صفحات الثقافة

القصيدة كصراع داخلي/ جان ستاروبنسكي *

 

 

ترجمة محمد ناصر الدين

المواجهة هي في كل مكان، بالنسبة إلى الشاعر. في ما حوله، في داخله شيء يقمعه أو يخنقه، شيء يجب أن تكون له علة، شيء ما يجب كسره، أو إغواؤه أو أيضاً تحريره (في الأسطورة الإغريقية ترمى الحلوى بالعسل للشياطين التي تحرس البوابات السحيقة) أو يصار الى تنويمها بالموسيقى.هناك دائماً هذا العدو المجهول الذي يشكل عائقاً للفم الذي تلفظ، هذا الفراغ الذي يستولي على الكلمات وهي تولد بالتتالي. ثمة حدود يجب أن تتعزز، قوى يجب أن تفوز على البرد واللامبالاة، سواء في الداخل أو في الخارج. يجب أيضاً تعزيز دفاعات هذه الحقائق المتوحشة التي نسعى الى صداقتها. المواجهة في كل مكان، ومصطلحها الأقصى هو «التوتر البطولي». لكن مهلاً، ألم تكن المواجهة التزاماً منذ الحركات الأولى للشعر والملامح الأكثر بساطة للنشيد، هنا حيث لا طموح أعلى يسعى إلى الظهور؟ منذ اللحظة التي يستقبل بها الشاعر النداء الداخلي الأول حين يطلب أن يولد بواسطة صوت، منذ الرعشة الأولى للكلمة، يجب عليه أن يعرف كيف يتخطى كل سطوة تقمع ارتفاع النشيد، وأن ينتصر على الخرس الذي يعارض انبثاق الكلمات، وأن يطلق العنان للصور لتتخلص من كل حالات السكون التي تكبحها. النشيد الأكثر بساطة، السطر اللحني الأكثر تواضعاً، لا شيء يوجد إلا بثمن انتصار مهدَّد دائماً على «مادة» مضادة تبدي له مقاومة. داخل هذه المادة البخيلة والمعدمة يتم نقش القصيدة، وفي داخل المادة تنهش القصيدة ـ كما لو قدِّر لها أن تكون ثلماً من النار فوق كتلة من الليل أو العدم الجسيم.

يلزم الكلام نوعاً من النيغاتيف الذي يوجده حين يصده: هكذا يصبح مرئياً بالنسبة لنا، منفصلاً عما يرفضه أو ينكره ـ الحرف الأسود فوق بياض الصفحة.

هذه المقاومة الخرساء هي الدعامة الأصيلة للقصيدة، ومثل الصور على الشاشة، تأتي الكلمات لتتشكل فوق الغموض المتين والخفيف الذي يقال إنه مصنوع من رماد كل الكلمات الضائعة.

هناك شيء مراوغ يأخذ صلابة كي يقاوم النشيد، حد يتشكل بعيداً بقدر ما نظن أننا تجاوزناه. هنا فقط قد يعلو الصمت الذي تخلقه القصيدة ليتم امتصاصها فيه. لكن الجحيم (أو السماوات) هو دائماً أوسع من حقل أورفيوس. مساحة عذراء تسيج الكلمات الأكثر سمواً. قذف الكلمات في الفضاء الروحي قد لا يدفعها لمسافة أبعد، لكن هنا حيث تموت آخر موجة للحقل، أمام الساحل الغريب للأبد التي ليس لها حول لتخطيه، هنا حيث ينطفئ النشيد أمام ما لا ينتمي إليه، هنا حيث يلتقي بالآخر الذي لا يمكن اختزاله، هنا حيث توجد الحدود الحقيقية للشعر، السطر المثالي الذي يرسم وجه الشاعر. إن بورتريه الشاعر هو على حدود نشيده؛ بالنسبة إلينا هذا الحد يظل سرياً. هل هناك شيء يتحقق بصورة نهائية؟ ألا يبقى الغد مفتوحاً أمام هذه الموسيقى التي تكبر مثل شجرة في حرية السماء؟ يصح القول إن الأعمال العظيمة لها ملَكة فريدة بأن تنمو هكذا في الزمن، في حين أنّ اليد التي كتبتها تكون قد تجمدت.

* جان ستاروبنسكي: مولود عام ١٩٢٠، سويسري فرنسي، أحد أهم أكبر مؤرخي ومحللي الأدب، ومتخصص في كتّاب عصر الأنوار، وقد جعل من النقد نوعاً من الفن.

* النص مقتطف من كتاب «جمال العالم. الادب والفنون»، «دار غاليمار»، باريس، ٢٠١٦.

كلمات

العدد ٣٣٥٠ السبت ١٦ كانون الأول ٢٠١٧

(ملحق كلمات) العدد ٣٣٥٠ السبت ١٦ كانون الأول ٢٠١٧

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى