صفحات سورية

*القطارات المحروسة جيدا


مصطفى عنتابلي

خروج قاطرة سكك حديد سوريا عن مسارها أمس, بين حلب ودمشق, وبيانات النظام المتعلقة بعمل تخريبي, والخارجة بدورها عن مسار المنطق والحقيقة, ثم وقوع حادثة القطار الصيني السريع, واعمال الإنقاذ الجارية حتى هذه اللحظة, وحادث قطار آخر في الهند وقع في نهاية الإسبوع الماضي, استدعت مني تحويل ستاتوس صغيرة كتبتها هذا الصباح, قلت فيه “اتهمت السلطات السورية مخربين (مجهولين كالعادة), بالمسؤولية عن جنوح القطار, ومقتل سائقه. من حسن الحظ ان سد زيزون انهار قبل الثورة.. والا كانت التهمة الهيدروليكية جاهزة”.. الى الملاحظة التالية:

 قبل ثلاثة اسابيع فقط, دشن رئيس الوزراء الصيني, القطار الجديد السريع (الطلقة) صباحا, بين بكين وشنغهاي.. حيث قطع مسافة 1300 كم في حوالي 5 ساعات (بسرعة تجريبية350-300 كم/سا  تقريبا), وقد شعرت بالفخر اذ كنت أعود بنفس القطار مساء, من شنغهاى لبكين.. في نفس اليوم 30-6-2011

 طوال فترة الرحلة, كنت أفكر, وأكاد أصرخ بصوت عال, والهدوء الهائل للعربات الرائعة المتدحرجة يأسرني, نظافتها ولطف الفتيات العشرينيات الأنيقات, وهن يفحصن التذاكر, يكاد يصيبني بالإغماء.. أين ذلك مفتول الشاربين, وهو يشحطك بنظرة محتقرة, كأنك لاجيء تعربشت الى مركبة أبيه وجده.. كنت أقلب المطبوعات الأنيقة باللغة الصينية, ولا أفهم شيئا.. سوى ان الفارق بين مؤسسة (خ ح س) السورية, و (CRH) الصينية, أكبر مما يجب.. ولو أخذت كل الإعتبارات الإقتصادية والإجتماعية بالإعتبار.. حتى لو أدخلت الحظ في المعادلة.. لم تكن لتستقيم..

لست أمزح هنا, فثمة وجه للمقارنة.. بعد أن نبعد سوط جلد النفس..فالمؤسسة السورية عريقة.. عمرها 116 سنة, بدأت العمل لأول مرة في عام 1893 بين دمشق والمزيريب  ، ثم بخط بيروت دمشق عام 1895, وكانت تحت ادارة الإمبراطورية العثمانية ثم الإنتداب الفرنسي, ثم الحكم الوطني, تمثل دائما جوهرة التاج في قطاع النقل والخدمات السوري.

 بينما تأسست الشركة الصينية للقطارات السريعة (CRH) عام 2007 بانفصالها عن (شبكة خطوط الصين) العجوز, والتي تماثل بعمرها الشبكة السورية, اذ تأسست عام 1876.

 هناك وجوه للمقارنة..

 الصين بدأت بالخبرة البريطانية أثناء فترة الإستعمار.. ولا أعرف كيف تدبرت أمرها أيام ماوتس تونغ.. وماذا قدم لها الروس.. وبقية الأمميين.. لكني أعرف انها تتعامل اليوم مع الألمان, وقاطراتها ومقطوراتها تصنع في الصين باشراف شركة سيمنس.

الشبكة السورية بدأت مع الألمان بدورها, وسيمنس تحديدا.. أيام الحكم التركي, ولم يكن للبريطانيين سوى شرف تدمير نواة ومفخرة الخطوط السورية “الخط الحديدي الحجازي”, مستخدمين خبث لورنس الإنكليزي وسذاجة الحسين وأولاده العرب, والقليل من الأحصنة والمتفجرات, أذكر اني كنت المح دموعا تترقرق خلف نظارات أستاذ مادة السكك الحديدية, الدكتور الحمصي عبد النافع شاهين, عندما كان يروي لنا قصص الخط الضائع, وضياع كل جهود ترميمه وتشغيله, بل أني أذكر رائحة المخططات الأصلية المسحوبة بالتيراج, لمسار جزء من الخط.. وقد وضعها الأستاذ بين يدي طلابه, كي تكون الفاجعة التي يرويها أبلغ أثرا.

 مازاد من ألم المفارقة, أن محطة القطارات في شنغهاي كانت أكثر نظافة من مبنى رئاسة مجلس الوزراء السوري كما أحفظ صورته في نهاية السبعينات (ولا أقول هنا القصر الجمهوري, فلم أحظ في حياتي بشرف زيارته), فيما ترد الأخبار.. أو تتأكد بأن رامي مخلوف, العبقري الإقتصادي السابق, ورجل الأعمال الخيرية الحالي, كان في طريقه لوضع اليد على “محطة الحجاز” الأثرية, والحجة هي مشروع تطوير بموجب عقد  (B.O.T بناء -استثمار – اعادة نقل ملكية),  لكي يحولها في مرحلة ثانية لبقرة أخرى من أبقار حظيرته.

تذكرت الصورة الواردة في كتاب طريف اسمه “الحج قبل مئة عام”,  كتبه كولونيل مسلم في جيش القيصر الروسي, حين أوفدته قيادته بشكل سري , كي يحج الى مكة ويقدم تقريرا عن السبب الذي كان يدفع أعدادا متزايدة من المسلمين الروس للمغادرة سنويا الى بلاد الحجاز..

يصف الكولونيل الحاج دولتشين, حالة السكك الحديدية المصرية, وطريقة ادارتها والتفتيش عليها, وخلخلة القضبان والعوارض, بتفصيل.. ينتهي معه للإيمان بأن العناية الإلهية هي من يدير هذه المصلحة, وليس المصريين.

 يبدو ان الوطن العربي الذي تحرر من الإستعمار.. تحرر أيضا من الإلتزامات الضرورية لقواعد واجراءات السلامة, الضرورية لركوب الوحوش المعدنية بشكل آمن. حوادث القطارات العربية, والمصرية منها, بشكل خاص, تنفي عنها الصفة الملتصقة بالخطوط الحديدية, وهي الأمان.

من تابع كوارث القطارات في مصر خلال العشرين سنة الماضية, والتي كانت تتحول لمناسبات سياسية, تندب فيها المعارضة أداء الحزب الحاكم, ويتشبث وزراء الحزب بمقاعدهم بعد كل حادثة, وكأنهم يخشىون أن تصطدم كراسيهم بقطار.

يربط في ذهنه مباشرة, بين استنتاج الحاج دولتشين والشعار المفضل الذي ابتكره النظام مؤخرا.. ويردده المنحبكجية على نطاق واسع..”سوريا الله حاميها”.

 في بلد حكمه أكثر من أسد, خلال أربعة عقود, تفككت المؤسسات وتبنّجت الضمائر.. وتسممت العلاقات..كان على الله أن يتدخل حقا, كي يرعى الأشجار التي غرست في صحراء قاسيون, بعد أن اقتلعت أشجار الغوطتين, كي يملأ مسابح المسؤولين بالماء, بعد أن جفّ بردى, والأهم أن يقنعنا بأننا نصمد ونتصدى, في اللحظة التي فيها نهزم ونتردى .

 احدى حلقات مسلسل “بقعة ضوء”, والتي كانت القابلة غير القانونية لولادة مسلسل سوري شهير هو “ضيعة ضايعة” (بالمناسبة..معظم نجومه تحولوا الى منحبكجية), يحقق مع بطل الحلقة في مخفر قرية ساحلية, بتهمة تخريب سكة القطار, بنزع البراغي التي تربط القضبان بالعوارض, واستخدامها كثقل يربط الى خيط سنارة صيد السمك. يكون دفاع بطل الحلقة في وجه رئيس المخفر.. انه ليس بغشيم كي يفك البراغي كلها, ويهدد سلامة القطار.. وانما هو يقوم بنزع برغي واحد من أصل كل اثنين.

الصين والهند, اكبر اقتصادات العالم نموا وازدهارا اليوم, يحصل فيهما وبالتوقيت مع سوريا البلد الذي يكاد لايرى لولا صوت لهاثه, حوادث قطارات..

 البلد الشيوعي الصناعي الأكبر والمدهش برأسماليته .. والديموقراطية الصناعية الآسيوية الأكبر, الرثة والمنخورة بالمافيات.. كلاهما.. يلملم جراح قطاراته, ويشيع موتاه بصمت, فيما بلد آسيوي ثالث.. صغير ويكاد يشبه ضيعة ضائعة, يصرخ.. انه يتعرض لتخريب إرهابي..

 لو لم يكن الكذب مستمرا منذ أربعة عقود.. ومركزا منذ أربعة أشهر.. ربما لأعطينا النظام السوري أريعة دقائق نناقشه فيها ونقول: أي ارهاب “غشيم” هذا.. يكتفي بروح واحدة لسائق قطار مسكين.. أي ارهاب “حربوق” هذا, يفكفك البراغي متسلسلة وليس متقطعة, فيما الأمن والجيش والشبيحة, يحكمون الطوق على كل شبر في سوريا كأنشوطة المشنقة.

يوما ما.. حين ترتفع أصوات سيمفونيات راقية في قطاراتنا بدل أغاني علي الديك.. حين تسافر وأنت تقرأكتابا دون خوف.. حين تنظر من نافذة لا يغطي نصفها صورة القائد العام أو أبيه أو أخيه.. فترى الفلاح يعمل في أرضه فتشعر أنه صديقك, حين لا تشعر بثقل ماتحمله بين محطة وأخرى.. يومها فقط.

 ستشعر وأنت تسافر في قطار صيني سريع ويدعى الطلقة.. أنك تشعر بالحنين وليس بالعار.. لذلك القطار الآخر.. الذي ينساب بجوار البحر المتوسط.. وتحته سكة صلبة مكتملة البراغي..

 —-

* ليس للعنوان علاقة بفيلم تشيكوسلوفاكي يحمل نفس الإسم.. لكن وطالما نحن بالسينما.. أقول:

برغي آي.. برغي آي.. ياجودة.. ويا أسعد, في الواقع, وليس في استوديو الشبيحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى