صفحات الناسضحى عاشور

القلب البستان، وحياة بحامضها وحلوها/ ضحى العاشور

 

 

السكاكر أو البونبون أو “الدروبوس” كما ينطقها الحلبيون، تلك الحبّات اللوزية الملّونة، كانت بهجة طفولة عائلة ممتدة من الأبناء إلى الأحفاد، شملت المعارف والجيران، وسافرت مراراً مع أقارب كزوّادة دفء يسري في خاطر كل من عرف العّم أبو عبدو “القصير”. كان قصيراً بالفعل وراضياً بلقبه الذي ضمِن له تميّزه عن سواه من آباء العبد الكثيرين هناك.

سكاكر القصير كانت “فلسفة” حياة ابتكرها وسعى لتطويرها ونشرها بكل ما أُوتي من عفوية وسلاسة ومثابرة. فها هي الخضراء المشبعة بعبق النعنع حاضرة لتداوي البلعوم، والصفراء للرشح والبرتقالية لتنشيط الجسد والكرزّية للقلب الشقيّ، أما البنيّة الفواحة بالعرق سوس فكانت للمزاج. وإلى جانب وظائفها الصحية المزعومة، ومتعتها الشحيحة، فهي كانت الخيط السحرّي الذي يشد رباط العائلة إلى كبيرها الذي لا تفوته ملاحظة تبدلات أحوال أهل بيته، فيسرع إلى مواساتهم بدّس البنبونة الكرزية في فم زوجته، لتمرّر له النقلة المقبلة في وضع البرتقالية في يد ابنه الأكبر “دلوّل أمه” طالباً منه: يلّا يا سبع اذهب وجهزّ ابريق الشاي للعشاء، ملتمساً العذر لبناته بأنهن تبدين مريضات ومتكدرات، دافعاً بما تبقى من سكاكر ملونة وغامزاً لهن: خدوا “يابو” بدنا نتمّسى بوجوه حلوة!

يعلم الله وعباده أن راضية أحبّت أبو عبدو وقدّرت لطفه وكرمه ومساندته لها. كما يعرفون الغيظ المتفاقم الذي أصبح يتملّكها وهي ترى زوجها يُسرف في مداراة بناتهما. إذ طالما اعتقدت أنها وحدها من جنس النساء تستحق الظفر بحنان قلبه ورّقة طبعه. تمترست وراء قناعتها أن البنت المدّللة ستكون صعبة المراس عند الزواج ولن تحتمل خشونة الحياة التي هي في النهاية قَدَر كل امرأة، وأن دلال النساء من مهام الأزواج وليست من واجبات الأهل.. على العكس من الأولاد الذكور الذين يجب منحهم كل شيء ليصبحوا واثقين قادرين على تحمّل نسائهم وأولادهم بالإضافة إلى أعباء العمل وكسب الرزق، ولكي يعودوا متلهفين إلى حنان أمهم الذي لا يعادله شيء. وهكذا أخذت المناوشات تتكرر بين راضية والقصير. بدأت ذات يوم جمعة، حيث لا يفتح القصير دكانه إلا بين العصر والمغرب، ليكافئ نفسه بعطلة يمضيها في حضن أسرته. لكن الحضن سرعان ما كان ينقسم إلى اثنين: حضن الأم في المطبخ وهي تعدّ طعام الغداء، وتستدرج الصبيان إليها منادية عبوده ليناولها قطرميز السّمن ثم عماد ليساعد أخيه.. على حين تُكمِل البنات عنها التمثيلية المكشوفة لهن، دافعات الصغير الغافل عما يجري: أمك اشتاقت لك، اركض إليها. كان الذكور يخرجون من المطبخ يمسحون بقايا اللحم والدهن المحشوّة في أفواههم مزهوّين بالحب الأموميّ الذي يُسمن ويُغني. وفي الحضن الآخر يجلس القصير مع بناته المنكسرات يداري طيف مرارات قديمة تجرّعها بصبر عند كل ولادة لزوجته، حيث شهِد، وهو المنتبه والمهتم، على تمييزها لذكورها في الرعاية والملاعبة والصفح..

يعتقد الحلبيون والشرقيون عموماً أن بقايا الحبل السرّي المعقود في منطقة السرّة عند المولود الجديد، ينبغي أن توضع في مكان كريم لأنها ستحدّد مصير المولود. وهكذا جرت العادة أن تُدفن بقايا الحبل السرّي بالقرب من كنيسة أو جامع، في سوق أو مشفى أو جامعة… تبعاً لتمنيات الأهل لمولودهم أن يصير متديناً أو تاجراً أو طبيباً أو معلماً

الحب كحليب الأم

طالما تذرّعت راضية أن حليب الأم لا ينقص بل يزيد مع استمرار الإرضاع مبرّرة التمهّل في فطام الذكور. استساغ القصير فكرة زوجته ودفعه قلبه الهنيّ المفطور على ربط حبال الود، أن يتبنى فكرتها وينسج حولها ما تمليه عليه بصيرته، مُعّللاً اهتمامه ببناته وبجيرانه، بأن الحب مثل حليب الأم، كريم ومدرار لا يتبدّد بالمشاركة بل يشتّد ويتسع ليعود لها في نهاية المطاف أعذب حالاً وأشهى حلّة.. وكذلك العدل والتسامح يا راضية، وأيضاً الغيرة والبخل واللؤم. كل شيء مثمر في هذا الكون، علينا أن نزرع بذارنا الذي نشتهي لأننا لابد أن نأكل مما زرعناه.

السرّة في البستان

يعتقد الحلبيون والشرقيون عموماً أن بقايا الحبل السرّي المعقود في منطقة السرّة عند المولود الجديد، ينبغي أن توضع في مكان كريم لأنها ستحدّد مصير المولود. وهكذا جرت العادة أن تُدفن بقايا الحبل السرّي بالقرب من كنيسة أو جامع، وفي سوق أو مشفى أو جامعة.. تبعاً لتمنيات الأهل لمولودهم أن يصير متديناً أو تاجراً أو طبيباً أو معلماً.

يُقال إن أم القصير وضعت سرّته في بستان، ضامرة نيّة أن يصبح ابنها بستانيّاً يزرع ويطعم أهل بيته من خيرات الأرض. خاصة وأنها كانت طيلة حمْلها به تشتهي الخضار والفواكه وتعاني تقرّحات المعدة من الطعام الجاف الذي لم يكن يتوافر سواه في بيتها.

ولحسن الحظ، استجابت الأقدار لأمنية الوالدة وإن بتحويرات كثيرة، وأصبح لدى القصير “دكانة” يبيع فيها لوازم البيوت من الإبرة إلى زيت الكاز والبقوليات وصولاً إلى بعض الخضار الموسمية الرخيصة، حيث لم يكن بمقدروه أن يتحمل أعباء نقل الخضار من الريف ولا الخسارة الناجمة عن قلّة الطلب عليها بوصفها من الكماليات بالنسبة لفقراء حارته. وهكذا كان أولاد القصير وبعض جيرانهم يتذوقون بين الحين والآخر الموز والتفاح والكرمنتينا والبامياء واللوبياء.. بعد أن تتضاءل هيبتهم وتتجّعد هيئاتهم ولا يعودوا صالحين  للعرض في واجهة الدكان.

البستان الحقيقي كان في قلب هذا الرجل، فيه زرع كل الطيبّات، وطعّمها بما لدى الآخرين والآخريات من زبائنه الذين يطيلون الوقوف في باب دكانه ويتبادلون الأحاديث عن شؤونهم وشجونهم. يمتاز الحلبيون بحب الكلام والفضفضة وإطالة الشرح والتوصيف، مثل معظم البسطاء الذين لا أحد يكترث بأمرهم، فتجدهم يشّقون طريقهم بأنفسهم للترويح عنها بعيداً عن الطب النفسي ومؤسسات الرعاية الصحية والاجتماعية التي تنشأ لأجلهم لكنها غالباً ما تضّل طريقها إليهم.

الحياة حامض حلو

في حارة القصير، سرى دم جديد مع نزوح عائلات من القنيطرة المحتلّة وقتذاك، ومن دير الزور حيث ضيق أحوال من لا مُلك له من الأرض أو الماشية. النساء الجنوبيات أطلقوا اسم “المُطَعّم” على الدروبوس، الأمر الذي راق للقصير وجعله يجتذب مزيداً من الطلب على بضاعته باسمها الفريد. أما الاسم الذي تعلّق به أكثر فهو الذي نشرته نساء دير الزور “الحامض حلو”! كان يضحك في سرّه مردداً: فعلاً السكاكر هي حامض حلو وليس حلواً صرفاً، فهي متدرجة الحموضة والحلاوة حسب كمية حمض الليمون وكثافة المُنكِّه المُضاف. نعم نعم، هي مثل حياتنا التي ليست “يوم حلو ويوم مرّ” كما في الفيلم المصري، بل هي حامض حلو، يوم بنعنع وآخر بالفريز وثالث بالسمسم و.. ومن جديد، وبالترافق مع تكاثر الورش اليدوية للسكاكر، كان القصير يطّور “نظريته” عن الحياة وألوانها وجمالها ونكهاتها التي لا تنتهي، ويقبل عليها راغباً بها كلها معاً.

مع القصير وبفضله وفي بستان قلبه، وجد أولاده ومعارفه أماكنهم الفسيحة، تنعّموا بخيراته، وكانت جائزته النفيسة.

تحت تأثير تقاسم الهموم وطلب المشورة وربما بفعل حضور الشوكولاته الساحر، أخذت راضية تقسم مستطيل الشوكولاته إلى قطع صغيرة متساوية على عدد الأولاد والبنات والأحفاد

راضية: الحمد لله أنا مطمئنة على بناتي فحظّهن في الزواج مثل حظّي، أما الشباب فثلاثتهم اتكاليون وقليلو الحيلة، الله يطعمهم زوجات يشبهن اخواتهن.

القصير: الله كريم

راضية (بمناورة): ما رأيك أن نزوّجهم عندنا في البيت ونرّبي زوجاتهم كما ربّينا بناتنا؟!

القصير (في سرّه) “يا أعند حلوة بالحيّ، أنا أعند منك بشويّ”. وتقوده لحظات البوح إلى مشاركتها متاعبه: أتعرفين أن الحامض حلو لم يعد مرغوباً بعد أن اكتسحت الشوكولاته الأسواق، ولا أعرف ما الذي سأفعله؟ لقد أحضرت لك واحدة. وتحت تأثير تقاسم الهموم وطلب المشورة، وربما بفعل حضور الشوكولاته الساحر، أخذت راضية تقسم مستطيل الشوكولاته إلى قطع صغيرة متساوية على عدد الأولاد والبنات والأحفاد.

ها هي وردة جديدة تزهر في قلب القصير: الحياة تستحق العناء.. والعناية!

* كاتبة من سوريا

السفير العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى