعرية افتراضية، جاهزة للطبع، من دون أن يتوفر لديّ أي مخطط واقعي لطبعها، باستثناء أمل أخرق، لا أدري ماذا منبعه، أن تأتي دار نشر ما، صاحبها شاعر، والأفضل أن يكون شاعراً متقاعداً، وتعرض عليَّ طبع مجموعة من قصائدي! فإذ، مّن يصدّق، هذا تماماً ما حدث، تأتيني مكالمة هاتفية خارجية، من بيروت، وشخص يتكلم معي بلهجة لبنانية، في منتهى الجدية، “أنا ي. ب.، من “دار رياض الريس”، نرغب أن نطبع لك مجموعة شعرية، إذا كنت مهتمّاً!”.

قبل هذه المكالمة بشهر أو أقل، كان ي. ب. (يوسف بزي) يقوم، وللمرّة الأولى في حياته، بزيارة دمشق، عاصمة البلد الذي كان يطبق على بلده، ويحصي عليه كلماته، قبل أنفاسه، بهدف أن يلتقي بها أصدقاءه من الشعراء والمثقفين السوريين، الذين يعرفهم فقط بأسمائهم وأعمالهم، ويهمه، لأجل توطيد هذه الصداقات، أن يطابقها على وجوههم وشخصياتهم، الأمر الذي بقدر ما يسر المرء أحياناً يحزنه ويشقيه غالباً، ومن بين الأماكن التي حرص ي. ب. على زيارتها، كسائح مثقف، بسطات الكتب المستعملة المنتشرة في مطارح عدة من المدينة. ومن بين مئات الكتب المفروشة، التي ترتب بحيث لا يظهر منها سوى عناوينها وأسماء مؤلفيها، على رصيف جسر الرئيس، كما أذكر أنه روى لي، لمح كتاباً، ذا غلاف كامد اللون، أخضر رمادي، من الحجم الكبير نسبياً، “بشر وتواريخ وأمكنة”، لا كبقية المجموعات الشعرية، وعليه اسم، ذلك الشاعر المغمور م. م. الذي نشرت له مجلة “الناقد”، المثيرة للجدل، التي كانت تصدرها حينذاك “دار رياض الريس”، قصيدة “ساقا الشهوة”. ومنع العدد الذي تضمَّنها من الدخول، أو مُزِّقت منه صفحتاها، في بعض الدول العربية. اشترى ي. ب. الكتاب بما يعادل وقتذاك نصف دولار أميركي أو أقل، وضمّه إلى بقية الكتب التي ابتاعها. وبسبب إعجابه الزائد بما وقع عليه، كما يحدث عادة للسائحين الأجانب، راح يسأل بعض الأصدقاء عني، فتمكّن، لو بصعوبة نسبية، ذلك أن البعض أنكر معرفته بي، من الحصول على رقم هاتفي في اللاذقية. أنا البعيد عن العاصمة وكل الحوادث الثقافية التي تجري بها، التي كان أهمها، على نحو إطلاقي، زيارة بعض الأدباء والفنانين العرب، وفي مقدمهم الشعراء، وقضاء السهرات مع أدبائها وفنانيها، التي لم تتح لي الفرصة، على أن أشارك في واحدة منها، طوال حياتي.

هكذا اقتحم “مزهرية على هيئة قبضة يد” (دار رياض نجيب الريس” 1997) المشهد الشعري السوري، إن لم أقل العربي، وأعتذر على المستوى الهابط للتشبيه، بلبط الباب بالقدم! قصائد مثل “رأسان على وسادة ضيقة” و”ساقا الشهوة” و”إن كان محتّماً عليّ أن أعبد إلهاً” و”بولونيزات”، ما كان لها أن تعرف، حينها، وبعد كتابتها، بعقد وعقدين من السنين، لولاه، ولولا إصرار ي. ب. وي. ج. على تضمينها المجموعة، كما كتب في الكلمة التي قدمت بها، والتي، طالما اعتبرتها، أهم ما كتب عن تجربتي، على رغم اعتزازي بكثير من الشهادات، أرفقها مع شهادتي المقابلة هذه، شهادة مقابل شهادة، كوثيقة توضيحية، لما يجب عليه أن تكون كتابة المقدمات، ذلك أن أحداً غيري، حسب معرفتي، لم يحصل على هذا الامتياز.

ما إن انتقل ي. ب. للعمل في ملحق “نوافذ”، حتى انعدمت حاجته من إرسال قصائدي إلى عقل العويط لنشرها في “ملحق النهار”، وصارت “نوافذ” منبري الشعري، وخصوصاً أن كلاً من ملحق “النهار” و”السفير” الثقافيين، لا يخصصان مكافآت مقابل ما ينشرانه من نصوص أدبية، قصائد وقصص قصيرة، فقط المقالات التي رحت أخصصها للنشر في ملحق “السفير”، الذي يرأس تحريره صديق آخر، ع. ب”، لا ولن يمنعني شيء في العالم من الاعتراف بدعمه ومساندته وفتحه لي صفحات ملحقه حتى حسب البعض أنني بتّ أعمل في “السفير”، وبيته حيث كنت أحتل، بكل سوريتي، غرفة نومه وينام هو على كنبة الصالون، والخزانة التي تتكدس بها وعلى ظهرها كتبه، على رغم أن مقالاتي آنذاك، كما كثيراً ما أسرّ لي، كانت توجع له بطنه وتمغّص أمعاءه. إلاّ أن ي. ب. ما كان ليدعني لسواه طويلاً: “عزيزي م. م. لماذا لا ترسل لي مقالات مثل “مسودة دفاع عن تهم جاهزة” و”سوريا بلدي كما خالدية أمي” لنشرها في نوافذ”. الأمر الذي كان يحصل معي للمرة الأولى، أقصد أن يطلب مني إرسال مقالات وليس قصائد، لنشرها بصورة مضمونة ومؤكّدة، لا أن أرسلها وأنتظر ردّاً لا يأتي، إلاّ في حالات نادرة جدّاً، بقبولها أو رفضها، ولا أن أرسلها وتنشر، فإذ بالمحرر قد شذّبها وهذّبها وحذف نصفها، بعد هذا صارت “نوافذ” منبري الأساسي، على رغم ما ينطوي هذا عليه، من شبهة سياسية، ما كان لي لو سئلت، إلاّ أن أتبرأ منها.

ي. ب. لم يكن يرفض لي شيئاً. أرسل إليه كل ما يخطر على بالي كتابته، ليس فقط مقالات شبه سياسية، يكتسحها الطابع الشخصي، كما تنقد دائماً، بل أيضاً، يوميات لا على التعيين، كمحتوى دفتر صغير دوّنت عليه مذكراتي في العام 1985، رسائل أحتفظ بها مكتوبة بخط أناس مجهولين، سير أناس لا يعنون شيئاً لأحد سواي، قصة هروب جدتي المسيحية مع جدي، تتبعها قصة زواج أمي وأبي، مرفقة بصورهم البيضاء والسوداء، مراثٍ لأصدقاء راحلين (محمد سيدة، ممدوح عدوان، علي الجندي، محمد بلة) بتّ كأنني مختص بها، قصائد سردية مسهبة لا أول لها ولا آخر (قلم رصاص ومبراة وممحاة على شكل قطة، متّ الآن وسأكتب عنك قصيدة)، وذلك من دون أي اعتبار أدبي، أو صحافي أو احترافي، يردّ: “أحببته… نص رهيب… أعادني للكتابة الحرة، سينشر الأحد المقبل، أو بعده. ح. د. وب. ح. يرسلان إليك تحياتهما. ب. ح. يقول: “منذر ليس شاعراً سورياً، هو شاعرنا كلنا، هو رفيق شعري”. أمّا ح. د. فقد توقف في مكانه متجمداً للحظات عندما عرّفه بي ع. ب. ذاكراً له اسمي وكنيتي، في معرض الكتاب العالي، في لندن، في العام 2008: “أ هذا حقاً أنت… أخيراً التقينا، ليس في بيروت، بل في لندن!”.

البارحة مات الدكتور برهان زريق، كاتب لاذقاني، من مواليد 1932، بلدة بابنا، منطقة الحفة، ذو العشرات من الكتب القانونية والفكرية عن أهم قضايا العروبة والإسلام، طبع أغلبها على حسابه الخاص، لا أظن يعرفه ويقرأه سوى القلة الذين يقدمها لهم. قلت يقرأها، وأنا غير متأكد، ذلك أني من السبعة الكتب التي قدمها إليّ جميعها بالإهداء نفسه: “إلى الأخ العزيز الفاضل…”، لم أقرأ سوى أصغرها حجماً وأشدها إثارة، “ثورة منطقة الحفة- صهيون سابقاً- على المستعمر الفرنسي 1918” الذي صدر في العام 2011، أي في الوقت الذي كان أهل صهيون على عادتهم، كما وصفهم الراحل بنفسه، كخلاصة في نهاية الكتاب: “فالصهيوني لا يرى أحداً فوقه، ولا يسلّم بإرادة تفرض عليه”.

بعد إغلاق “نوافذ”، أين لي أن أقدم شهادتي بالدكتور برهان زريق، كيف لي أن أسدد جزءاً من دينه علينا جميعاً، كرجل عاش مغموراً ومات بصمت في سبيل سوريا وطناً للجميع، والعروبة عقيدة، والإسلام منهجاً بمفهومه المدني والديموقراطي الذي كان يؤمن ويبشر به، مستعيداً كل تفصيل إنساني وفكري أعرفه عنه؟ أين لي أن أنشر ما يبدو كأنني أرجأته دهراً، حتى يموت، لأكتبه، أو يوماً ما، في ذكرى رحيله الخامسة، أو العاشرة، يأتي أحد ويستعيد ذكراه بنص يزيد على 5000 كلمة، ليقوم ي. ب. صاغراً وسعيداً في آن واحد، بنشره على قسمين، كما حصل لـ “هبرمة لا قصيدة” (غازي أبو عقل) عن علي الجندي، التي، صدف وأحتلّ القسم الثاني منها صفحة كاملة من عدد “نوافذ” الأخير.

أهكذا يكافأ مَن وقف، في زمن المساومات الصعب، ومن دون أدنى تفريط، مع كلّ قضايا الحقوق والحرّيات والإبداع، ليس في بلده لبنان فقط، ولا في سوريا، كبلد يتشارك المصير نفسه، بل في أنحاء الوطن العربي كافّة!؟ أهكذا يحافظ على، وتحمى، وتدعم، النافذة الذي فتحت صدرها لكل كاتب حر، مهما كانت قضيته، أمطابقة لقضيتها أم مخالفة لها، والتي صارت دريئة لكل رماة الأسهم ذات الرؤوس الحادة، والرماح الردينية الطويلة، ولكن هذه المرة لم يكن سهماً ذلك الذي رمي به على نافذة هذا البيت الصغير، الملحق على السطح، الذي كان يجمعنا، وليس رمحاً ولا حتى طلقات متتابعة من فوّهة رشّاش، بل هو، ولو بقليل من المبالغة يدفعني إليها إحساسي الآني بتراكم الخسائر، برميل، برميل متفجرات، من تلك التي تقع على المدن السورية وبيوت السوريين ورؤوسهم. فهنيئاً لهم!

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى