صفحات مميزةعزيز تبسي

القطب الديموقراطي خطوة لإعادة الإنتفاضة الشعبية الثورية إلى الإنعزالية: عزيز تبسي

عزيز تبسي

لم يتثنى لنا ونحن نعاين التجارب التاريخية الناجزة،العثور على توضّع لتيار ديموقراطي نموذجي،يمكن القياس عليه.سبقت التجارب الشعبية التاريخية،تيارات ومقاربات ديموقراطية نخبوية،ذات ملامح إنعزالية مشبعة بلفظية خطابها الثقيل،أبعدتها دوماً عن الحامل الإجتماعي، الكفيل موضوعياً بتحطيم نخبويتها(تحريرها منها)ليضعها في سياق سيرورة حركة شعبية ثورية،وأخرى ديموقراطية في حقل الممارسة السياسية ومساراتها الواقعية،بما تحمله من قوة دفع زلزالية لكسر الإحتكارية السياسية-الطبقية،المهيمنة على المجال العام(الدولة –السلطة-المجتمع)بهدف توسيع المشاركة أو قلبها كلياً.

تحقق الثورات-الإنتفاضات-الحركة الإحتجاجية العميقة،خلخلة موضوعية وتشقق في صلابة المؤسسات القمعية،يدفع ذلك،مع قوة الحركة وتبصرها لمهامها، نحو فتح الأفق على المشروع الديموقراطي لإعادة إحيائه وإخراجه من سباته وعطالته ودمجه في الحركة التاريخية الواقعية.في هذا السياق تشكل الإنتفاضة الشعبية الثورية في سوريا التي إنطلقت في18 آذار2011 بعمقها الشعبي،الحامل الإجتماعي للمشروع الديموقراطي،والتعيين الواقعي له.

-1-

وهنت البرلمانية السورية-وينطبق هذا بدرجة كبيرة على حالات البرلمانيات العربية العابرة- وعجزت عبر تاريخها عن توفير حماية ذاتية لمشروعها،حين كوّنته،في مرحلة تاريخية محددة من زمن الإنتداب الفرنسي،ليشكل الإطار السياسي-الحقوقي للرأسمالية المحلية.وأظهرت بعد الجلاء وفي كل عتبة تاريخية جديدة على المستويين الوطني أو الإجتماعي ،خصائصها العميقة:ضعف الثقة بالذات،عجزها عن تحويل مشروعها الطبقي الخاص إلى مشروع عمومي،المراوغة الخبيثة ،تثقيل تهلهلها بالإستقواء بقوى من خارج الحدود السياسية والإدارية،مما دفعها إلى إدارة الظهر له حينما تشعر بأي خطر وترتمي محتمية بالإستبداد العسكري،أي موضوعياً،عملت على تكييف مصالحها معه،وهو ما يمكن إعتباره الشرط المحلي لخصائص البورجوازية السورية،ويظهر ذلك خلال تعاقب قوتين فاعلتين من تعزيز موقعها وحمايته:

1) الإستعمار الفرنسي في شكله الإنتدابي.

2) المؤسسة العسكرية المحلية الخارجة من رحم المؤسسة العسكرية الفرنسية(القوات الخاصة-جيوش الشرق)،قبل توضح خياراتها وإعادة تنظيم نفسها وولاءاتها ومصالحها.

من هذه الوقائع يمكن التيقن من عجز البورجوازية البنيوي عن التعايش مع الإطار السياسي الديموقراطي الذي شكل قيداً على تفعّيل مصالحها وتوسيعها،وحجبها عن المراقبة والمساءلة من خلال ضبط حركة شعبية وحصارها وإنهاكها.ولم تتمكن الفئة المهيمنة التي توضعت على القوتين الأكثر تنظيماً في المجتمع المدني(البورجوازي)الجيش والبيروقراطية،التي ظهرت ملامح مصالحهما وهي تتسلل إلى كل الإنقلابات العسكرية التي تعاقبت بعد الإنتداب،ووضعت لبناتها العقائدية الأولى مشفوعة برقائق أيديولوجية سياسية-حقوقية في سنوات58-61 لتعود وتتجدد ويكتمل وعيها الذاتي بمشروعها في63-حتى اليوم،مستبعدة عن جدول أعمالها أي حلول تسوية مع الديموقراطية كإطار سياسي-حقوقي،هاجسةً على الدوام بالدور الذي يحجبه تدفق الحريات العامة في حصار وتحطيم مواقعها الإمتيازية،ليتعقد الأمر في توضع الفئة البورجوازية المهيمنة على وضع طائفي.

-2-

ما يحصل دائماً،في سياق معاينة المشروع الديموقراطي،بمثابة عملية تنكر لهذا التاريخ السياسي للبورجوازية السورية،وإظهار الرغبة في تجاهله،بغاية إغفال العمق الطبقي للحامل الديموقراطي،من هنا يمكن تلمس قصور الوعي الذاتي الديموقراطي ومثاليته السابحة فوق ثقل المحددات الإجتماعية،ويفسر إنحيازات الكثيرون/ات من وجهاء وأعيان المتحدثين عن الحريات العامة والديموقراطية وحقوق الإنسان،كممثلين لأحزاب أو منتديات أو تجمعات….الخ،إلى المشتركات التي تجمعهم بالإستبداد،والتي تبين أنها أوسع بكثير مما يجمعهم بأنصار الحرية، المأخوذين بعطر أطيابها،غير مبالين بنيران أعدائها وغرز نصال سكاكينهم،حين ما إنفكوا يهتفون بإسمها في الشوارع والساحات،ويتمددون عراة أمام هدير دباباتهم ومدرعاتهم….

إنتصرت في هؤلاء الأعيان،مواقعهم الطبقية-الإمتيازية وتبني المقاربات ذات الثقل الثقافي وسواهما مما يكثر عده،على الوقائع والسيرورات التي قدمتها التجربة الحية،متعللين دوماً بمخدرات ومسكنات الصفاء النظري-التجريدي،الذي لم يلبث عن السقوط المريع،بعد أن إمتحنته الثورات وحسمت في ساعات وأيام ما عجزوا هم عن حسمه في سنوات وعقود من الثغاء الطويل في المراعي الفكرية الرجعية،التي توسعت حقول برسيمها وشوفانها بعد إنهيار التجربة السوفياتية وأخواتها.

يصف الكثيرون هذه الحالة المائعة والمغشوشة من البكائية الديموقراطية،بكون أتباعها يريدون ديموقراطية على مقاسهم(مصالحهم-إمتيازاتهم-…..)،وهذا أساس الديموقراطية عبر تاريخها السياسي.

ولكن ما هو مقاسهم؟هذا الذي يتعارض كلياً مع الديموقراطية ويعمل على التضييق عليها وتقييدها،ذلك هو الأساس التكويني للحالة العيانية التي أنتجها خطاب المعارضة الديموقراطية التقليدية وهي تحاول وعي الإنتفاضة الشعبية الثورية وإشتقاق المهام التاريخية منها،يعود إلى ما بعد عام 2000 ما بات بعرف في الأدب السياسي السوري بربيع دمشق الذي وصل أوجه في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي قبل أن يتفكك ويتشظى،وعرف قبله في الخطاب السكوني-النائم الذي أنتجه التجمع الوطني الديموقراطي.أهدر هؤلاء وقتهم ووقت غيرهم في نقد بعضهم،متناسين مهامهم الملحة وإمكانات مقاربتها وتطويرها.

-3-

وصل الكفاح السلمي إلى ذروته في الأشهر الأولى للإنتفاضة وعبر عن نفسه سياسياً وتنظيمياً في أوضاع إستثنائية في مدن درعا وحمص وحماة حتى صيف 2011وأخمد في وسائل قمع مهولة ومذابح فاشية منظمة،وتعبئة جنونية وظفت فيها الأيديولوجية الطائفية إلى أقصى طاقتها،وعاد بعدها لينبثق من جديد في دير الزور وإدلب وأرياف حلب،ويتوسع في أرياف دمشق،ساهم وعي طليعة النضال الميداني،الذي عملت بدأب وصبر وتضحيات كبيرة على إعادة إنتاج التجارب الشعبية في تونس ومصر واليمن وتوطينها في العمل الثوري السوري،بالمراهنة على المدينة كحقل لتفاعل التيارات الثورية،وتخصيب قدراتها الكامنة وتنظيمها وإطلاقها.لكن في النهاية تم تقويض هذا الفعل بالقمع الواسع وتصفية الجيل الأول والثاني من المناضلين،مترافقاً مع العجز عن نقل الإنتفاضة وفق إستراتيجية ثورية إلى المدينتين الأكبر (دمشق-حلب).ليعود الكفاح الديموقراطي تدريجياً إلى الأرياف الصغيرة والمتوسطة،مترافقاً مع العسكرة العفوية البدائية كشكل من أشكال الحماية الذاتية(للأسرة-الأملاك الخاصة)لمواجهة عدوانية الشبيحة وكتائب الجيش،لتتعزز بعدها بظهور الإنشقاقات الفردية والجماعية من الجيش.

-4-

الحقيقة هي أبرز ما تحتاجه أي ثورة،حين تجري مقاربتها ورصد وقائعها وإمكاناتها وظروفها،لا تلك الأكاذيب والأباطيل التي تزهق روحها وتبدد فعلها.حين يخال الكثيرون أن الثوار يعملون وفق خطة مخرجي السينما،واضعين أمامهم سيناريو ثوري محدد يسعون لتنفيذه،والأمر برمته يتعلق بإرادتهم.لذلك تظهر من حين لآخر تلك المفاضلات،وهي بعمومها تأتي من خارج الواقع الميداني،وتفصح بعمومها عن ذاتية وإرادوية متضخمة،حين تضعها أمام مأثرة خياري “حمار بوريدان بين ” برسيم السلمية أو ذهب العسكرة أو العكس،وكأن الحركة الثورية تعمل بمفردها في ساحة أخليت لها.ونعلم أن هذه المسطحات الفكرية غير بريئة،تحمل في عمقها سذاجة مبتذلة خبيثة فات أوان الإصغاء إليها، أو، إنحيازاً محجباً للفاشية.

ويظهر كل يوم مدى توسع الهوة وتعمقها بين النخبوية-الإنعزالية والحركة الثورية،ومدى الوشائج التي تتعمق بين الطليعة الثورية والحركة،رغم ثقل العفوية التي ما إنفكت ملامحها تسيطر على هذا المسار الثوري المفتوح.

يبقى المطلوب من الطليعة الثورية،تفسير الإنتفاضة الشعبية الثورية،والعمل على تبصيرها بأهدافها،جنباً إلى جنب مع الإنحياز التام إلى حركيتها،بطرد كل تلك الأكداس من التفسيرات والتأويلات التي أنتجتها الأيديولوجية الفاشية وأعوانها،التي أحالتها إلى مخططات ومؤامرات وأخطبوطات ومندسين ودور”الإمبريالية القطرية”…الخ .بهذا لا بسواه،يتعمق الخيار الديموقراطي في مسارها ويبصر نور حريته،لا بتلك الرطانة اللغوية المجوفة.إذ كيف يمكن الإطمئنان لدعاة القطب الديموقراطي،بتعبير أوضح،كيف لأناس غير ديموقراطيين،من إعلان ضرورة لإطلاق قطب ديموقراطي،ألا يشكل هذا بذاته مؤشراً:

1)تبرير عجزهم عن الإلتحاق بالكفاح الشعبي،بسماته الديموقراطية العميقة،وخيانته في آن.

2)إعادة الكفاح الشعبي بممكناته الواقعية إلى معتقله الإنعزالي وأسره هناك.

3)خوض الصراع السياسي بما تبقى من الأدوات الثقافية الإمبريالية وأعوانها:تخلف/حداثة-علمانية/دينية-محافظة/تقدمية-تطوري/تقهقري…..

4)تجاهل للحقائق الميدانية،التي أفضت بدورها إلى عسكرة تامة للصراع السياسي،وبات له القول الفصل في تحديد مساره.

ألا يسوغ هذا الطرح العقيم للكثيرين من ترجمة الكلام عن”الكذب الديموقراطي” وهم يصوبّون أطروحة”القطب الديموقراطي”.

حلب نيسان 2013

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى