صفحات مميزة

القوات التركية في إدلب –المقدمات والنتائج-

المقايضة التركية ـ الروسية: إدلب مقابل عفرين؟/ صبحي حديدي

على الورق، أي في التخطيط المكشوف الذي تسمح به التكهنات المنطقية والتسريبات (المتعمدة، لأنها ليست سرّية تماماً!)؛ يبدو التدخل العسكري التركي الأخير في إدلب وكأنه، بالفعل، ترجمة ميدانية لمذكرة التفاهم حول خفض التصعيد في هذه المحافظة، والتي تمّ التوصل إليها خلال اجتماعات أستانة، العاصمة الكازاخية، في أيار (مايو) الماضي، بين روسيا وإيران وتركيا. المخطط المعلَن ينصّ على دخول أعداد محدودة من القوات البرية التركية (الأرقام، مع ذلك، تتحدث عن 300 إلى 500 عنصر!)، تضمن وقف إطلاق النار، وتسهيل أعمال الإغاثة الإنسانية، وإصلاح البنية التحتية، في مناطق سيطرة “المعارضة المسلحة”، أي “هيئة تحرير الشام” و”أحرار الشام” و”حركة نور الدين الزنكي” بصفة أساسية؛ وفي المقابل، ضمن مناطق سيطرة النظام و”حزب الله” والميليشيات الحليفة، تضمن روسيا وإيران تطبيق التهدئة.

ومن المعروف أنّ سلسلة من التفاهمات الروسية ـ التركية، حول سوريا ونظام بشار الأسد بصفة خاصة، كانت قد تواصلت واختمرت وتُرجمت على الأرض؛ وذلك منذ المصالحة بين موسكو وأنقرة في آب (أغسطس)، في أعقاب اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سانت بطرسبرغ، والذي أنهى تأزماً حاداً بين البلدين. لهذا فإنّ جوهر المقايضات الخافية بين روسيا وتركيا قد ينحصر في مقايضة ثنائية من الطراز التالي: إدلب تحت السيطرة التركية (بمعنى لجم الجهاديين، وتقييد حركتهم، وتجميد جغرافية انتشارهم، أو حتى قتالهم عبر الجيش التركي مباشرة، أو بالتعاون مع فصائل “الجيش الحر” السوري الحليفة لأنقرة)؛ مقابل عفرين (حيث تُطلق يد أنقرة، ويجري توسيع نطاق عمليات “درع الفرات”، بما يمكّن الجيش التركي من استكمال تقطيع أوصال “روجافا”، وبعثرة مناطق اتصال “وحدات الحماية الشعبية”، وقطع أيّ ربط جغرافي بين “كردستان الشمال” و”كردستان الغرب”…).

لكنّ هذه الحسابات، مثل كثير سواها في الواقع، قد لا تأتي على الشاكلة التي يطمح إليها رعاة مذكرة أستانة إجمالاً، لأسباب عديدة معقدة، بعضها جلي واضح لتوّه، وبعضها الآخر وليد مفاجآت طارئة وتبدّلات ليست في الحسبان المسبق. “هيئة تحرير الشام”، على سبيل المثال، قد تنحني مؤقتاً أمام عاصفة التوافق الروسي ـ التركي الراهنة؛ لكنها، إنْ فعلت، فلسوف تمارس الانحناء إلى حين فقط، إذْ أنّ مشاريع تحجيمها أو إضعافها أو استهدافها في نهاية المطاف، سوف تدفعها إلى خندق الخيارات القصوى، التي تحرص موسكو وأنقرة على تفادي ذهاب “الهيئة” إليها. أوّل تلك الخيارات قد يكون استدارة الجولاني إلى الخلف، وفتح معركة الساحل الكبرى عبر القتال البرّي أو القصف الصاروخي والمدفعي؛ وإشعال الجولة الأولى، والأخطر ربما، في “حرب أهلية” تكرر الحديث عنها، رغم أنها لم تقع فعلياً حتى الساعة.

كذلك فإنّ موسكو ليست “مرتاحة” تماماً، عسكرياً، على نحو يمكّنها من ضمان “خفض التصعيد”، أياً كانت تجلياته الميدانية الحقيقة، في منطقة معقدة رابعة؛ بعد ثلاث مناطق ليست أقلّ تعقيداً، في جنوب سوريا وشرق الغوطة وحمص الوسطى. وإذا كان لنبوءة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حول غرق موسكو في المستنقع السوري، أن تتحقق على أيّ نحو؛ فإنّ مآزق موسكو العسكرية، في ريف دير الزور ومحيط تدمر تحديداً، هي المؤشر الأوّل. ورغم انضواء تركيا في الحلف الأطلسي، وأنّ جيشها هو الثاني الأقوى ضمن صفوف الـ”ناتو”؛ فإنّ الافتراق التركي ـ الأمريكي الراهن حول سوريا، بصدد التعاون الأمريكي العسكري مع الكرد في المقام الأوّل، قد ينقلب إلى عقبة كأداء في وجه التوافق التركي ـ الروسي.

في غضون هذا كله، لم يتوقف الطيران الحربي الروسي، وطيران النظام، عن قصف إدلب ومحيطها، والتوحش في التصعيد… بدل خفضه!

القدس العربي

 

 

 

 

تركيا ولعبة شد الحبال ضد الفدرلة/ نجيب جورج عوض

يلفت الأنظار الاندفاع التركي المحموم، والإصرار منقطع النظير على الوجود عسكرياً في محافظة إدلب في سورية، ومحاولة التدخل في المشهد الميداني هناك. لقد بلغ هذا الاندفاع درجة من الإصرار دفعت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، شخصياً للتنازل من عليائه السلطاني والقيام بزيارتين إلى إيران وروسيا في فترة قصيرة جداً، مقدماً لكليهما الملف السوري برمته، ومعبراً عن استعداده التام للتعاون معهما في حل المسألة السورية، كما يرغبان، ولكن في مقابل شرطين: منع قيام كيان كردي مستقل في المنطقة، والسماح له بالدخول إلى إدلب والوجود فيها عسكرياً وسياسياً. ولكن لماذا إدلب؟ ما المهم في إدلب في حسابات تركيا القومية والاستراتيجية؟ هناك سببان لا يقلان أهمية ولا مصيرية عن بعضهما في الفكر التركي الاستراتيجي.

أولاً، يدخل التركي إلى إدلب، لكي ينقذ كتائب جبهة النصرة وسواها، من التصفية الشاملة التي تم أخذ قرار إقليمي ودولي بمحو هذه الكتائب من المشهد السوري. يدخل أردوغان بقواته إلى إدلب، لكي ينقذ الكتائب التي سلحها نظامه ودربها وأمن لها الغطاء السياسي والعقائدي، وشرع لها حدوده كي تدخل الساحة السورية، وتحول الثورة إلى حرب مدمرة. يدخل التركي كي يقول لصناع القرار إنه قادر على تهجين تلك الكتائب، وتحويلها من جبهات نصرة راديكالية إلى

“تخلى النظام التركي عن الملف السوري، بعد محاولة الانقلاب على السلطة في تركيا” فصائل إسلامية معتدلة، مستعدة للتعاون وجاهزة للانخراط في حل سياسي، ولتقاسم السلطة مع النظام. يدخل أردوغان إدلب ليعيد تأهيل الكتائب الجهادية، وينقذها من حالة “تورا بورا” أخرى، مراهناً على أنه يستطيع أن يعيد في سورية إنتاج مشهد ليبي، يتيج للإخوان المسلمين والإسلامويين المحسوبين على تركيا، الدخول إلى محاصصة السلطة من بوابة الرعاية التركية الضابطة إيقاع الإسلامويين، العسكري والعنفي، والضامنة تعاونهم في أي حل سياسي، مع الإبقاء على تلك الفصائل في حالة تعبئة عسكرية وميدانية، على أمل استخدامها لاحقاً، حين تدعو الحاجة إلى قضم حصة أكبر من كعكة السلطة، حين يجلس الجميع على طاولة التحاصص. لهذا سمعنا أن جبهة النصرة “استقبلت” القوات التركية الواصلة إلى إدلب، وسهلت لها عملية الدخول. ولهذا سنسمع قريباً الصوت التركي يعلو مدافعاً عن “اعتدال” جبهة النصرة و”وسطيتها” و”لاعنفيتها”، وكذا كتائب الإخوان المسلمين واستعدادها، تحت إمرة راعيها وأبيها السياسي والروحي، لفرض اتفاق أستانة في سورية، وإرضاء الروسي بفعل ذلك.

ثانياً، وهو سبب أهم بكثير استراتيجياً وقومياً في المستقبل، تدخل تركيا إلى إدلب، لكي توجد بكل الوسائل والسبل كياناً إسلاموياً (سنياً تحديداً وحصراً) في قلب الشمال الغربي السوري، لأنها تحتاج لكيان جغرافي وديمغرافي وطائفي كهذا، وبشدة في المستقبل الآتي. وكان صاحب هذه المقالة قد كتب سابقاً أن صناع القرار في العالم عازمون بجدية على فدرلة (أو كونفدرلة) المشرق برمته وبكل دوله، بما فيها إيران وتركيا، وأن هذا هو الهدف البعيد الاستراتيجي الآتي إلى المنطقة، وقد تلقفه الأكراد (مبكراً جداً في الواقع) أخيرا، وعملوا على التعامل معه أمراً واقعا، وأعلنوا لدول المنطقة أن ساعة تنفيذه دقت. في ضوء مشروع الفدرلة، تحارب تركيا بشكل حميم، كي تحافظ على وجودها الجغرافي، من دون إعادة تنظيم فيدرالي فيها. وتركيا لا ترتعب فقط من إمكانية بدء تطبيق النظام الفيدرالي فيها، انطلاقاً من الشرق الكردي، بل تخاف أيضاً من عملية قضم فيدرالية أخرى لها، لا تقل جديةً وخطورةً على نظام أنقرة، تقع في جنوبها الأوسط المتاخم للحدود السورية الشمالية الغربية. علينا أن نتذكّر أن هناك تجمعا علوياً ضخما يقدر بعدة ملايين من البشر، يسكن في المناطق الجنوبية الوسطى من تركيا، والتي

“في ضوء مشروع الفدرلة، تحارب تركيا بشكل حميم، كي تحافظ على وجودها الجغرافي” تتاخم منطقة إدلب ومنطقة الساحل. بالنسبة للعقل التركي السياسي، أن تتحدث عن الساحل السوري يعني أنك تشير إلى المناطق “العلوية” في سورية (يصر التركي على إنكار التنوع الهائل في المنطقة واختزالها بالطائفة العلوية). وإذا ما بدأ تطبيق فيدرالية (أو كونفدرالية) في سورية (الأمر الذي يستعد له النظام السوري منذ الآن بتعبيره عن قبول نتائج استفتاء الأكراد في سورية المستقبل) فهذا سيعني، برأي التركي، أن علويي الساحل السوري وعلويي الجنوب الأوسط التركي قد يفكرون بتأسيس كيانهم المستقل أيضاً، ما يعني قضم مناطق مهمة جداً من تركيا، وضمها لفيدرالية الساحل السوري، وبالتالي تشكيل تهديدين كبيرين للنظام التركي، واحد من الكرد في الشرق وواحد من العلويين في الجنوب. لا يرضي هذا الاحتمال التركي أبداً ولا يريحه بالمرة. لهذا يستقتل التركي لاقتحام إدلب، والعمل على إيجاد كيان مجتمعي، ديمغرافي وطائفي سني قوي ومتوازن وآمن وذي ديمومة في إدلب، كي تمنع أي احتمال لاستقلال فيدرالي موسع، يحلم به علويو الساحل السوري والجنوب الأوسط التركي.

قبل سنتين، تخلى النظام التركي كلياً عن الملف السوري، وباع المعارضة السورية، بعد محاولة الانقلاب على السلطة في تركيا. اليوم يجد التركي نفسه متحمساً للعودة إلى المشهد السوري، كي يمنع احتمالات راديكالية تنتظر تركيا وكل دول المنطقة. وإدلب هي بيضة القبان التي يراهن عليها التركي اليوم، كي ينقذ إسلاموييه من التصفية الشاملة، وكي ينقذ جنوبه من نتائج هذا المشروع الفدرالي (أو الكونفدرالي) القادم إلى المنطقة، شئنا أم أبينا. هل ينجح التركي في مسعاه الاستراتيجي؟ علينا أن نراقب ونرى إرهاصات التبدلات الهائلة التي تحول المشرق إلى عالم لم يعد أهله يعرفونه أبداً.

العربي الجديد

 

 

 

تركيا والأكراد في سورية/ بشير البكر

خصوصيات الوضعين التركي والسوري وتداخلاتهما كثيرة. بعضها ثابت، والآخر متحول، وهذا أمر يميز، في الشكل والمضمون، انخراط تركيا في الشأن السوري عن أي طرف إقليمي أو دولي آخر. وقبل كل شيء، هي جارة كانت تربطها علاقات جيدة مع نظام بشار الأسد قبل قيام الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، ومن ثم تحولت العلاقة الحميمة بين أنقرة ودمشق إلى عداوة حادة خلال فترة قصيرة جداً، بعد أن فشلت كل المساعي التركية في إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بسلوك طريق الإصلاح.

ومنذ بداية الثورة السورية، بقيت أمام تركيا أربعة خطوط تتحكم بكل خطوة من خطوات أنقرة. الأول، ضبط الملف الكردي من داخل سورية، بعد أن تبين أن مشروع حزب الاتحاد الديموقراطي هو إقامة كانتون كردي، يشمل الشريط الحدودي السوري التركي الممتد من الحدود مع العراق، وصولاً إلى منطقة عفرين في ريف حلب. والثاني، منع أي تأثيرات للتطورات السورية من الانتقال إلى الأراضي التركية، في ظل موجة الهجرة الكبيرة، سواء التي استقرت وهي قرابة ثلاثة ملايين أو العابرة، وهي تجاوزت مليوناً، وهذه مسألة ترتبت عليها أعباء اقتصادية وأمنية واجتماعية كبيرة. والخط الثالث هو إيجاد حل سياسي، يقوم على أساس رحيل النظام السوري. أما الخط الرابع فيتمثل في مراعاة الموقف الأميركي، وقياس أي موقف أو تحرك على أساس حسابات واشنطن.

بعض هذه الخطوط صمد، وتمرد بعض آخر على الحسابات، ولم يكن في وسع أنقرة التحكم به. وبالتالي، نجحت في إدارة ملف، ولم تحقق حساباتها المنشودة في ملف آخر، والسبب أنها كانت من دون حليف إقليمي، يمكن الركون إليه بقوة، منذ تسلمت السعودية ملف الفصائل السورية المسلحة في صيف عام 2013، في وقت عولت فيه على موقف إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي خذلها هو الآخر، وتركها في مواجهة قوتي إيران وروسيا، ولم يوفر لها أي غطاء عسكري أو دبلوماسي. وكانت أكبر طعنة تلقتها أنقرة من واشنطن تمييع مسألة إقامة منطقة آمنة في سورية، لاستيعاب اللاجئين ووقف نمو الحالة الكردية المتمثلة في حزب الاتحاد الديموقراطي الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية.

تجد تركيا اليوم نفسها أمام معادلة سورية مختلفة، حيث بات مطلوباً منها أن تنخرط أكثر في الملف السوري، وفق مسار أستانة الذي رسمته مع كل من روسيا وإيران، وشكلُ الانخراط المطلوب هو نشرُ مراقبين من أجل التهدئة في محافظة إدلب، ووضع حد للوضع السائب هناك بسبب سيطرة الفصائل المسلحة، وخصوصاً “هيئة تحرير الشام” التي باتت القوة الأساسية في المحافظة.

تعتمد تركيا في عملية إدلب على قوات درع الفرات الباقية من الجيش الحر، والهدف المشترك بين الطرفين إقامة منطقة خالية من الفصائل المسلحة التي تحولت إلى أمراء حرب، وحماية المدنيين من القصف الروسي والنظام السوري، لكن الهدف التركي الفعلي من العملية هو مواجهة المشروع الكردي في سورية. ولهذا تحضرت أنقرة على مستوى التفاهمات مع موسكو وطهران.

لدى تركيا حساب خاص يتعلق بالوضع الكردي، فهي لم تبد إلى اليوم أي تهاون في ما يخص الوضع الجديد الذي فرضه حزب الاتحاد الديموقراطي بوسائل مختلفة، وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة التي اتخذته حليفاً أساسياً في الحرب ضد “داعش”.

لم تتردد تركيا في إعلان نيتها أنها ستقوم بتدمير الكانتون الذي بناه حزب الاتحاد الديموقراطي، وهذا أمر سوف يزيد من عملية الفرز القائمة على الأرض السورية، ولن يكون سهلاً في كل الأحوال، لا سيما وأن واشنطن لن تقف متفرجة.

العربي الجديد

 

 

 

لعبة الامم في إدلب/ إياد الجعفري

هل نستطيع القول بأن قادة هيئة تحرير الشام أنصتوا لصوت العقل، وقرروا بالفعل، تجنيب إدلب وسكانها، مصائر مشؤومة، كانت مرجحة؟، ربما من المبكر الجزم بذلك. لكن المؤشرات الأولية توحي بأن قادة الهيئة أدركوا، بعد محاولة متسرعة لخلط الأوراق، أن الخيارات المتبقية كلها مُرّة، فاختاروا أقلها مرارةً، في ما يبدو.

في الأسابيع الأخيرة، قامت هيئة تحرير الشام بمحاولة جديدة، لكنها اكتشفت، مرة أخرى، أنها عاجزة عن التأثير ميدانياً، دون غطاء إقليمي داعم. إذ آلت عملياتها العسكرية الأخيرة في جنوب إدلب وريف حماه الشمالي، إلى نتائج هزيلة، ربما باستثناء الاستيلاء على بلدة “أبو دالي”، التي تشتهر بوصفها معبراً تجارياً بين مناطق سيطرة النظام، وبين محافظة إدلب.

في المرحلة الأولى من عمليات هيئة تحرير الشام، كان الردّ الروسي حاسماً وشديداً. وتعرضت بلدات إدلب لقصف وحشي، طال المدنيين، كما طال مقار لفصائل معارضة، بعضها مناوئ لهيئة تحرير الشام، الأمر الذي أثار استغراب بعض المراقبين، وأوحى لهم بأن روسيا تريد النيل من فصائل قد يعتمد عليها الأتراك في حال حصول مواجهة مع هيئة تحرير الشام، إذا تم الدخول التركي، من دون موافقة الهيئة. الأمر الذي قد يُفسر على أن الروس كانوا يأملون حصول مواجهة تركية مع هيئة تحرير الشام، في إدلب، وتعرض الأتراك للاستنزاف هناك.

لكن، في المرحلة الثانية من عمليات هيئة تحرير الشام، استولت الأخيرة على بلدة أبو دالي. وهنا، غاب الغطاء الجوي الروسي تماماً عن عمليات جيش النظام، الأمر الذي أثار تكهنات، بأن الروس كانوا راضين عن هذا التقدم لهيئة تحرير الشام، باعتباره يضرّ بالنفوذ الإيراني الميداني، حسبما ذهب إليه مراقبون محليون من سكان المنطقة. لكن سرعان ما جاء ردّ النظام وحليفه الإيراني، إذ عبرت مجاميع من مقاتلي “داعش”، مناطق في ريف حماه الشرقي، من دون أي اشتباك مع ميليشيات النظام وإيران، لتشتبك مع مقاتلي هيئة تحرير الشام. وبذلك، خلط الإيرانيون، وحليفهم في دمشق، من جديد، الأوراق، في مواجهة هيئة تحرير الشام. وربما في مواجهة الأتراك مستقبلاً، أيضاً. فوصول “داعش” إلى مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، قد يفتح الآفاق أمام احتمالات عديدة، أحدها ربما، حصول اتفاق بين الطرفين، “داعش”، و”هيئة تحرير الشام”، باعتبار أنهما مستهدفان من جميع الأطراف. الأمر الذي قد يشكل عبئاً على الأمن القومي التركي، بالدرجة الأولى، لأن ذلك يعني أن متشددي “داعش” قد يصبحون على تخوم تركيا، من جديد. لكن الاحتمال الآخر، الوارد بشدة أيضاً، أن تتورط هيئة تحرير الشام في حرب شعواء مع “داعش”، مهدت لها بالفعل، حرب بيانات صدرت عن الطرفين، نعت فيها كل طرف الآخر، بوصوف ذات مصدر فقهي، تستلزم القتال.

لا شك أن خلافات في الرأي تعتمل الآن في أوساط قيادة هيئة تحرير الشام، بين أصوات تطالب بالذهاب إلى النهاية في الصراع مع الأتراك، بوصفهم تعبيراً عن توافق إقليمي – دولي، يستهدف تصفية “المشروع الجهادي” في سوريا. حتى لو تطلب ذلك، التحالف مع “داعش”. لكن، في المقابل، لا بد أن أصوات سترتفع في قيادة الهيئة، لترفض هذا الخيار، مذكرةً بأن الرأي العام المحلي في إدلب، يفضل السيناريوهات التي تفضي إلى وقف القصف والقتال. وأن خيار التفاهم مع تركيا، أرحم، ألف مرة، من خيار التحالف مع “داعش”، الذي بات شراً مطلقاً في جميع القواميس الإقليمية والدولية. التحالف مع “داعش”، هو نحرٌ لمشروع “الجهاد” في سوريا. لا بد أن ذلك النقاش يدور الآن في أوساط قيادة الهيئة. ويبدو للعيان، أن كفة الرأي الثاني، رجحت مؤقتاً، بدليل اللقاءات التي أجراها بعض قيادات الهيئة مع وفد عسكري تركي، انتهت إلى دخول أولي للقوات التركية، بسلام.

لكن، ما يزال الجواب حول المسار الذي ستعتمده هيئة تحرير الشام، في التعامل مع تطورات الدخول التركي إلى مناطق سيطرتها، غير حاسم. يأمل الكثيرون أن تغلب كفة الرأي الثاني، القائلة بأن التفاهم مع تركيا، أفضل الخيارات المتاحة، حتى النهاية. فهو بالفعل، أفضل المصائر المحتملة لإدلب وسكانها، في الوقت الراهن. لكن، مسار التعامل مع تطورات الدخول التركي إلى إدلب، يتطلب من هيئة تحرير الشام، في نهاية المطاف، القيام بقرارات جريئة، ونوعية. فعلى الهيئة أن تنسجم مع الترتيبات التركية في الشمال السوري، بما في ذلك، ربما، حل نفسها، والاندماج في مؤسسات معارضة، ترتبها أنقرة لتكون حصتها من الكعكة السورية. فهل ستصل الهيئة إلى هذه الخاتمة بالفعل؟.. لا يمكن الإجابة الآن، فلا بد أن خلافات الرأي في أوساط قيادة الهيئة، ما تزال في أوجها. والكفة التي سترجح حتى النهاية، ما تزال غامضة.

***

بالنسبة للأتراك، فإن استيعاب هيئة تحرير الشام، وعدم الاصطدام معها، هو أفضل الخيارات المتاحة بالنسبة لهم، في إدلب. وإذا تمت مراحل انتشارهم السبع المرتقبة في المنطقة، بسلاسة وأمان، حتى النهاية، فإن ذلك أفضل ما كان يمكن أن يحدث لأنقرة. فهي لم تتورط في حرب استنزاف مع مجموعة جهادية متمرسة، في منطقة جبلية وعرة، تمتلئ بأنصار التيار الجهادي. وكذلك، لم تخسر المنطقة لصالح هجوم عسكري بريري من جانب النظام والإيرانيين بغطاء روسي، بصورة تسبب نزوحاً بمئات الآلاف إلى الأراضي التركية. وكذلك تجنبت أسوأ السيناريوهات بالنسبة لها. وهو تقدم قوات الاتحاد الديمقراطي الكردي، بغطاء جوي أمريكي، للسيطرة على المنطقة، وصولاً إلى البحر، وتحقيق حلم الأكراد، بإطلالة بحرية لكيانهم المُرتقب. لذلك نجد أن الانتشار العسكري التركي، الأولي، تم على تخوم عفرين، من جانب إدلب. أي أن الهاجس التركي الرئيس، هو عدم حصول تمدد كردي عبر إدلب إلى البحر.

أما الروس، ربما لم يتحقق أحد السيناريوهات التي فضلوها في إدلب، وهو تورط الأتراك في حرب استنزاف في مواجهة تحرير الشام. لكنهم من دون شك، يفضلون التفاهم مع الأتراك للسيطرة على تلك المنطقة، بدلاً من تمدد الأكراد بغطاء أمريكي. فالروس يعلمون أن النظام وداعمه الإيراني على الأرض، لن يتحمل مواجهتين حاسمتين، على جبهتين في آن. وفي الوقت الراهن، يفضل التحالف الإيراني – الروسي، التركيز على الجبهة الشرقية. دير الزور، وما بعدها. لأن ذلك يعني مصير مصادر الطاقة، التي قد تعين النظام على البقاء حياً، من الناحية الاقتصادية، في المستقبل، من دون أن يكون عبئاً مالياً ثقيلاً على الإيرانيين.

الإيرانيون بدورهم، يحبذون من دون شك، أن يرون الأتراك غارقين في دمائهم، في مواجهة متطرفين وجهاديين في إدلب. لذلك، فتحوا الطريق لمقاتلي “داعش”. لكن إن تعذر ذلك، فإن القبول بسيطرة الأتراك على إدلب، أفضل بمئة مرة، من حصول تقدم كردي في تلك المنطقة. فتلك كارثة لإيران أيضاً، بالتزامن مع التحدي الذي تواجهه في كردستان العراق. فأكرادها، دون شك، ينظرون بعين الترقب، إلى مصائر التجارب الاستقلالية الكردية، في العراق وسوريا. وإجهاض تلك التجارب، هدف إيراني رئيسي، له أولوية على أية مناكفات مع الجار التركي.

بالنسبة للنظام، لا يبدو أن له من القرار شيئا. حتى أن تصريحات وزير خارجيته في لقاء موسكو الأخير، تؤكد أنه لم يكن يعلم حتى، ما الذي يدور من مفاوضات سرية، بين أنقرة وطهران وموسكو، حول مصير منطقة إدلب.

وحدهم الأمريكيون، ربما غير سعداء بالدخول التركي إلى إدلب. علناً، توحي تصريحاتهم بالرضا عن ذلك. لكن مناكفاتهم مع الأتراك، على أرض الواقع، بما في ذلك مسألة موظفي السفارة الأمريكية، المرتبطين بـ فتح الله غولن، إلى جانب رهانهم الكبير على حلفائهم الأكراد، والابتعاد التركي المستمر عنهم، لصالح تفاهمات ثلاثية مع روسيا وإيران، كلها أمور غير مريحة لهم، من دون شك. لا بد أن الأمريكيين كانوا يأملون تحقيق تمدد كردي إلى الساحل السوري، إن أمكن. فذلك يعني أن حليفهم الميداني الذي راهنوا عليه، حصل أخيراً على متنفس بحري، يُنجيه من احتمالات الخنق الاقتصادي التي يمكن للأتراك والإيرانيين ونظام الأسد، تنفيذها بحقهم، في المستقبل.

لذلك. ربما ستبقى قائمة “الإرهاب”، الورقة الأقوى في قبضة الأمريكيين، يرفعونها في وجه الأتراك، كلما حاول هؤلاء استيعاب هيئة تحرير الشام، حتى لو حلت الأخيرة نفسها، واندمجت في الترتيبات التركية. فبعض قياداتها، مطلوبين لدى واشنطن، وهم محتسبين على قيادة تنظيم القاعدة. وبالتالي، لا يمكن لهم أن يختفوا ببساطة.

ستبقى تلك الورقة، التحدي الأبرز أمام الأتراك في إعادة تأهيل الجسم المتشكل من حل هيئة تحرير الشام، لو تم ذلك. وسيبقى الأمريكيون غير راضين عن التمدد التركي داخل الأراضي السورية. ما دام الحليف التركي القديم، غير صاغر تماماً، للإرادة الأمريكية.

المدن

 

 

 

عملية بطعم الفضيحة/ بكر صدقي

قبل بضع سنوات، قاطعت فصائل من الجيش السوري الحر برنامج البنتاغون الخاص بتدريبها وتسليحها، على الأراضي التركية، لقتال داعش، حين اشترط الأمريكيون على كل مقاتل أن يوقع على تعهد ينص على أنه سيقاتل داعش فقط، ولن يقاتل قوات النظام الكيماوي. أما اليوم فنحن نرى فصائل «درع الفرات» المؤتمرة بأوامر الجيش التركي تدخل محافظة إدلب لقتال «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) بغطاء جوي روسي!

هذا مشهد فضائحي حقاَ! فصائل تنسب نفسها إلى تلك المظلة التي أصبحت وهمية، أي «الجيش الحر»، ستقوم بعمل من المفترض أنه من مهمة قوات الأسد، وبحماية طيران الدولة المنتدبة من «المجتمع الدولي» على مصير سوريا، وتقصف طائراتها الحربية المدن والبلدات الآهلة بالسكان ومراكزها الحيوية كالمستشفيات والمدارس، مخلفةً المجزرة بعد المجزرة، في محافظة إدلب نفسها، حتى لا نتحدث عن جرائمها المماثلة في دير الزور وجوارها.

أما تركيا، فهي لم تزج بقواتها، بعد، في «عملية إدلب» وهدفها، كما أعلن، إقامة «منطقة خفض توتر» رابعة، بالتنسيق مع شريكتيها في مسار آستانة، روسيا وإيران. وذلك بعد المنطقة الجنوبية قرب الحدود مع الأردن، وغوطة دمشق، وريف حمص على التوالي. بدلاً من ذلك دخل وفد عسكري تركي من ثلاثة ضباط، قيل إنهم تفاهموا مع هيئة تحرير الشام على انسحاب الأخيرة بلا قتال، بشرط تسليم إدلب لقوات تركية، وليس لقوات «درع الفرات» التي بقيت عالقة مؤقتاً في المنطقة العازلة في معبر باب الهوى الحدودي بانتظار التطورات. وحسب تصريحات الرئيس التركي أردوغان، تقوم الخطة الثلاثية على نشر 500 عنصر من الجيش التركي داخل مدينة إدلب، مقابل الروس الذين من المفترض أن يتمركزوا في محيطها. أما الإيرانيون فسوف يتموضعون في مناطق سيطرة النظام شرق المحافظة الملاصق لريف حلب الغربي. وبذلك تكتمل ترتيبات «خفض التصعيد» بعد «تطهير» المحافظة من قوات النصرة وفصائل جهادية قريبة منها.

غير أن التحركات الاستخبارية ـ العسكرية التركية، بما في ذلك تحليق طائرات الاستطلاع بدون طيار (الدرون) فوق منطقة عفرين المجاورة ومحيطها القريب، تشير بشفافية إلى وجهة الشهية العسكرية التركية المفتوحة ضد جيب عفرين الكردي الذي تسيطر عليه «قوات حماية الشعب». والحال أن احتمال تورط عسكري تركي في عفرين، ما زال ضعيفاً جداً بالنظر إلى أن هذه المنطقة الجبلية الوعرة لا يمكنها أن تكون لقمة سائغة، ويعرف الأتراك أن الورطة هناك يمكن أن تكلفهم الكثير، وبلا أي نتائج مضمونة. يضاف إلى ذلك أنها محمية من الروس المتمركزين في كفر جنة، ولن يقبل الأمريكيون أيضاً بأي تدخل تركي فيها. لمجموع هذه الاعتبارات، من المحتمل أن تسلم المناطق المحاذية لعفرين، من جهة إدلب، إلى فصائل درع الفرات التي تحركها أنقرة. وهذه الفصائل الداخلة في مسار آستانة الثلاثي، أضعف من أن تواجه القوات الكردية ذات التنظيم والتسليح الجيدين.

من المحتمل، والحال كذلك، أن تتجه أنقرة إلى الالتفاف من حول منطقة عفرين شرقاً وجنوباً، نحو تل رفعت والقرى المجاورة، بما يؤدي إلى تسليم تلك المناطق إلى قوات النظام الكيماوي والميليشيات الإيرانية «الرديفة» (حسب التسمية الأسدية المستمدة من القاموس البعثي العتيق).

ماذا يعني كل ذلك سياسياً؟

يعني، قبل أي شيء آخر، أن التقارب التركي ـ الأسدي الذي كان، منذ صيف العام 2016، مداوراً عبر الوسيط الروسي، اقترب من التحول إلى تقارب مباشر قائم على وحدة الأهداف. في هذا الإطار، لم يكن تسريب خبر إجراء اتصال هاتفي بين أردوغان والأسد، بضغط من بوتين، قبل حين، وبصرف النظر عن صحته، إلا نوعاً من القصف السياسي التمهيدي، قبل إعلان رئيس الوزراء بن علي يلدرم عن المشاورات المستمرة بين «دول جوار العراق»، أي إيران وتركيا وحكومة بغداد و»الجانب السوري» (أي النظام الكيماوي)، لتنسيق العمل ضد إقليم كردستان الذي أجرى استفتاءً على استقلاله عن الدولة العراقية.

يمكن القول، إذن، إن أنقرة قد أكملت إعادة تموضعها، لتنتهي مغامرتها في سوريا التي بدأت، في العام 2011 بهدف إسقاط النظام الكيماوي، لتنتهي بالقبول بالتعايش معه في المرحلة القادمة، وصولاً إلى احتمال التنسيق معه، تحت المظلة الروسية، في مواجهة «الخطر الكردي» المتصل بين العراق وسوريا. تأتي إعادة التموضع التركية هذه، في ظل توتر علاقات أنقرة مع كل من الأمريكيين والأوروبيين، وقد بلغت ذروة تجلياتها بقرار إدارة ترامب تعليق عمليات منح تأشيرات الدخول في السفارة الأمريكية في أنقرة، وشكلت سابقةً في العلاقات بين البلدين.

الواقع أن ما أسميناه بإعادة التموضع هو أقرب إلى فقدان البوصلة، أكثر من كونه انتقالاً حاداً من الضفة الأمريكية إلى الروسية. ذلك أن روسيا لا يمكن أن تتحول إلى حليف موثوق لأنقرة. وكل ما في الأمر أن بوتين استطاع، من خلال لي ذراع تركيا في أزمة إسقاط الطائرة الروسية، فنجح في توسيع الشرخ داخل الحلف الأطلسي بين تركيا وحلفائها الغربيين.

فقدان بوصلة ناجم أساساً عن سوء تدبير في شؤون الداخل التركي كما في شأن الدور التركي النشط في الحرب السورية. أدى، تدريجياً، إلى عودة النزعة القومية التركية المتشددة إلى صدارة المشهد بوصفها العقيدة الرسمية للدولة التركية العميقة.

كان لافتاً، في هذا الإطار، انفلات الحماسة القومية الشعبوية في تصريحات أردوغان وأركان حكومته، بصورة مفاجئة، ضد الحليف السابق مسعود بارزاني، بعد سنوات من العلاقات الدافئة بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية. فإلى ما قبل يوم الاستفتاء، في 25 أيلول، ظلت التصريحات التركية في حدود منضبطة. ثم انقلبت فجأة إلى التهديد والوعيد، بصورة لا تتناسب حتى مع النوايا التركية التي يمكن أن تكون مبيتة ضد الإقليم. فقد تجاوزت تلك التصريحات في حدتها حتى نظيرتها الإيرانية.

وما أن وصل الرئيس الروسي إلى أنقرة والتقى بأردوغان، حتى انتقلت الاهتمامات التركية الساخنة من أربيل إلى إدلب السورية. والحال أن هذا الانتقال يعبر أيضاً عن حقيقة حدود الدور الاقليمي المسموح لتركيا، والذي لا يمكنه تجاوز السقف الذي تضعه لها روسيا: المشاركة في تحقيق منطقة «خفض التصعيد» الرابعة في إدلب، مع استمرار بقاء السيطرة التركية على جيب جرابلس ـ الباب شمال حلب.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

بعد إدلب … جنيف وخيارات صعبة أمام بوتين/ جورج سمعان

بدأت معركة فرض «منطقة خفض التوتر» الرابعة في إدلب وريفها. كانت مقررة منتصف الشهر الماضي، لكنها تأخرت لأسباب كثيرة. تقررت ساعة الصفر في قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. وأعقبتها لقاءات بين وفد رسمي من دمشق مع مسؤولين أتراك برعاية السفارة الروسية في أنقرة. لم يعد بمقدور موسكو إهدار مزيد من الوقت. منيت قواتها في الأسابيع الأخيرة بخسائر لم تكن تتوقعها. وهي تخشى مزيداً من الانزلاق العسكري البري. لذلك ستقدم الدعم الجوي إلى فصائل «الجيش الحر» في مقابل دعم بري تقدمه تركيا لإنهاء سيطرة «هيئة تحرير الشام» على شمال غربي سورية. أي إنهاء سيطرة «جبهة النصرة» أكبر تنظيم في الهيئة. بعد ترسيخ «المناطق الأربع» تدخل الأزمة في بلاد الشام مرحلة جديدة عنوانها البحث عن تسوية سياسية انتقالية تتويجاً لوقف الحرب، بانتظار حل سياسي دائم.

لا جدال في أن موسكو رسّخت أقدام النظام في دمشق. لكنها بعد عامين على تدخلها العسكري انتزعت ورقة التصرّف في سورية. ولم يكن أمام جميع اللاعبين سوى الإقرار بهذا الواقع. وهكذا نجحت في فرض رؤيتها إلى التسوية. فرضت مفهومها للفصائل الإرهابية وتلك المعتدلة. وبعدما كانت تركز على ضرب مجاميع المقاتلين بلا تمييز في بداية انخراطها ميدانياً، اعترفت بـ «الجيش الحر» وفصائل أخرى «معتدلة». وكانت هذه طرفاً في اتفاقات إقامة المناطق الآمنة التي تقررت في آستانة. وانصرفت أخيراً إلى حرب «داعش» و «النصرة». لكنها لن تصل بعد إلى خاتمة تقيها التورط الميداني، بعد الجوي. أفلحت سياسياً في فرض نفسها حكماً في الاصطفافات المتناقضة في الأزمة السورية. عززت تحالفها مع إيران. واستمالت تركيا التي تحولت ورقة المعارضة بيدها «إشكالية». وتعمل على إعادة ما انقطع بينها وبين النظام في دمشق. وراع الرئيس بوتين في قمم متتالية بينه وبين الملك عبدالله الثاني هواجس الأردن. فعمان لم تشأ منذ اندلاع النار في بلاد الشام التورط المباشر. قدمت إلى الأميركيين وقوى محسوبة على «أصدقاء الشعب السوري» تسهيلات لتدريب فصائل معتدلة ساهمت في إبعاد المتطرفين والمتشددين عن حدودها. وهي تحاول اليوم مع سعيها إلى إعادة الحرارة إلى علاقاتها مع دمشق، إيجاد صيغة لتسليمها معبر نصيب الحيوي. مع علمها أن إقامة المنطقة الآمنة في جنوب سورية أنشئت بالاعتراف «الدولي» بالفصائل المقيمة في منطقة الحدود. وبالتالي لا يمكن تجاهلها وكفّ يدها عن هذا المعبر.

أما الدولة العبرية فواظبت على استهداف ما تسميه شحنات أسلحة من إيران إلى «حزب الله»، أو مواقع لتخزين أو صناعة صواريخ للحزب. ولم تعترض القيادة الروسية. أبدت استياءها لكن الخط المفتوح بين قوات البلدين من بدايات التدخل الروسي ظل مفتوحاً! مثلما ظل مفتوحاً باب اللقاءات بين المسؤولين الروس والإسرائيليين على أعلى المستويات. ولم تقف الديبلوماسية الروسية عند حدود دول الطوق السوري. دفعت مصر إلى أداء دور في التفاهم على بعض «مناطق خفض التوتر». وعولت ولا تزال تعول على دور المملكة العربية السعودية، خصوصاً بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز لموسكو، في العمل على توحيد أطياف المعارضة لتكون جاهزة لجولة جديدة من المفاوضات في جنيف بعد أسابيع. أفادت من توجه القيادة السعودية خصوصاً نحو توسيع رقعة علاقاتها الإستراتيجية، نحو الشرق، من الصين إلى اليابان والدول الإسلامية الكبرى في آسيا، بعد النتائج الكارثية التي خلفتها سياسات الرئيس باراك أوباما في المنطقة العربية. وهكذا ضمنت إلى حين مروحة واسعة من التفاهمات التي أتاحت لها التحكم بورقة سورية.

لكن تحويل موسكو بلاد شام منطلقاً أو قاعدة نحو «الشرق الأوسط الكبير» دونه عقبات ومحطات صعبة. أولها السياسة الجديدة التي سيعلنها الرئيس دونالد ترامب بعد أيام، خصوصاً حيال إيران. فقد كرر اتهامها بعدم «احترام روحية» الاتفاق النووي، وبـ «دعم الإرهاب وتصدير العنف والدم والفوضى في الشرق الأوسط». وأكد وجوب «وضع حد لعدوانها المستمر». وأشار بعد عشاء مع جنرالاته إلى «هدوء يسبق العاصفة». ولا تزال واشنطن تصر على وجوب إقفال الحدود بين سورية والعراق، انطلاقاً من «المنطقة الجنوبية» وقاعدة التنف، إلى المناطق التي يسيطر عليها الكرد في الشمال الشرقي. وتسعى كل من موسكو وواشنطن إلى خفض منسوب التوتر بينهما انطلاقاً من الصراع الذي قد ينفجر بعد الانتهاء من تحرير الرقة ودير الزور من «داعش».

من العقبات أمام موسكو قضية إعادة الإعمار، إذ لا يمكن ترسيخ الهدوء في بلد دمرت الحرب حواضره وقراه وأريافه وشردت أهلها في الداخل والخارج. وقد بدأت قضية اللاجئين تطرح بشدة في كل من الأردن ولبنان. ومنذ بدأ الحديث عن مشاريع الإعمار وكلفتها التي تربو على 300 بليون دولار، راح النظام يلوح بأنه لن يسمح لـ «أصدقاء الشعب السوري» من الدول الغربية والعربية بالمساهمة في هذه الورشة الكبيرة. بل سيدعو «أصدقاءه» إلى تولي هذه المهمة! والواقع أن الصناديق الدولية وكل الدول المعنية تحجم حتى الآن عن التحرك. بل لا تضع في برامجها سورية. حتى «أصدقاء» النظام من الصين وغيرها. كأن إعادة الحياة إلى هذه المدن والقرى المدمرة مؤجلة. ويخشى أن تنضم إلى لاحقة «المدن المنسية» وقراها التي يبلغ تعدادها نحو 800. هذه «المدن الميتة» التي ازدهرت في القرون المسيحية الأولى، في أرياف حماة وإدلب وحلب، باتت اليوم من أهم المعالم السياحية في العالم. هجرها أهلها ودمر معظمها. ويعزو المؤرخون والباحثون الأسباب إلى جملة من العوامل. أهمها الغزوات الفارسية في القرنين السادس والسابع والزلالزل والأوبئة وغزو الأمويين القسطنطينية من البحر وانقطاع تجارة هذه المدن مع أوروبا. ثم جاء الصليبيون الذين حولوا مبانيها وكنائسها قلاعاً. كلها عوامل ساهمت في «نسيان» هذه المعالم التاريخية.

نجح الرئيس بوتين في الإمساك بالورقة السورية حتى الآن. لكن المهمة لن تكتمل بقيام «مناطق التهدئة». لن يستطيع تحريك ورشة الإعمار قبل البحث في مستقبل رأس النظام في دمشق، ومستقبل الوجود الإيراني في سورية. لقد ارتضى خصوم النظام بقاء الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. فضلوا مواجهة التنظيمات الإرهابية بعد استفحال فظائعها في الشرق والغرب. لكن أحداً من هؤلاء لن يكون مستعداً لفتح خزائنه وتمويل الإعمار والمساهمة في «تأبيد» بقاء النظام. كما أن السعودية وشريكاتها لن تستكين لنفوذ الجمهورية الإسلامية في المشرق العربي. ولا شك في أن نتائج زيارة الملك سلمان التاريخية موسكو وما أثمرت من اتفاقات وعقود في حقول شتى تنبىء بأن روسيا حريصة على علاقاتها بالعالم العربي، والمملكة خصوصاً لدورها المحوري والريادي في الإقليم كله. وثمة من يرى أنها قد تجد نفسها في نهاية المطاف مرغمة على تغليب خيار العالم العربي على إيران. بل لا بديل من تقليص نفوذ هذه والبحث في مستقبل الرئيس السوري، إذا كان على موسكو أن ترعى تسوية سياسية نهائية تسهّل عليها التفرغ لترسيخ نفوذها ودورها في المشرق العربي.

قسّمت روسيا حتى الآن سورية مناطق نفوذ للاعبين الرئيسيين في هذا البلد. مثلما قسّمتها مناطق بين النظام وخصومه. صحيح أن الرئيس الأسد ضمن بقاءه بعد النجاحات التي تحققت بدعم من حلفائه. ولا معنى للقول إنه استعاد السيطرة على البلاد. فالكرد عملياً يبنون بمساعدة الأميركيين حكمهم الذاتي في إطار فيديرالي. و «مناطق خفض التوتر» الأربع تتمتع باعتراف شبه دولي. أي أن ثمة اعترافاً بالفصائل التي ترعى الهدوء فيها والتي ستقيم إدارتها المدنية الخاصة بكل منطقة. ولعل هذه الخريطة ترجمة ميدانية لما نصّ عليه مشروع الدستور الذي اقترحته الديبلوماسية الروسية العام الماضي، وأثار حفيظة جميع الأطراف السوريين. لكن استعادة بعض ما تضمنه المشروع يؤشر إلى ما يمكن أن تذهب إليه موسكو بعد المرحلة الانتقالية. أدخل المشروع تعديلات جوهرية على الدستور الحالي: يسلب الرئيس جزءاً كبيراً من صلاحياته، لم تعد له سلطة اشتراعية. ويحرمه من حق تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا وحاكم المصرف المركزي. ويجعل ولايته سبع سنوات تجدّد مرة واحدة فقط. ويمنح جمعيات المناطق (الإدارات المحلية) ومجلس الوزراء سلطات واسعة. أي أنه ينص على «لا مركزية السلطات». ويوزع مناصب وزارية على كل الكيانات مع حفظ مواقع للأقليات. ويضع القوات العسكرية تحت رقابة المجتمع ولا يحق لها التدخل في السياسة أو أداء دور في عملية انتقال السلطة… خلاصة القول إن المشروع يشكل قطعاً كبيراً مع الدستور القائم. يغير شكل النظام كلياً.

المرحلة الجديدة بعد إدلب ستفرض على الرئيس بوتين إعادة النظر في حساباته. لن يكون بمقدوره إدارة سياسات متصارعين متخاصمين على سورية وترسيخ مشروعه في سورية. لا بد من صرف أثمان وتقديم تنازلات وسلوك خيارات مؤلمة على طريق التسوية النهائية المعقولة. فهل يقدم ويجازف؟ وهل يملك النظام وحليفه الإيراني قدرة الوقوف بوجه رغبة موسكو إذا اندفعت نحو فرض مسودة «دستورها» الجاهز؟ وهل يلبي هذا بعض طموحات المعارضة والشعب عموماً ويرضي الداعين إلى رحيل الأسد بعد المرحلة الانتقالية وتقليص نفوذ طهران؟

الحياة

 

 

التردد التركي والمراهنة على ‘تدجين’ جبهة النصرة/ سلام السعدي

توالت الأخبار خلال الأسبوع الماضي عن تحضيرات تركيا لخوض معركة عسكرية ضخمة بدعم من سلاح الجوّ الروسي للسيطرة على مدينة إدلب السورية، وطرد تنظيم جبهة النصرة من المدينة المحاذية للحدود التركية. كان ذلك ليشكل تحوّلا تامّا في طبيعة الانخراط التركي الحذر في الحرب السورية. لكن أنقرة قررت مواصلة سياسة التردد والحذر، فوقعت اتفاقا مع جبهة النصرة سمح بدخول قواتها مع بعض فصائل المعارضة السورية إلى المدينة من دون قتال.

هنالك بالطبع مكاسب كبيرة يمكن أن تحققها تركيا في حال توطيد سيطرتها على مدينة إدلب. أهمّها، على الإطلاق، هي مواصلة توسيع نفوذها داخل سوريا بصورة تمنع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من السيطرة التامة على شمال البلاد وفرض أمر واقع، سواء تعلق بإنشاء حكم ذاتي أو دولة مستقلة، سوف يرفع من حرارة القضية الكردية في تركيا.

ثاني الأهداف المركزية تتعلق بتجنيب مدينة إدلب عملا عسكريا، سوف يأتي عاجلا أم آجلا في حال بقيت المدينة تحت سيطرة جبهة النصرة، من قبل طرفين تناصبهما تركيا العداء: النظام السوري أو الأكراد. وليس تدمير المدينة بحد ذاته هو ما يعني تركيا هنا، ولكن التبعات المرتبطة بتدفق نحو مليوني سوري يعيشون في المدينة حاليا إلى تركيا التي تستضيف نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري.

ثالثا، سوف يؤدي القضاء على جبهة النصرة إلى ارتفاع نفوذ وأهمية الفصائل العسكرية السورية ويسهل التوصل إلى اتفاق سياسي.

وأخيرا، سوف يزيد التواجد التركي في مدينة مركزية في شمال سوريا من نفوذ أنقرة في أي حل سياسي، وبالتالي في مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي.

هنالك مكاسب كبيرة إذن تستحق عناء المغامرة وبدا أن تركيا سوف تتخلى عن سياسة التردد والخوف التي طبعت سلوكها خلال سنوات الثورة السورية.

لكنها لم تفعل، إذ فضلت التفاوض مع جبهة النصرة لتدخل القوات التركية تحت حماية الأخيرة إلى مـدينة إدلب. تجنبت تـركيا بذلـك مواجهة مع أقوى تنظيم عسكري في سوريا ولكنها خسرت إمكانية أن تصبح لاعبا أساسيا في الحرب السورية مرة أخرى.

خلال سنوات الحرب، تميز الخطاب السياسي لتركيا باندفاع وعنجهية كما لو أنها غدت اللاعب الأقوى في سوريا والمهمين الأوحد على مستقبلها السياسي والاقتصادي بعد زوال النظام. ولكن السلوك الفعلي لأنقرة تأخر عن هذا الخطاب بصورة تثير السخرية.

أنقرة قررت مواصلة سياسة التردد والحذر، فوقعت اتفاقا مع جبهة النصرة سمح بدخول قواتها مع بعض فصائل المعارضة السورية إلى مدينة إدلب من دون قتال

صحيح أن تركيا واصلت دعم المعارضة السورية المسلحة، ولكن في ظل غياب رؤية استراتيجية واضحة أو حتى نفوذ إيجابي وبنّاء على اللاعبين على الأرض السورية، وهو ما أبقى المعارضة مفتتة ومتنافسة، وأتاح نموّ تنظيمات جهادية عدمية أصبحت القوة المهيمنة منذ العام 2015.

كان التدخل العسكري التركي في مدنية إدلب بعد الإطاحة بجبهة النصرة، يعكس تاريخ التردد التركي في الحرب السورية ويفتح الباب لمرحلة جديدة تحقق إسطنبول من خلالها معظم الأهداف التي تحدثنا عنها. ولكنها قررت مواصلة التردد واختيار الطرق الآمنة وإن كانت لا توصل إلى أي نتيجة مرضية.

تجنبت تركيا مواجهة عسكرية مكلفة وغير مضمونة النتائج من وجهة نظرها مع جبهة النصرة. ولكن الأخيرة سوف تبقى اللاعب الأقوى في مدنية إدلب ومناطق واسعة من شمال سوريا طالما لم تجر مواجهتها عسكريا بصورة تؤدي إلى تفككها وانفضاض آلاف المقاتلين السوريين من حولها.

قد تسمح جبهة النصرة بإدارة مدنية من قبل حكومة مؤقتة مدعومة من تركيا مقابل أن تواصل الاضطلاع بمهام الأمن وتحافظ على قوتها القتالية. وهذا بطبيعة الحال لن يمنع خطر الهجوم المستقبلي على المدينة سواء من النظام وحلفائه، أو من قبل الولايات المتحدة الأميركية والقوات التي تدعمها.

الحقيقة أن موافقة إيران وربما روسيا على العملية العسكرية التركية كانت في جزء رئيسي منها لدفع أنقرة لمواجهة عسكرية مع جبهة النصرة. أما وقد اختارت تركيا أن تنفذ عمليتها بدعم من النصرة بدل قتالها، فهذا قد يغير من موقف إيران وروسيا في قادم الأيام.

باستثناء تجنب صدام عسكري مكلف، لا نعرف بدقة الحسابات التركية الخاصة بتحويل المواجهة مع جبهة النصرة إلى اتفاق.

من الممكن أن أنقرة تراهن على “تدجين” جبهة النصرة وتحويلها من فصيل جهادي إقصائي تابع لتنظيم القاعدة، إلى فصيل سوري يتخلى عن إبادة خصومه ويشـارك في أي عملـية سياسية يفـرزها مسار أستانة الذي ابتكرته كل من روسيا وإيران وتركيا. هي محـاولات تركية قديمة طالما باءت بالفشل خلال سنوات الحرب السورية.

وإذ تنمّ تلك السياسة التركية عن عدم فهم مريع لطبيعة القوى الجهادية الهادفة للهيمنة المطلقة على منطقة ذات خليط إثني وديني وعرقي، لكنها تؤكد أيضا، ولمرة جديدة، طبيعة السياسة التركية في سوريا والمكبلة بالتردد والخوف وانعدام الثقة وغياب الرؤية الاستراتيجية.

تريد تركيا أن تحصد أكبر المكاسب من دون تكبّد عناء المغامرة، كما تكبدتها من قبل روسيا وإيران على سبيل المثال، وهو ما يجعلها تواصل التحالف مع تنظيمات جهادية محكومة بالفناء.

كاتب فلسطيني سوري

العرب

 

 

 

هل ينجح التدخّل التركي الجديد في سوريا؟

رأي القدس

بعد تصريحات كثيرة لمسؤولين أتراك خلال الأسابيع الماضية عن قرب تنفيذ أنقرة لاتفاق مع روسيا وإيران يسمح بدخول قوّاتها العسكرية إلى محافظة إدلب التي تسيطر عليها فصائل عسكرية سورية معارضة (إضافة إلى الوجود الكبير لـ«جبهة فتح الشام» المشهورة باسم «جبهة النصرة») شهدنا أخيرا انطلاق المراحل الأولى مما يعرف بـ«عملية إدلب» وهي عمليّة سيكون لها، بالتأكيد، تأثيرها الكبير على مآل الأحداث الجارية في سوريا منذ عام 2011.

العملية العسكرية التركية سبقتها، كما هو واضح، عمليّة أخرى استخباراتية لا تقلّ أهمّية عنها، وهدفها هو تجنّب معركة دمويّة بين القوات التركية المتقدمة و«جبهة فتح الشام» (والفصائل الأخرى المتحالفة معها)، فهذه المعركة، إلى كونها ستكلّف الجيش التركيّ الكثير من الخسائر في الأرواح والمعدّات، فإنها ستضع تركيّا في موقف صعب بجعلها في مواجهة مع أطراف تقف على طرف نقيض مع النظام السوري، وهو ما سيضعها، في نظر الكثير من السوريين والأتراك، في خندق ضيّق يجمعها ليس مع روسيا وإيران، ضامني الاتفاق، بل كذلك مع النظام الذي كانت تناصبه العداء على مدى سنين طويلة.

المواجهة يمكن أن تؤدّي أيضاً إلى عدد من السيناريوهات المزعجة، فالاتفاق الذي سمح لتركيا بالتحرّك برّيّاً فحسب يعني أن روسيا ستكون الطرف المكلف بتأمين الحماية الجوّية للقوات التركية، وأن روسيا قد تستغل أي اشتباكات مع قوّات مناهضة لحليفها النظام السوري على الأرض ستؤدي لمشاركة روسية ـ تركيّة في القضاء على هذه القوّات، لكن الأسوأ من ذلك هو أن تتحوّل الضربات الجوّية، كما هو معتاد من روسيا، إلى عقاب جماعي للمدنيين في إدلب، وهو ما سيؤذي سمعة أنقرة ويؤلّب الكثيرين عليها، ليس في سوريا فحسب بل كذلك ضمن جماهيرها التركية أيضاً.

الأخبار المتداولة تشير إلى أن أجهزة تركيا السياسية والأمنية نجحت في ضمان اقتراب آمن لقواتها من إدلب لكنّ أخباراً أخرى عن اشتباكات محدودة بينها وبين «جهاديين» تدلّ على أن الطريق ليس سالكاً تماماً وأن دخول الجيش التركي إلى إدلب لن يكون رحلة مأمونة الجانب وسهلة في كل مفترقاتها.

لا تتعلّق الأمور بقدرات أجهزة الأمن التركية في «إقناع» «جبهة فتح الشام» بالخطورة الهائلة للمواجهة مع جيشها، فالجبهة أيضاً تعلم أنها غير قادرة على خوض معركة كبرى مع تركيا، وأن تكاليف ذلك ستكون كارثية عليها وعلى سكان إدلب أيضاً الذين سيصبحون مرشحين لتجربة شبيهة بتجربة تدمير الرقة والموصل وبلداتها وقراها، وهو خيار انتحاريّ لا يتناسب مع بعض معالم الواقعية السياسية التي أبدتها الجبهة في مرات ماضية، كما فعلت حين أعلنت تخلّيها عن العلاقة مع تنظيم «القاعدة»، وحين سعت أكثر من مرة لإعلان تمايزها عن «الدولة الإسلامية» وتبرئها من أي تحالف معها.

الإعلام الرسميّ التركيّ ركّز على دور استراتيجي آخر للعملية يستهدف خلق «حزام أمني» حول عفرين الكرديّة يمنع اتصالها بالحسكة والقامشلي، وهو المخطط الذي اشتغل عليه حزب العمال الكردستاني التركي لسنوات عبر فصيل «الاتحاد الديمقراطي» في سوريا، والذي يسعى لربط المدن والمناطق الثلاث المذكورة تحت إطار ما يسمى «روجافا»، أو دولة كردستان سوريا.

العملية ما تزال في بداياتها، والأطراف السياسية والعسكرية المعنيّة بنجاحها أو فشلها كثيرة، ولذلك فمن المتوقع أن نشهد تمظهر التضارب في الحسابات السياسية والعسكرية على شكل ردود فعل، ليس من «جبهة فتح الشام» فحسب، بل كذلك من الأكراد والنظام السوري وإيران… وروسيا نفسها.

القدس العربي

 

 

 

أستانا وإدلب: تركيا تضرب الأسد بحليفيه «روسيا وإيران» ونظامه تحت الأوامر القسرية/ حسام محمد

يرى مراقبون للشأن السوري أن السياسة الخارجية التركية نجحت مؤخراً في إحراز انتصارات كبيرة على النظام السوري عبر اتفاق أستانا، بعد أن تمكنت من جذب حلفاء الأسد «روسيا وإيران» إلى صفها، لتجبر بشار الأسد عبر حليفيه موسكو- طهران على تطبيق مخرجات الاتفاق دون الإلتفات لموقفه الرسمي سواء أكان راضياً عن مخرجات أو رافضا لها، فدخل الجيش التركي الأراضي السورية من بوابة الدول الأكثر دعما لنظام دمشق، فيما تخوف البعض أن يكون الشمال السوري بداية لكمين ومستنقع قد يستهدف الجيش والداخل التركي، أو إنقلاب في المواقف السياسية الروسية الإيرانية، أو تقاسم للنفوذ بين أبرز الأطراف الدولية الفاعلة في سوريا.

الأطراف الثلاثة «روسيا- إيران وتركيا» الضامنة للمسار السياسي في العاصمة الكازاخية أستانة، أعلنت منتصف شهر أيلول/سبتمبر الماضي عن توصلها إلى اتفاق على إنشاء منطقة «خفض توتر» في إدلب، وفقا لاتفاق موقع في أيار/مايو الماضي.

واتفقت الدول الضامنة على تحديد نطاق المنطقة، وتحديد الجهات التي ستتولى تأمينها، ومراقبة التزام كافة الأطراف بتخفيف التصعيد. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: أن العملية العسكرية في إدلب بدأت تنفيذا لاتفاق أستانا، وأنها تهدف إلى حماية المدنيين وتجنيب المحافظة أي مخاطر. معتبرا أن بلاده ملزمة بالتدخل لمنع تشكل دولة كردية في شمال سوريا، وإلا فستسقط القنابل على المدن التركية.

وفي أول تصريح رسمي للنظام حول انتشار الجيش التركي في سوريا، اعتبر وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم خلال لقاء أجرته معه قناة «روسيا اليوم» أن الوجود التركي على الأراضي السورية هو «وجود غير شرعي». ولكن المعلم أشار في اللقاء ذاته إلى إن خيار المواجهة مع تركيا معدوم، إذ قال: حكومة دمشق «تنسق مع الجانب الروسي وملتزمة بما صدر عن مؤتمر أستانا بشأن إدلب».

هزيمة مزودجة للأسد

الناشط السياسي السوري المعارض ياسر منصور اعتبر أن النظام السوري خسر معركتين في آن واحد، الهزيمة الأولى كانت على يد حليفيه الرئيسين «موسكو وإيران» اللذين أجبراه على الانصياع لاتفاق أستانا رغم رغبته الكبيرة بعدم القبول بتركيا كطرف ضامن، أما هزيمته الثانية فكانت على يد تركيا، التي نجحت في إملاء شروطها وقرارها على الأسد دون أن تحاوره أو تنظر لموقفه.

وقال لـ «القدس العربي»: منذ حشد تركيا لوحداتها العسكرية على الحدود مع سوريا، ودخول فريق الاستطلاع وصولاً إلى نشر قوات لها في الشمال السوري، اتخذ النظام السوري حالة الصمت المطبق حيال ما يجري وغابت مواقفه الرسمية بشكل كبير، ما يعكس مدى حالة الانزعاج التي تنتاب أركان نظام الأسد من فرض تركيا لشروطها، ونجاحها في كسب روسيا وإيران وحشر الأسد ضمن سياق حجمه الطبيعي.

إعلام الأسد غائب

ورغم التطورات المتسارعة في الشمال السوري، وبدء انتشار الجيش التركي في الأراضي السورية، واستمرار الحشود التركية إلى الحدود السورية، إلا أن الإعلام الرسمي للنظام، تجنب الخوض في غمار ما يجري، لتقتصر تغطيته، على نشر بعض الأخبار عبر صفحات التواصل الاجتماعي.

كما لوحظ غياب أي تهجم من قبل الإعلام الموالي للنظام السوري على الجيش التركي، خلافاً لما كان سائداً منذ أعوام، ما يرى فيه بعض الناشطين السوريين المعارضين لنظام الأسد، مرآة تعكس موقف النظام المرتبك أمام عجزه أو فشله عن إقناع موسكو وطهران في إبقاء أنقرة خارج الملف السوري، ورضوخه للتعليمات الصادرة عن قاعدة حميميم الروسية، وما اتفقت عليه الأطراف الرسمية الفاعلة في اتفاقيات أستانا.

الجيش التركي كشف عورة الأسد سياساً

رئيس دائرة مدينة «أريحا» في الهيئة السياسية لمحافظة إدلب عبد العزيز عجيني، قال لـ «القدس العربي»: دخول القوات التركية إلى الشمال السوري أظهرت عورة نظام الأسد سياسيا، وانتشار الجيش التركي يعكس مدى عجز النظام ليس في مواجهة خصومه فحسب، بل عجزه عن مواجهة حلفائه أيضاً. فالروس والإيرانيون كانوا مضطرين لعقد صفقة مع تركيا رغما عن الأسد، وطالما كانت أنقرة ظهيرا قويا للثورة في المجالات السياسية والإغاثية والاقتصادية، فقد جاء التدخل الآن ليتوج سنوات طويلة من التردد التركي في الدخول في المستنقع السوري.

يرى عجيني أن نظام الأسد ميت سياسيا، ولم يعد أكثر من ميليشيا تقاتل بأوامر الحلفاء وتتوقف بأوامرهم، ولقد أدرك الأتراك أخيرا أن لا مستقبل لهم في المنطقة إذا ما بقوا بعيدين عن القضية السورية، التي أصبحت حلبة دولية يتقرر فيها وزن الدول استراتيجيا.

التدخل العسكري التركي أنهى مرحلة من مراحل الثورة السورية، وبدأت معه مرحلة جديدة لم يعد فيها لنظام الأسد حتى حق المشورة فيها، بعد أن دأب على القول أنه سيستعيد كل ما خسره من أرض، لكنه ينكفئ اليوم سياسيا ويصبح مجرد أداة بيد حلفائه، ولقد انكشفت عورة النظام في عيون أتباعه الذين دأب على تخديرهم طيلة سنوات بعد دحره من الشمال السوري.

وانتهت مرحلة الأسد في شمال سوريا، والتدخل التركي يعني أن النظام فقد أوراقا كثيرة كالورقة الكردية وورقة مكافحة الإرهاب التي عاش عليها طيلة سنوات الثورة، وفق ما قاله عجيني.

حميميم: وجود القوات التركية شرعي

وذكرت القاعدة العسكرية الأكبر لروسيا في سوريا «حميميم» عبر معرفاتها الرسمية، أن دخول القوات التركية إلى مناطق في محافظة إدلب يندرج ضمن اتفاق تفعيل منطقة خفض التوتر الرابعة.

فيما اعتقدت القاعدة، أن القوات الروسية قد تتعرض لهجمات بشكل فردي أو على شكل جماعات من قبل جبهة النصرة في الشمال السوري، والتي قد تتطور لتتحول إلى صراع بين الجانبين.

الأسد في متاهة

يوم الخميس، 12 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، دخلت أولى الآليات والعربات العسكرية التركية إلى الأراضي السورية قاصدة ريف حلب الغربي وفقاً لمخرجات اتفاق أستانا، علماً أن النظام السوري وعبر رئيسه بشار الأسد، كان صرح قبل شهرين فقط أنه لا يعتبر تركيا طرفاً ضامناً في عملية السلام في سوريا ولا شريكاً، إلا إن دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية أدخل الأسد في تيه، فهو يعتبر تواجد القوات التركية احتلالاً، وفي الوقت ذاته ينصاع لروسيا وإيران ويقبل بتواجدهم العسكري.

وقال بشار الأسد في 20 آب/أغسطس الماضي: «تركيا بالنسبة لنا موجودة على الورق، ولا نعتبرها ضامناً ولا شريكاً في عملية السلام، وطبعاً لا نثق بها، هي داعم للإرهابيين، ضامن ولكن للإرهابيين، وحقيقة دخول تركيا في مؤتمر أستانة سببه أنه لم تعد هناك خيارات أمام أردوغان. الإرهابيون يتساقطون في كل مكان، هزائم متتالية، فضائح متتالية حول علاقته مع الإرهابيين، فأصبح الدخول إلى أستانة هو غطاء بشكل أو بآخر».

وتابع الأسد في كلمة له خلال افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين «موقفنا واضح منذ اللحظة الأولى، وهو أن أي شخص تركي موجود على الأرض السورية من دون موافقة الحكومة السورية هو عبارة عن محتل».

توافق تركي روسي

مراسل الشأن السوري في وكالة الأناضول التركية محمد مستو قال لـ «القدس العربي»: دخول الجيش التركي إلى سوريا، جاء نتيجة لمفاوضات روسية تركية، وأن الأسد لا مكان له من الإعراب، والنظام السوري ليس أمامه من خيارات سوى إطاعة الأوامر الروسية.

ويعتقد وهو أن نظام الأسد لا رغبة لديه بدخول القوات التركية إلى سوريا، ولكن روسيا هي صاحبة الموقف الفعلي في هذا الشأن، وبالتالي الأسد يستجيب للأوامر الروسية كون الأخيرة هي صاحبة القرار في سوريا وليس النظام.

ورأى أن انتقاد التدخل العسكري التركي في سوريا وفق مخرجات أستانا من قبل وزير خارجية الأسد وليد المعلم ليس إلا رسالة موجهة من النظام لحاضنته الشعبية، رغبة منه بإبلاغهم أنهم من حيث المبدأ لا يقبلون دخول تركيا للأراضي السورية، وأن هذا «التدخل هو حالة مؤقتة وستزول».

ومن المقرر أن تنتشر عناصر من الجيش التركي ضمن حدود منطقة «خفض التوتر» المحددة في إدلب (بموجب الاتفاق) ومهمتهم الأساسية تحقيق استدامة لوقف إطلاق النار بين مختلف الأطراف، ولهذا الغرض، ستشكل وحدات الجيش عدة نقاط تفتيش ومراقبة في المدينة.

وتشير المصادر العسكرية والدبلوماسية إلى أن تحركات عناصر الجيش التركي لن تكون على شاكلة «عملية عسكرية» بل «انتشار» كما أن خوض اشتباكات مع النظام السوري أو عناصر محلية خلال الانتشار أو في أعقابه أمر غير مستهدف.

الشارع السوري بين مؤيد ومعارض

وأحدث الانتشار العسكري التركي في الشمال السوري، حالة من الانقسام في الشارع السوري، بين مؤيد للخيار التركي، ومعارض له، فالمؤيدون يرون أن تركيا تريد تجنيب إدلب مصيرا مشابها للرقة السورية والموصل العراقية، وأنها تسعى لإنقاذها من فك الأسد ومنشار التحالف الدولي.

أما المعارضون، فهم بنسبة جيدة ليسوا معارضين لتركيا كدولة، وإنما منزعجون من التوافق والتقارب التركي مع روسيا وإيران، إذ يعتبرونهما أحد أبرز أطراف الصراع لصالح بشار الأسد ضد الشعب السوري الثائر ومسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين.

في حين تتواجد نسبة أخرى ترفض دخول تركيا إلى الأراضي السورية، ويعتبرون ذلك تقاسما لجغرافيا البلاد بين اللاعبين الأساسيين في الملف السوري.

القدس العربي

 

 

 

العملية التركية في إدلب وتراجع منظور العلاقات مع واشنطن/ إبراهيم درويش

في مقابلة مع الزميل الباحث في مجلس العلاقات الخارجية ستيفن كوك حول كتابه الأخير «الفجر الكاذب: الاحتجاج، الديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد» براديو «كي كيو إي دي» الأمريكي (10/10/2017) سأله المذيع مايكل كرانسي عن هدف العملية التركية الجديدة في شمال غرب سوريا، فأجاب كوك إن دخول القوات التركية هي جزء من اتفاقيات أستانة التي تشرف عليها روسيا وإيران وتركيا فيما تعرف بمناطق خفض النزاع. وقال إن وجود القوات التركية جاء من أجل الإشراف على تطبيقه، مضيفا أن محافظة إدلب تسيطر عليها جماعات جهادية على رأسها هيئة تحرير الشام/ النصرة سابقا والمرتبطة بتنظيم القاعدة. وأضاف أن الحكومة التركية التي تغيرت أولويات سياساتها الخارجية خاصة في سوريا تريد تهيئة الأجواء لعودة المحافظة للحكومة «المركزية» في دمشق خاصة أن ما يشغل بال الأتراك هو الوجود الكردي على حدودها. وقال إن هذا التطور جاء نتاجا للتعاون الأمريكي- الكردي الذي دفع تركيا للتعاون مع إيران وروسيا من أجل حماية مصالحها وحدودها. وليست هذه المرة الأولى التي تدخل فيها القوات التركية سوريا ففي آب (اغسطس) 2016 دخل الجيش التركي ودعم جماعات معارضة موالية في «عملية درع الفرات» وأقام منطقة حدودية آمنة شملت جرابلس والباب والراعي ودابق وكان الهدف منه هو منع قوات حماية الشعب الكردي، الفرع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي من التقدم إلى غربي نهر الفرات وربط مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية ببقية الجيوب الكردية كوباني والقامشلي. وتنظر تركيا إلى الحزب الطامح لإقامة حكم ذاتي مستقل كجزء لا يتجزأ من حزب العمال الكردستاني (بي كا كا). وفشلت أنقرة في إقناع واشنطن بعدم تبني هذه القوات في المعركة لطرد مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» من الرقة إلا أنها فشلت وأرسلت مستشارين عسكريين ومعدات عسكرية وأقامت قواعد عسكرية في المنطقة. وأظهرت أمريكا أنها مع الأكراد في النزاع على مدينة منبج حيث ارتفع العلم الأمريكي جنبا إلى جنب مع علم الحزب.

هدف الانتشار

ومن هنا يفهم في السياق التوتر الأخير في العلاقات خاصة أن تركيا العضو في حلف الناتو شعرت أن حلفاءها المفترض أن يدعموها بحسب ميثاق الحلف فضلوا عليها جماعة إرهابية في محاولاتهم لهزيمة التنظيم الجهادي. لكل هذا فالانتشار الجديد في إدلب هو استمرار لمحاولات تركيا احتواء الخطر الكردي وإن جاء هذه المرة باسم منطقة خفض التوتر بإدلب. وتقتضي العملية انتشارا في المنطقة الممتدة بين إدلب وعفرين في محافظة حلب. وكانت القوات التركية التي عبرت الحدود مع سوريا من مدينة ريحانلي، ولاية هاتاي جنوبي تركيا بدأت الانتشار منذ الخميس قرب مدينة عفرين التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني. ويأمل هذا الحزب بالسيطرة على أجزاء من إدلب لتأمين ممر يربط الحدود العراقية مع البحر المتوسط. ومن هنا تهدف العملية التركية إلى إنشاء جدار ضده وإقامة 10 نقاط في داخل إدلب فيما تنشئ القوات الروسية مواقع خارجها باعتبارها ضامنة لمنطقة خفض التوتر.

تطورات

وتتزامن العملية مع التطورات الأخيرة من ناحية الاستفتاء في كردستان العراق وتداعياته على تركيا والتوتر المستمر في العلاقات التركية – الأمريكية والتي وصلت لوقف منح التأشيرات ومطالب بإنهاء عمل السفير الأمريكي جون باس في أنقرة. وتعبر الأزمة الحالية كما يرى سميح إديز في «المونيتور» (11/10/2017) عن تضارب في المصالح بين الدولتين العضوين في حلف الناتو. فقد شهدت العلاقات بينها وعلى مدار نصف قرن توترا وأزمات تتعلق باعتبارات المصالح واعتماد الطرفين على بعضهما البعض إلا أن هذا لم يعد قائما حيث لم تعد الأولويات الإقليمية لكل من رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتلاقى. والساحة السورية هي أقرب مثال عن هذا التضارب. فقد دخلت واشنطن في تحالف مع حزب كردي مرتبط بجماعة مصنفة لديها كإرهابية بشكل أغضب الأتراك. وكانت المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز (يوليو) 2016 التي تقول أنقرة إن رجل الدين التركي المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية مسؤول عنها نقطة تحول في العلاقات. فرفض واشنطن ترحيله بسبب ما تقول إنها أدلة غير كافية وتعاونها في الوقت نفسه مع قوات حماية الشعب أقنع أردوغان وأركان حكومته بأن الولايات المتحدة تعمل على زعزعة استقرار بلادهم. وعبرت أنقرة عن غضبها عن دعم الولايات المتحدة من تطلق عليهم أعضاء منظمة فتح الله غولن الإرهابية. لكل هذا بدأ أنصار أردوغان وحزب العدالة ينظرون إلى أمريكا كتهديد وجودي. وبدا هذا واضحا في ما كتبه إبراهيم كرغول، محرر الصحيفة المرتبطة بالحكومة «يني شفق» حيث اعتبر التطورات الأخيرة واعتقال الحكومة عددا من العاملين في السفارة الأمريكية والتي كانت وراء الأزمة الجديدة جزء من الحرب غير المعلنة التي تقوم بها الولايات المتحدة ضد تركيا. واتهم كرغول السفير باس بالضلوع في المؤامرة الانقلابية الفاشلة العام الماضي. وزادت تعليقات أردوغان الغاضبة ضد السفير باس من شدة الموقف العام منه بحيث صار هناك من يؤمن بأنه فعلا متورط بالمحاولة الانقلابية. وجاءت تعليقات الرئيس التركي بعد أسابيع من لقائه مع ترامب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي وصف فيها ترامب العلاقة بالوثيقة جدا. ويعلق دبلوماسي غربي في أنقرة أن محاولة أردوغان تحميل باس مسؤولية توتر العلاقات من أجل التقرب للرئيس ترامب «أنا صديقك فأظهر صداقتك». وعلى ما يبدو لن يفعل ترامب خاصة أن المتحدثة باسم الخارجية هيذر نوريت أكدت أن قرار تعليق منح التأشيرات اتخذ بشكل مشترك بين الخارجية ومجلس الأمن القومي ووقفت إلى جانب باس الذي سيغادر أنقرة لتسلم منصبه الجديد في كابول. ولن تعين واشنطن بديلا عنه على المدى القريب مما يعني تخفيضا في التمثيل الدبلوماسي.

نهاية

ويرى المحللون أن الأزمة غير مسبوقة وتساءلوا عن مصير «الشراكة الاستراتيجية». وفي مقال كتبه فيليب غوردون، المساعد السابق لوزير الخارجية فيليب غوردون قال فيه إن العلاقة بين البلدين أصبحت عصية على الإصلاح. وكتب في صحيفة «فايننشال تايمز» (10/10/2017) إن كلا البلدين يواجه منظور نهاية علاقة واعدة وأنهما «اكتشفا وبشكل رئيسي أن مصالحهما الأمنية تباعدت». ويرى محللون أتراك أنه طالما ظل فتح الله غولن في أمريكا فستظل العلاقات متوترة. ومن هنا تساءلت مجلة «بوليتكو» (9/10/2017) إن كانت المحاكمات التي تجريها أنقرة لصحافيين ومعارضين غير أتراك أو من حملة الجنسية المزدوجة محاولة للمقايضة أو كما أطلقت «رهائن» للمبادلة مع غولن أو جنرالات أتراك طلبوا اللجوء في الدول الأوروبية. وجاءت كلمة «رهينة» من الطريقة التي تعامل فيها الإعلام الألماني والساسة هناك مع المحاكمات.

عدو

ومن هنا فتضارب المصالح وتوقعات كل طرف من الآخر بالإضافة للخطاب الحاد تؤثر على مسار العلاقات أو العلاقة الاستراتيجية بين البلدين. ففريدا غيتس اتهمت أنقرة في مقال رأي بصحيفة «واشنطن بوست» (12/10/2017) بأنها باتت تتصرف كعدو للولايات المتحدة. وقالت إن واشنطن – أنقرة في أزمة بدأت تؤثر على حلف الناتو الذي تعتبر تركيا أحد أعضائه. وقالت إن أردوغان الذي أصبح أكثر ميلا للديكتاتورية لا يهاجم الولايات المتحدة فقط بل والتحالف الغربي في الوقت الذي يقترب من أعدائه ويقوم بتفكيك الديمقراطية التركية. وتقول إن حلف الناتو قد يتسامح مع تحولات أردوغان طالما حافظ على الشراكة الدبلوماسية والمبادئ التي يقوم عليها الناتو لا التحالف مع أطراف يعدون أعداء له مثل إيران وروسيا. واتهمت تركيا بالتحول نحو الديكتاتورية بعد الانقلاب الفاشل حيث تخلى أردوغان عن حلمه بالديمقراطية الذي بشر به عندما صعد للحكم وملأ السجون بالمعتقلين واختفى الإعلام الحر وتبنى خطابا معاديا للغرب لتعزيز موقفه بين ناخبيه. وتمضي الكاتبة في هجومها باتهام أردوغان بدعم حماس والإخوان المسلمين والجماعات المتشددة في سوريا «وفي الوقت الذي يقف الغرب مع الأكراد في سوريا تعتبرهم تركيا عدوا». وقدم ستيفن كوك الذي بدأنا بما قاله عن الحملة التركية في سوريا مقالا بمجلة «فورين بوليسي» (12/10/2017» تحليلا قال فيه إن الوقت قد حان للاعتراف أن تركيا لا تشترك مع أمريكا لا بالمصالح أو القيم ولن تعود العلاقات كما كانت أيام الحرب الباردة. وأشار إلى اعتقال متين توبوز العامل بالسفارة الأمريكية بتهمة الانتماء لمنظمة فتح الله غولن. ويعتبر اعتقاله جزءً من سلسلة من الأحداث التي وضعت العلاقة بين البلدين على المحك «فمن الواضح اليوم أن تركيا والولايات المتحدة حلفاء وشركاء أقل وأعداء ومتنافسين أكثر خاصة في الشرق الأوسط». ولكن ليس من العدل لوم أردوغان على انهيار العلاقات فهي مرشحة للتوتر منذ تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991. ويقول إن هناك أسبابا وراء هذا هي العداء للغرب وعدم التوافق في القيم والأفكار بين البلدين وحقيقة تغير العالم منذ التحالف الأمريكي – التركي قبل نصف قرن. وكانت العلاقة ستتدهور على أي حال إن كان حزب العدالة في الحكم أم غيره. بل ستزيد سوءا لو كان حزب الشعب الجمهوري في الحكم مثلا نظرا لموقفه من سوريا ومعاداته للأكراد. ويؤكد الكاتب أن المشكلة هي أن افتراضات السياسة الأمريكية لم تتغير عن تركيا وظلت مرتبطة بالتعاون في الحرب الباردة ولم تكتشف خطأ أفكارها سواء فيما يتعلق بالمصالح أو القيم. وقال إن العالم تغير بدرجة أن تركيا – عضو الناتو- باتت تتعاون في سوريا مع روسيا التي يعمل قادتها على إضعاف الغرب. وفي الوقت نفسه باتت أمريكا تتعاون مع جماعة كردية تعتقد أنقرة، وهي مصيبة في موقفها، إرهابية تشن حربا عليها منذ عام 1984. وانخفض مستوى الشراكة الاستراتيجية بين البلدين إلى السماح للطائرات الأمريكية استخدام قاعدة إنجرليك الجوية التي تهدد انقرة بين فترة وأخرى بمنع الطيران الأمريكي التحليق منها. والحقيقة لم تعد تتعلق بأردوغان وعالمه ولا تراجع باراك أوباما من المنطقة بل عن الطريقة التي تشكل فيها النظام الدولي في ربع القرن الأخير بعد نهاية الحرب الباردة.

 

 

 

«حزب الله» قلق من تركيا في سوريا.. «والمسألة الكردية» قاسم مشترك/ رلى موفّق

لا شك أن العلاقة التركية – الإيرانية تلعب دوراً جوهرياً في تحديد نظرة «حزب الله» إلى تركيا وتشكل عاملاً مؤثراً بقوة في رسم المعالم والحدود والكيفية لتلك النظرة، فكيف يمكن قراءتها، ولاسيما أن تركيا تشكل أحد اللاعبين الإقليميين على المسرح السوري وواحدة من الرعاة الثلاثة في «أستانا»، حيث تتجه الأنظار اليوم إلى الدور الموكل لها في إدلب التي جرى ضمها إلى «مناطق خفض التوتر»!

يدرك «حزب الله» أن ثمة منظومة مصالح معقّدة بين طهران وأنقرة ترتبط بالخصوصية التاريخية بين إيران وتركيا وبين الفرس والعثمانيين، وأن كليهما حريصان على عدم العودة إلى زمن الحروب التي استمرت عقودا. هذا الجانب من العلاقة يفهمه الحزب ويتفهّمه بشكل عميق لكنه لا يرى نفسه مُلزَماً به، ما يعطي له هامشاً معنياً.

ففي قراءة أحد المحللين الذين يعكسون سياسة «حزب الله»، نرى أن موقف الحزب حيال دور تركيا في سوريا هو أقرب إلى رؤية رئيس النظام بشار الأسد منه إلى رؤية إيران. فالحزب مقتنع بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «لم يُغيّر من أصل مقاربته السورية، وأنه لا يزال مسكونا بنظرته الأساسية التي عبّر عنها مع بداية الأزمة، والتي تنطلق من طموح «وريث العثمانية التاريخية» بأن يفتح دمشق وأن يصلي في المسجد الأموي». كما أنه مقتنع بأن التغيير الحقيقي في موقف تركيا من سوريا هو تغيير فرضته المتغيرات وليس القناعات. وهذا ما يدفع «حزب الله» إلى الحذر، لكنه يتعامل مع المسألة إنطلاقاً من تفكيره «البراغماتي» الذي يسعى إلى تجاوز المواقف المرتبطة بما هو ماض لمصلحة البناء على تحصيل النتائج راهناً، ما يعني أنه كلما انعطف الموقف التركي بشكل جدي في الأزمة السورية نحو تثبيت موقع نظام الأسد، كان موقفه أكثر ترحيباً.

«حزب الله» يرى أن تركيا اليوم مهجوسة بعنوان واحد اسمه «أكراد سوريا»، والذي يتحكم بكل حيثيات موقفها من سوريا ومن نظام الأسد. ما يبني عليه الحزب هو المعطى المادي المتمثل بالنتيجة على الأرض وليس مدى تبدّل القناعات لدى أردوغان الذي ذات يوم وصفه «سيد الحزب» حسن نصرالله بـ «الطيب» طيب أردوغان، وهو ما كان حينها يشكل انعكاساً لقناعة «حزب الله» وأمينه العام شخصياً في مرحلة الاشتباك التركي – الإسرائيلي على خلفية حصارغزة وتعرّض «سفينة مرمرة» التركية عام 2010 إلى هجوم أسرائيلي، قبل أن تنقلب النظرة رأساً على عقب.

ثمة عنصر أساسي دخل إلى المعادلة اليوم، وهو عنصر الشراكة التي تُجسده اتفاقات «أستانا»، والتي خلقت وقائع حاسمة وساهمت جدياً في قلب موازين القوى في الداخل السوري. ما يهم الحزب هو كيفية ترجمة تلك التحولات على أرض الواقع، كاعتباره أنه لولا التوصل إلى «مناطق خفض التوتر» لما كان في إمكان النظام وحلفائه من تجيير قوات عسكرية ضخمة والاستغاء عنها إلى جبهات أخرى ما أمّن السيطرة على 75 الف كلم مربع من البادية السورية.

لكنه ورغم شراكة «أستانا» وما حققته من تحولات كبرى في موازين القوى في سوريا، فإن «حزب الله» يعتبر أن العناصر الأساسية التي التزمت بها أنقرة في شأن إدلب مازالت حبراً على ورق، وفي مقدمها موقفها من «هيئة تحرير الشام»- «جبهة النصرة» سابقاً. وبالتالي، فإن الدخول في مرحلة التنفيد وحده كفيل بأن يثبت مدى جدية أردوغان. من وجهة نظرهم فإن الأتراك مازالوا يناورون هنا ويدورون الزوايا هناك في العلاقة مع «النصرة».

على أن ثمة أمراً أخر يٌقلق «حزب الله» يتعلق بمسألة الضمانات الآيلة مستقبلاً إلى خروج الأتراك من المناطق السورية التي دخلوها بالأمس والمتثملة بمناطق جرابلس والباب ضمن عملية «درع الفرات» والتي سيدخلونها اليوم تحقيقاً لضم إدلب إلى «مناطق خفض التوتر». هم يتشاطرون القلق مع الأسد، وتعتريهم الريبة رغم الضمانات التي يُحكى عنها حول الانسحاب لاحقاً. بالطبع لا يعتبر «حزب الله» أن وجوده في سوريا كميليشيا وكذراع إيرانية يمكن مقارنته بوجود القوات التركية، فهو دخل إلى سوريا بطلب من السلطة الشرعية السورية، وهذا يعطيه شرعية قانوناً بينما الوجود التركي يندرج في خانة قوات احتلال نتيجة فقدانها لمظلة الشرعية، والذي يحرص الأسد على ربط هذا الوجود باتفاق تركي- روسي لا علاقة لدمشق به، وأن العلاقة السورية مع الأتراك تمر عبر روسيا. هو موقف يريد منه الأسد أن يبقي فيه على هامش له في كيفية التعامل مع القوات التركية في المستقبل.

ما هو أكيد أن روسيا هي الراعي والناظم للعلاقة بين الأطراف المتواجدة على الأرض في سوريا. غير أن مصادرعليمة تؤكد أنه فتحت للمرة الأولى قنوات أمنية تركية – سورية، وأن أحد نتاجها هو إطلاق سراح الطيار السوري الذي كان أسيراً لدى سلطات أنقرة بعدما سقطت منذ فترة طائرته فوق أراضي تركيا.

لا تنسيق بالمطلق بين «حزب الله» وتركيا في سوريا، وإن كانت طهران تُدير قنوات مباشرة موازية لقنوات موسكو وتلعب دور «العراب» للعلاقات بين الجماعات المحسوبة عليها وبين تركيا.

ما يسعى أحد اللصيقين بـ»حزب الله» إلى تأكيده بصورة فيها كثير من الجزم والحزم هو أن الحزب غير متحمس على مد الجسور مع تركيا، ولا يريد ذلك عملياً، إنطلاقاً من التصاقه الوثيق بالأسد، إذ يرغب أن يمشي على وتيرة خطوات «الحليف السوري كتفاً إلى كتف» لا وتيرة خطوات «الأبوة الإيرانية» التي تحمل قدراً من المناورة في طياتها في العلاقة مع « العثمانية الجديدة» لا يجد أنه معني بها على الأقل في الوقت الراهن، وإن كان يعتقد أن المسألة الكردية هي القاسم المشترك بينهما!

 

 

إدلب طريق إيران إلى النجاة من تداعيات انفصال كردستان/ نجاح محمد علي

ما يشغل طهران هذه الأيام إقليمياً وحتى دولياً، ليس – كما تقول واشنطن – الجدل حول تطوير ترسانتها الصاروخية بما ينقض «روح الاتفاق النووي» وبالتالي فرض عقوبات جديدة على الحرس الثوري، لأنها كانت قررت سابقاً منذ الحرب العراقية الإيرانية وما سمي آنذاك «حرب المدن»، أن مسألة إنتاج صواريخ باليستية بالنسبة لها، مسألة حياة أو موت، وأن بقاء نظام الجمهورية الإسلامية، واستقراره، مرتبطان بشكل أساسي بتعزيز قدراتها الصاروخية للردع فقط،  و»منع ظهور صدام حسين آخر يهدد بضرب المدن الإيرانية متى ما يشاء لابتزاز الجمهورية الإسلامية» على حد تعبير وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف وهو يرد على صحافي ياباني سأله عن مخاوف دول مثل اليابان في الاستثمار في إيران بسبب إصرارها على إنتاج الصواريخ الباليستية.

فطهران التي تورطت حتى العظم في الملف السوري منذ بداياته في آذار/مارس 2011 ثقفت جمهورها على أن الانتصار في سوريا على المنافسين الإقليميين، ورقة أساسية في فرض نفسها كدولة تشارك في حل أزمات المنطقة.

وفي هذا الواقع تنظر طهران إلى أهمية كسب دول إقليمية فاعلة ومؤثرة في الملف السوري لصالح هذه الرؤية، وبدأت ذلك مع أنقرة.

إنقلاب

كان شيئاً هاماً جداً لإيران أن يحدث ما تسميه صحافتها القريبة من صناع القرار بـ»إنقلاب» الرؤية التركية من القضية السورية بعد موقفها الداعم حتى النخاع للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء محاولة «الانقلاب» عليه في تموز/يوليو 2016، ما جعل أردوغان ينخرط في المحادثات التي أوصلت إلى إتفاق أستانة لإيجاد وقف إطلاق شامل للنار في سوريا، وضبط الجماعات المسلحة في هذا الاتجاه.

وبعد إندلاع ما يسمى»الأزمة القطرية» وبروز توافق كبير بين طهران وأنقرة منها، زادت مساحات التفاهم الإيراني التركي ووصلت إلى الذروة بعد «الاستفتاء» الذي أصر عليه في 25 أيلول/سبتمبر المنصرم زعيم الحزب الديمقراطي الكرستاني العراقي مسعود بارزاني، ما جعل الفجوات التي كانت تبرز بين الإيرانيين والأتراك في أستانة، تضيق بسرعة، خصوصاً بعد أن توج البلدان إتصالاتهما حول كردستان العراق عندما زار الرئيس التركي أردوغان طهران وسبقه بيومين رئيس أركانه ورئيس الوزراء قبل إنطلاق عمليات الجيش التركي في إدلب السورية.

وبدا واضحاً منذ إنطلاق إجتماعات أستانة في العاصمة الكازاخية أن ما يشغل الإيرانيين الذين كانوا يتولون مهمة التنسيق العسكري للدول الثلاث إيران وسوريا وروسيا في سوريا، هو إيجاد منطقة آمنة في إدلب السورية، إذ نوقشت هذه النقطة بالتفصيل في الجولة السادسة من «أستانة» برعاية روسية، إيرانية وتركية، ثم صودق عليها في الاجتماع الأخير الشهر الماضي.

وكانت موسكو حريصة على التنسيق مع طهران قبل الذهاب إلى العاصمة الكازاخية، فقد قام ألكسندر لافرنتيف المبعوث الخاص للرئيس الروسي لاجتماعات أستانة، بزيارة رسمية للعاصمة الإيرانية الشهر الماضي، والتقى بسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني الذي يتولى أيضاً مهمة التنسيق العسكري للدول الثلاث إيران وسوريا وروسيا، كما التقى نائب وزير الخارجية الإيرانية المسؤول عن شؤون العالم العربي وأفريقيا جابري أنصاري، إذ شددت طهران على «ضرورة إحترام جميع الدول وأطرف النزاع في سوريا للسيادة الوطنية السورية ووحدة أراضيها»، وهذه إشارة إيرانية لافتة لما يشغل بال أنقرة أيضاً وهي القلقة من تعاون واشنطن مع قوات المعارضة الكردية!

مصير إدلب

وبعد المبعوث الروسي زار الرئيس التركي ورئيس أركان جيشه طهران ونوقشت هناك بتفصيل أدق نتائج زيارة رئيس الأركان الإيراني والتي كرست لمنع إنفصال كردستان العراق، وبات من المؤكد القول هنا إن الصفقة الإيرانية التركية بشأن إدلب لها صلة مباشرة بالقلق الإيراني التركي المشترك من تداعيات «الاستفتاء» في كردستان العراق الذي ألقى بظلاله بقوة على التطورات الميدانية الجديدة في سوريا، بعد أن تلقى تنظيم «الدولة الإسلامية» هزيمة كبيرة في معقله في الرقة، وسيطر الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة على أجزاء كبيرة من المحافظة، فيما يمضي جيش النظام السوري قدماً نحو السيطرة على الأجزاء الشرقية من البلاد للقضاء على التنظيم بشكل نهائي في هذه المحافظة.

وحسب إعلان وزارة الدفاع الروسية، فقد تم تحرير أكثر من 91 في المئة من الأراضي السورية وتطهيرها من «التنظيمات الإرهابية». كما أن أمين عام حزب الله حسن نصرالله، ذكر أن التنظيم متواجد فقط في أجزاء من دير الزور والميادين والبوكمال. ورغم هذا كله فإن المناطق التي قد تتجه إليها الأنظار مستقبلا وقد تكون من بين النقاط الساخنة عسكريا هي التي تقع في الشمال الغربي من سوريا وتحديداً في محافظتي حلب وإدلب، وهي المناطق التي شهدت خلال الشهرين الماضيين تحولات سياسية وميدانية عدة، من أبرزها الإتفاق بين إيران وروسيا وتركيا في اجتماع أستانة الأخير والذي يهدف لإيجاد منطقة آمنة رابعة في إدلب الذي أطلق يد الحكومة التركية في أن تبدأ عملياتها العسكرية، وتتوغل داخل الأراضي السورية في عملية «الفرات» الثانية.

وتدرك طهران ومعها الحليفان السوري والروسي أن نحو 67 في المئة من التنظيمات المسلحة في سوريا بإستثناء تنظيم «الدولة» تتواجد حاليا في هذه المنطقة، ومن هنا فإن الهدف الأول الذي تفكر به طهران من هذه العمليات التي بدأتها تركيا في إدلب، هو سد الطريق أمام الولايات المتحدة وتفويت الفرصة عليها للتدخل العسكري بحجة مواجهة «جبهة النصرة»، وستكون الرقة هدفها التالي لمنع تشكيل جبهة موحدة تساند الأكراد الإنفصاليين شمالي سوريا، وذلك بمحاصرة عفرين.

ومن الطبيعي في هذه الحال، فإن تواجد القوات التركية في كل من إدلب، ومنطقة عفرين سيحد من انتشار القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة ومنظمة PKK . ويعتقد الإيرانيون أن مثل هذه العملية ربما ستجعل المواجهة قريبة بين القوات التركية والأكراد بما يدخل أنقرة من دون شك في صراع سياسي مع واشنطن، يمكن أن تستثمره طهران لصالح التعاون أكثر للتصدي لتداعيات استفتاء كردستان العراق.

وفي وضع كهذا، قد تسعى الولايات المتحدة للحد من المواجهة العسكرية في الميدان بين الأكراد والقوات التركية. وقد تكون الضغوط التي تمارسها واشنطن على أنقرة إحدى الأسباب التي تدفع أمريكا لإبقاء القوات الكردية بعيدا عن أي اشتباك مسلح مع الأتراك.

لكن هناك تحديا آخر يزعج بال الإيرانيين يتمثل في أن التحركات التركية في شمال سوريا ربما تؤدي إلى صب الزيت على النار وإطالة أمد الحرب الأهلية السورية. الأمر الذي لا يخدم مساعي طهران وموسكو في إنهاء الحرب في سوريا وخروجهما منتصرين من المستنقع السوري. يضاف له أن لروسيا علاقات جيدة مع الأكراد على غرار الأمريكيين، وهي لا ترغب في الدخول في مواجهة معهم، رغم أن سيطرة الأكراد على المناطق الشمالية الغربية في سوريا ووصولهم إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط أثار الكثير من القلق لدى طهران وأنقرة اللتين تسعيان إلى قطع أي إرتباط بين الأكراد في سوريا والعراق.

مخاوف

ولابد من الإشارة إلى أن ظاهر الخطة التركية هو الإستعانة بالجيش الحر لمواجهة «جبهة النصرة» والأكراد، إذ يثير بعض المحللين في طهران مخاوف من تكون أنقرة تخطط بالأساس لإعادة الحياة مجددا إلى الجيش الحر الذي أصابه الوهن في بنيته الفكرية والايديولوجية وشهد الانشقاقات بين صفوفه خلال العامين الماضيين، وخسر ما يقارب 70 في المئة من قواته.

ورغم أن روسيا لا ترى في تلك الخطوة أي تحد لها، إلا أنها بالتأكيد تتعارض مع مصالح طهران ودمشق، لأن «الجيش الحر» يسعى في العلن لإسقاط النظام السوري، حتى أن محمد علوش المسؤول السياسي في تنظيم جيش الإسلام أعلن في وقت سابق عن أن تحالفهم مع تركيا سيكون بمثابة سفينة للنجاة من أجل استعادة إدلب من «جبهة النصرة».

وبالإضافة إلى هذا كله، فإن إتساع النفوذ العسكري التركي في سوريا سيتحول إلى ميزة استراتيجية مستقبلا لصالح أنقرة في الأزمة السورية. وفي الواقع، فإن دعم أنقرة للجيش الحر وسيطرتها على أجزاء واسعة من الشمال السوري سيدعمها في قدرتها على المناورة في المعادلات السورية مستقبلاً بما لا يريح إيران التي لا تجد خيارا الآن، وهي ترى شبح «التقسيم» يلاحقها إذا أعلن الكرد العراقيون انفصالهم، سوى الاعتراف – مكره أخاك لا بطل- أن التدخل التركي في إدلب خطوة إيجابية على طريق الحل السياسي في سوريا.

القدس العربي

 

 

 

القوات التركية تدخل إدلب وفق خطة متفق عليها مع بوتين/ فالح الحمراني

ناقش الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان خلال مباحثاتهما في 29 ايلول/سبتمبر الماضي مناطق تخفيف التصعيد في سوريا. وأعلن أردوغان حينها ان قوات بلاده ستدخل قريبا إلى محافظة إدلب، وان تلك الوحدات تقف في حالة تأهب على الحدود بين البلدين، وستتحرك وفقا للخطة التي ناقشها مع رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين في 29 ايلول/سبتمبر.

وفقا للخطة التي جاءت تفاصيلها على لسان الرئيس التركي، فقد تم تحديد مناطق تخفيف التصعيد حيث سيجري نشر المراقبين. وسترابط القوات التركية داخل إدلب، وتكون القوات الروسية خارجها. وكان الرئيس أردوغان قد كشف عن ذلك للصحافيين الذين رافقوه في الطائرة التي عادت به من إيران بعد زيارة عمل.

وقال رئيس وزراء تركيا بن علي يلدرم ان بلاده تنسق تحركاتها في محافظة إدلب مع روسيا الاتحادية، وأضاف «نحن نوفر الأمن في إدلب» مؤكدا ان تركيا تعمل مع روسيا الاتحادية في هذه القضية. ونعيد إلى الذاكرة ان الناطق الصحافي باسم الرئيس التركي ابراهيم كالين، لم يستبعد في تصريح له في حزيران/يونيو الماضي نشر الوحدات العسكرية الروسية والتركية في إدلب. وأعلن كالين في بداية تشرين الأول/اكتوبر الجاري ان تركيا تجري مع الجانبين الروسي والإيراني مباحثات مكثقة بشأن إدلب. ويشارك في المباحثات ممثلو وزارة الخارجية وهيئة الأركان وأجهزة المخابرات، وانها تركز على كيفية تطبيق اتفاقية خفض التصعيد في إدلب. وجدد تأكيد الرئيس أردوغان على ان القوات التركية سترابط داخل حدود منطقة خفض التصعيد والقوات الروسية خارج المنطقة.

ووفقا للمصادر الروسية فان مقاتلي «جبهة تحرير الشام» جبهة «النصرة» سابقا، يسيطرون على جزء كبير من محافظة إدلب، بيد انه لم تجر أعمال قتالية حتى وقت قريب، لأن المقاتلين المتشددين وفقا للتفسيرات الروسية وبمساعدة الولايات المتحدة وحلفائها تمكنوا من الاختباء وراء ظهر «المعارضة السورية» المعتدلة، ومع ذلك تم تشكيل منطقة تخفيف التصعيد. لكن مقاتلي تحرير الشام حاولوا القيام بالهجوم في جنوب منطقة تخفيف التصعيد في إدلب باتجاه حماة. وتكلل الهجوم في الساعات، الأولى بالنجاح حيث اعتمدوا المباغتة وقطعوا الطريق على قوات النظام السوري، بيد ان القوة الجوية الروسية تدخلت وتمكنت من تصفية قدرات المهاجمين، وهيأت لقوات النظام إحباط الهجوم والعودة إلى مواقعها السابقة. وعلى خلفية ذلك بدأت القوات التركية في الثامن من الشهر الجاري العملية الرامية للسيطرة على إدلب.

تناقض التقييمات

وتباينت قراءات مراكز التحليل الإخباري في موسكو حول مضامين وآفاق العملية التركية في إدلب المدعومة روسيا، بين متفائل ومتشائم. وضمن هذا السياق قال مدير معهد الدراسات الاستراتيجية دمتري يغورتشينكو في حديث مع «الوكالة الفدرالية للأنباء» ان العملية التركية الخاصة جاءت ضمن أُطر الاتفاق الثلاثي الذي تم التوصل له في أستانا الكازاخستانية خلال الجولة الأخيرة للمفاوضات بين ممثلي النظام والمعارضة السورية برعاية الثلاثي روسيا وتركيا وإيران، التي اتفقت على ان تأخذ على عاتقها ضمان أمن سوريا.

وأوضح يغورتشينكو، ان الكلام دار في أستانا عن ان القوات التركية ستتحرك على الأرض، بتغطية من القوة الجوية الروسية. وفي رأيه ان هذه العملية تتيح حل القضية المتعلقة بتواجد من وصفها بالمنظمات الإرهابية في إدلب. وفي حديثه عن اختلاط الأوراق في محافظة إدلب أشار إلى «ان تركيا بالطبع تدعم المعارضة السورية، والجيش السوري الحر» وان هذا الدعم ما زال قائما بصورة جزئية. ومن ناحية ثانية فان عددا كبيرا من مقاتلي تحرير الشام احتشدوا في إدلب، فضلا عن بقاء مقاتلي الدولة الإسلامية هناك» لذلك «فإن على طرف ما شن الحرب ضد هذه الفصائل». وكان الرئيس التركي أردوغان قد أشار عشية العملية العسكرية، ان تركيا تتعاون مع المعارضة «جيش سوريا الحر» من أجل إقامة ظروف آمنة في إدلب على أساس الاتفاقية التي تم التوصل لها مع روسيا وإيران.

ويرصد محللون عسكريون ان تركيا ستصر على ان تكون لها أفضليات في ما بعد تسوية النزاع في سوريا، باعتبارها بلدا شارك في هزيمة الإرهابيين.

وعلى حد قراءة رئيس الملف السياسي في «مركز دراسة تركيا المعاصرة» يوري مافاشيف، فإن الخطة التركية الروسية بفرض السيطرة على إدلب لن يكتب لها الدخول إلى حيز التنفيذ. وتسائل خبير الشؤون التركية في حديث صحافي «ما سيترتب في الواقع الفعلي؟ انه سؤال كبير. وما العمل مع 28 ألف مقائل مدججين بالسلاح؟ فضلا عن ان هناك عددا غفيرا من السكان المدنيين. ولو لم يتواجدوا هناك لكان في الإمكان الانتهاء من تواجد المقاتلين إلى الأبد».

وذهب مافاشيف إلى ان العملية العسكرية التي من المحتمل ان توقع الضحايا والإصابات بين المدنيين ستثير من دون شك ردود فعل سلبية صاخبة من قبل الغرب ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان. موضحا ان تركيا لا تمتلك نفوذا هناك. وحتى روسيا مضطرة للذهاب إلى أبعد الحدود مشيرا إلى تصريح وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف الذي قال ان بلاده مستعدة لدعم قوى المسلحين وحتى المقاتلين الذين يقفون ضد هيئة تحرير الشام. وعلى تعبير مافاشيف «أننا مع الأتراك من هذه الناحية في قارب واحد».

ووفقا لقراءة «معهد الشرق الأوسط» في موسكو فإن سبب قيام تركيا بعملية الدخول إلى إدلب يعود إلى خشيتها من ان الأكراد سيتقدمون من عفرين إلى إدلب وفي المحصلة إلى البحر المتوسط. نظرا لأن مثل هذا التطور سيوفر ليس فقد لأكراد سوريا وانما العراق أيضا، منفذا إلى البحر. فبخلاف ذلك ستبقى كردستان السورية والعراقية حتى في حال ان صارتا دولتان مستقلتان، تتبعان إلى الجيران (تركيا وإيران). لذلك فإن منع حصول الأكراد على منذ إلى البحر يدخل ضمن أولويات أنقرة حيث ان القضية تتعلق بأمن تركيا الوطني.

ويشير التحليل نفسه إلى ان تركيا تريد دخول إدلب من أجل زيادة مساهمتها في مكافحة الإرهاب، وفي الدرجة الأولى ضد «جبهة النصرة» التي تقول انها موالية لإحدى دول المنطقة، وكذلك من أجل تعزيز موقع أنقرة في سوريا بعد تسوية النزاع وبكل ما يجر ذلك خلفه من آثار. إلى ذلك فإن أنقرة تسعى إلى تقوية مواقع المعارضة السورية وفي الدرجة الأولى الموالية لها. كذلك تريد استكمال بناء «سد الصداقة» الذي بدأت سوريا وتركيا في إقامته على نهر العاصي، وباشرت في بنائه في شباط/فبراير 2011 أي قبل شهر من اندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد. كذلك تضع من بين أهدافها بالدخول إلى إدلب حماية التركمان السوريين الذين دعوا في نيسان/أبريل الماضي، إلى إقامة منطقة آمنة في إدلب ذات الأهمية الاستراتيجية. وتخطط تركيا لأن تبقى إدلب بعد تسوية النزاع في سوريا تحت سيطرة جيش سوريا الحر أو التركمان. إضافة إلى ذلك فإن أردوغان وحزب العدالة والتنمية في حاجة إلى تحقيق نصر عسكري صغير لتحسين صورته السياسية. وحسب التحليل فان أردوغان في حاجة ماسة الآن إلى مثل هذا النصر لأن إجراء الاستفتاء في كردستان انعكس سلبا على صورة الرئيس التركي داخل البلاد نظرا لأنه في المحصلة لم يتمكن من منع إجرائه.

 

 

ثلاثة أهداف حققتها «تحرير الشام» من العملية التركية/ وائل عصام

يمكن القول ان «هيئة تحرير الشام» حققت ثلاثة أهداف من خلال تعاونها مع القوات التركية التي تقوم بعملية محدودة في إدلب، فهي أولا تجنبت الصدام مع الأتراك والروس، ولو مؤقتا، من خلال التوصل لصيغة توافقية مع القوات التركية، تضمن مصالح الطرفين، إذ انها وعلى ما يبدو، أيقنت ان الأتراك ليس من أولياتهم، هذه المرة، الدخول بمعركة عسكرية مع الجهاديين، بل يهدفون لبناء حزام يفصل عفرين الكردية عن محيطها، وان الأجندة التركية وما دامت لا تنفذ أهداف الروس والنظام بالسيطرة على إدلب، ولو حاليا على الأقل، فان الدخول التركي لن يشكل خطرا محدقا على وجود «تحرير الشام» وحلفاءئا الجهاديين في إدلب، وسيكون هذا التفاهم مع أنقرة، ورقة قوة بيد «تحرير الشام»، وإن على المدى القصير، بحيث ان الفصائل الجهادية تسعى لكسب الوقت قبل ان تبدأ المرحلة الثانية المرتقبة التي سيغلب فيها الروس أولوياتهم بازاحة «تحرير الشام» من إدلب.

في الدرجة الثانية، فان «تحرير الشام»، نجحت في فرض نفسها كرقم صعب لا يمكن تجاوزه في مناطق المعارضة، بحيث اضطر الأتراك للتفاوض معهم بل والدخول بحمايتهم، والقبول بشروطهم بعدم إدخال فصائل الجيش الحر التي سبق للنصرة طردها من إدلب، وهكذا فأنها تمكنت من تهميش الفصائل المناوئة لها، والدخول بتفاهمات مع أنقرة، التي دعمتهم لسنوات. وحسب المعلومات المسربة من أروقة محادثات المسؤولين الأتراك، فانهم ضاقوا ذرعا من الحالة الفوضوية لفصائل درع الفرات وقبلها الفصائل المقربة منهم في الجيش الحر، لضعف أدائهم العسكري وهشاشة تنظيمهم، خصوصا بعد الخسائر التي مني بها الجيش التركي أمام تنظيم «الدولة» وتعرض جنديين للخطف في معركة الباب، والتي نسب فيها الاخفاق للفصيل المرافق للوحدة التركية على أطراف الباب.

على المستوى الثالث، فان دخول القوات التركية لنقاط المراقبة وتشكيلها ما هو أقرب للحزام الأمني، يعني إزاحة أي تهديد كردي بالتقدم على إدلب بدعم أمريكي كما حدث في الرقة، وهذا سيمكن «تحرير الشام» من تأمين جبهتها الشمالية، والتفرغ لجبهاتها الجنوبية والشرقية مع النظام. لكن السؤال الصعب الذي سيكون على جبهة «تحرير الشام» الإجابة عليه، هو كيفية تعاملها مع القوات التركية المتواجدة في نطاق سيطرتها، حال بدأ النظام والروس هجومهم الكبير المرتقب على إدلب في غضون الأشهر المقبلة، أي بعد السيطرة على ريف دير الزور؟  وما إذا كانت القوات التركية ستلعب دورا في المعارك أو سيقتصر دورها كما هو المرجح حينها على جهود الوساطة لإقناع المقاتلين بإخلاء إدلب لدخول قوات النظام كما حصل في حلب؟ وهو أمر يستبعد ان تنحى نحوه «تحرير الشام» التي يرجح انها ستقاتل بضراوة عن أهم وآخر معاقلها في سوريا.

 

 

 

تركيا التي تظهر في كل مكان لوقف روج آفا- شمال سوريا/ براء صبري

فيما يبدو أن التصريح الرسمي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن سبب تحضيرات تركيا لدخول إدلب قبل فترة قريبة بالتنسيق مع روسيا، وإيران، والذي تركز على أن هدفه الرئيسي هو منع الأكراد من التمدد، والوصول إلى البحر، ومنعهم من تشكيل حزام متصل جنوب تركيا، هو التصريح الأكثر صراحةً من بين كل التصريحات، والتفسيرات، والتحليلات التي تحاول تفهم مصدر القرار التركي المحفوف بالمخاطر والمفاجئ في الدخول لإدلب التي تكتظ بالجماعات المتشددة. والتي تدير جلها جبهة النصرة التي تسمى حالياً بهيئة تحرير الشام، والمعروفة بقوتها، والمعروفة بتحصنها المثالي في المحافظة. القرار التركي الذي يأتي استكمالاً للعديد من التفاهمات الصادرة في أستانة بين تركيا، وروسيا، وإيران، لا يبدو فيما هو واضح هو قرار بسيط، ولا هو تدخل سلس كالتدخل السابق لها في جرابلس الذي حصل دون أي مقاومة تذكر من «داعش». والذي حصل حينها لهدف واضح ومعلن من قبل أنقرة هو منع قوات سورية الديمقراطية من التقدم أكثر بعد انتصارهم في معركة «منبج» في شمال شرق حلب.

تقطيع أوصال المنطقة الكردية المنشودة

كان الأكراد وحدهم عند نشوب معركة «كوباني» الشهيرة، وبدأ التدخل الأمريكي واضحا للعيان في المعركة بعد قيام الطائرات الأمريكية بإيصال الأسلحة جواً في اليوم الخامس والأربعين من المعركة، وبعد الدعم الأمريكي الذي كلل بالضغط على تركيا لتسهيل مرور البيشمركه القادمين من إقليم كردستان مع الأسلحة الثقيلة لدعم اخوانهم الأكراد في المعركة التي انتهت بانتصارهم على «داعش». والتي تبعتها تبعات كبيرة كانت مفصلاً في العلاقة التركية الأمريكية، والتركية الروسية، والتركية الإيرانية، في الملف السوري من وقتها. كانت تركيا تصر على تقطيع أوصال المنطقة الكردية المنشودة في سوريا. كانت كوباني (عين العرب) منقطعة عن شقيقتيها (الجزيرة وعفرين). وكان غض النظر عن تحركات «داعش» في تل أبيض الحاجز الأولي في وجه الأكراد لربط مناطقهم بعضها ببعض، وتمكن الأكراد بدعم الأمريكان من طرد «داعش» من تل أبيض، وربطها بكوباني، وبقيت لهم عفرين البعيدة. عند عبور الأكراد نهر الفرات، وتحريرهم لمنبج كانت تركيا قد حسنت علاقاتها مع الروس بعد قضية إسقاط الطائرة الروسية، وتدخلت في شمال سوريا، ووصلت إلى الباب حيث قوات النظام والجماعات الحليفة لها وضعت الحدود حينها للتقدم التركي جنوب المدينة. دخلت تركيا، ومنعت التواصل المباشر بين كوباني وعفرين، ولكنها لم تمنع التواصل الوسيط الذي يمر من مناطق سيطرة النظام جنوب منطقة السيطرة التركية، ولم تنجح في المنع الكلي المطلوب رغم التدخل المباشر في الصراع السوري الساخن.

معركة الرقة

ظلت تركيا الدولة الشمالية لسوريا تخاطب واشنطن لمنع قوات سوريا الديمقراطية، والتي هي تشكيل عسكري (عربي كردي) تتهم تركيا جناحها الأقوى وحدات حماية الشعب، بالتبعية لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره عدوها الأول، تلك التبعية التي تنفيها الوحدات عن نفسها من التقدم بإتجاه عاصمة «داعش» في سوريا الرقة. قوات سوريا الديمقراطية كسبت معركة التحالف مع واشنطن نتيجة انضباطها الواضح، ونتيجة دمجها لعناصر متعددة من عرب المناطق التي يتم تحريرها، والتي يتم التحضير لتحريرها. الكسب جاء بالإضافة لما تم ذكره بسبب الشك الغربي الكلي من تصرفات أنقرة المهادنة مع بعض الجهات المتشددة السنية في سوريا. كان الغرب يطرح السؤال التالي دائماً: لماذا تركيا تغلق الحدود بوجه المناطق الكردية الآمنة نسبياً، وتغض النظر عن المعابر التي تديرها الجهات المعارضة المتشددة في إدلب وتل أبيض؟

التخيل التركي المنصب على ان النظام المستبد في دمشق سيسقط بسرعة، وقدرتها من خلال الجهات المعارضة التي تدعمها على ملء الفراغ المقبل، وخيار اللاجئين المستخدم ضد الاتحاد الأوروبي، وغيرها من الملفات التي تملك، جعلها تشعر بالغرور الذي أنتهى بها بوضع ضعيف، ولتكون في صف الروس الحلفاء المباشرين للنظام ضد واشنطن الحليف العتيد للحكومات التركية المتعاقبة منذ الخمسينيات. إصرار تركيا على التعامل مع الأكراد السوريين على هوى علاقتها مع أكرادها الداخليين، حوّل تركيا إلى رجل مسجون وراء الحدود لا يعرف سوى ملاحقة الشاب الصاعد في شمال سوريا بأي شكل كان، وبأي خسارة ممكنة.

ظلت تركيا تقدم العروض لواشنطن في مسعاها لمنع قوات سورية الديمقراطية من التقدم في الرقة دون جدوى. العرض وصل إلى مستوى تسليح قوات معارضة قريبة منها، وتقديم الدعم الجوي المطلوب لها، في مقابل فض الشراكة الأمريكية مع قوات سورية الديمقراطية، وهذا كله كان يرسخ لدى الغرب عدائية تركيا غير المفهومة لجهات قريبة من الأكراد، وقريبة من واشنطن في الوقت نفسه. كانت تركيا تخسر مواقفها الرافضة مع كل جديد، ومع كل تقدم للقوات القريبة من واشنطن في شمال وشرق سوريا، والتي وصلت طلائعها إلى محافظة دير الزور المهمة مع قرب تحرير الرقة من «داعش» بشكل نهائي. فشلت تركيا مجدداً في ردع الغرب من وقف التعامل مع «قسد» ومنع مشاركتها في قيادة معاركة الرقة ضد تنظيم «داعش» الإرهابي.

معركة إدلب والتفاهمات

تتحضر تركيا لدخول إدلب المحافظة الشمالية الغربية المكتظة بالمدنيين القادمين إليها بعد عمليات الترحيل التي قام بها نظام دمشق للجماعات المعارضة المسلحة وعوائلهم من ريف دمشق، وحمص، وغيرهما. الدخول التركي الذي بدأ باستطلاعات مسبقة، جزء من عملية تقطيع جديد صرح بها أردوغان للحزام الكردي (المفترض) لجنوب تركيا مع سوريا. التقطيع الذي لم ينجح بالتمام في شمال حلب بدأ يتحسس الطريق في محافظة إدلب بعد الفشل المتكرر في تنفيذ وعود اجتياح القوات التركية، وبعض الجهات المرتبطة بها سورياً، لمنطقة «عفرين» التابعة لفيدرالية الشمال المعلنة من قبل الإدارات الذاتية الكردية، والتي تعتبر جزءا من خريطة الحماية الروسية في المحفل السياسي السوري، والذي بدوره يشكك بجدية الروس السماح لتركيا بالسيطرة الشاملة على إدلب على المدى البعيد. تركيا تخسر في دخولها إدلب صداقة العديد من الجهات المعارضة المسلحة التي بدأت تشكك بدورها المفترض دعما للمعارضين ضد نظام دمشق بعد التقارب مع روسيا، وإيران، وهما اللتان ترحبان بالدخول التركي لإدلب تحت يافطة محاربة القاعدة في سوريا رغم وقوفهما مع نظام دمشق في المطلق. الجهات المعارضة القريبة من تركيا محرجة من تغطية روسيا للعمليات جواً كما هو معلن من موسكو فكيف يعتبر العمل دعما للثورة إذا كانت الدولة التي تدعم النظام للعظم هي من تغطي العملية؟ الحراك التركي أصبح لا يقبل الشك في مسعاه والمختزل ببضعة كلمات واضحة تقول: «تثبيط الأكراد وتحجيم دورهم مهمتنا في سوريا والباقي سراب». تاهت ملحمة السيطرة التركية على نظام ما بعد الأسد، وخفت نبرة دعم الثورات، وضعف خطاب احتواء اللاجئين بعد عمليات الابتزاز بورقتهم مع الغرب، وإغلاق الحدود في وجه الباقين المحاصرين تحت حكم الجهات السلفية.

على ما يبدو ان إصرار تركيا على محاربة الأكراد السوريين، ومعهم حلفائهم من العرب، والمسيحيين، أضعفت البوصلة التركية في المحفل السياسي المتعلق بسوريا. يستغل الجميع ملف الأكراد للتعامل مع تركيا. الروس يحمون عفرين حالياً، ويلوحون باحتمالية أن تقوم قوات سورية الديمقراطية بعمليات في إدلب ضد النصرة تحت الغطاء الروسي، منطلقة من معاقلها في عفرين، وبموافقة أمريكية متوقعة، ويتحدثون عن نظام اتحادي للبلاد في حين يصافحون الأتراك الذين يرتابون بأي نظام لا مركزي سياسي لسوريا في أستانة. كل هذا الحراك في ما وراء نهر الفرات كون ما قبل نهر الفرات تستقبل بشكل دوري الحافلات المدججة بالدعم لقوات سورية الديمقراطية، والقادمة من واشنطن بثبات، مؤشر واضح عن اليأس التركي بالمجمل في الملف السوري الذي كان من المفترض أن تكون تركيا الجارة الشمالية، وذات الوزن في المنطقة تملك فيها الدور الأكبر من تقطيع الأوصال الذي تعمل عليه حالياً، وفيما يبدو أنها لم تنجح فيه حتى الآن حيث ستجابه في إدلب المحطة الجديدة للتقطيع مخاطر أكثر بكثير من جرابلس والراعي والباب على الأقل عسكرياً حسب الكثير من المتابعين. وبعد أن فقدت فرصة الظهور كصديق في ما وراء نهر الفرات حتى نهر دجلة بصورة شبه نهائية، على المدى المتوسط.

 

 

هل يستطيع الجيش التركي اقتحام عفرين وهل تنتهي إدلب في يد النظام؟/ إسماعيل جمال

أجمع محللون سياسيون في تصريحات خاصة لـ «القدس العربي» على أن إقامة الجيش التركي لـ»حزام أمني» حول عفرين خطوة مهمة لكنها «غير كافية» لإعاقة مشروع إقامة كيان كردي في شمالي سوريا، مشددين على أن تركيا تنوي مهاجمة المدينة وطرد الوحدات الكردية منها لكن الظروف السياسية والعسكرية الدولة ما زالت غير مواتية.

ورأى المحللون أن تركيا سوف تستمر في محاولة تطبيق اتفاق مناطق عدم الاشتباك في إدلب بشكل سلمي وبالتوافق مع الفصائل العسكرية في المحافظة، لكنهم أكدوا على أن روسيا وإيران وأطرافا دولية أخرى سوف تدفع باتجاه دخول تركيا في مواجهة عسكرية طاحنة مع جبهة النصرة لإضعاف الطرفين لصالح النظام السوري الذي سيتمكن لاحقاً من السيطرة على المحافظة.

وبعد أيام من القيام بعمليات استطلاع واستكشاف في مناطق مختلفة في محافظة إدلب السورية، بالتنسيق مع هيئة تحرير الشام، بدأ الجيش التركي فعلياً، فجر الجمعة، إدخال دبابات وعربات عسكرية ومئات الجنود وعناصر الوحدات الخاصة إلى المحافظة بشكل سلمي ودون اشتباكات تذكر مع أي من أطراف النزاع شمالي سوريا، وقام السبت بتعزيز قواته داخل المحافظة.

هذه العملية التي تأتي تطبيقاً لاتفاق مناطق عدم الاشتباك الناتج عن مباحثات أستانة بين روسيا وإيران وتركيا ستقوم بموجبها أنقرة بنشر قوات من الجيش التركي تدريجياً داخل حدود محافظة إدلب على شكل نقاط مراقبة لضمان وقف إطلاق النار من الداخل، بينما تتكفل روسيا بنشر قواتها خارج حدود المحافظة.

لكن وعلى الرغم من أن كل ما يحدث يأتي في إطار توافقات سياسية وتنسيق عسكري بين أنقرة وموسكو، إلا أن الأهداف المعلنة والسرية تبدو مختلفة إلى درجة كبيرة بين الجانبين، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة وعميقة حول مستقبل هذا التعاون والنتائج التي ستترتب عليه.

فبينما ترى أنقرة في هذه العملية فرصة في منح تحويل إدلب إلى حلب جديدة والحفاظ ولو جزئياً على آخر معاقل المعارضة السورية والأهم أنها ستشكل ما أطلقت عليه الصحافة التركية «خنجراً في خاصرة مشروع الكيان الكردي» شمالي سوريا من خلال حصار عفرين وربما مهاجمتها لاحقاً، تهدف روسيا إلى أن يؤدي اتفاق مناطق عدم الاشتباك في سوريا وخاصة بإدلب إلى إنهاء آخر وأكبر معاقل المعارضة السورية تمهيداً لإنهاء الحرب في سوريا وحسمها لصالح النظام السوري.

أوزجان: عملية لا بد منها لكنها تحمل «مجازفة كبيرة»

الكاتب والمحلل السياسي التركي مصطفى أوزجان رأى أن تدخل الجيش التركي في إدلب كان خطوة لا بد منها ولكنه حذر من أن هذه الخطوة «تحمل مخاطرة كبيرة»، لافتاً إلى أن روسيا وإيران والكثير من الأطراف الدولية ترغب وبقوة في أن تدخل تركيا بمعارك طاحنة مع جبهة النصرة

وحول إمكانية أن ينتهي التدخل التركي بإدلب إلى تسليم المحافظة للنظام السوري، قال أوزجان لـ»القدس العربي»: «العملية تحمل مجازفة كبيرة، وفي نهاية الأمر في حال استطاع النظام من توسيع مناطق سيطرته وتثبت حكمه فإنه سف يتفرغ لإدلب وقتها لن يكون هناك مبرر لبقاء الجيش التركي في إدلب، فأي تسوية نهائية للصراع في سوريا سوف تشمل على الأغلب انسحاب القوات التركية»، وشدد على أن «تركيا ترى في الوحدات الكردية خطراً أكبر على أمنها القومي من النظام السوري».

ولفت أوزجان إلى أن تركيا تريد تحقيق العديد من الأهداف من خلال هذه العملية أبرزها حماية الأمن القومي التركي والحفاظ على حدودها بالإضافة إلى قطع الطريق أمام تمدد وحدات حماية الشعب الكردية التي تسعى لوصل مناطق سيطرتها في شرقي وغربي نهر الفرات.

وعن إمكانية لجوء الجيش التركي لعملية عسكرية واسعة ضد الوحدات الكردية في عفرين، قال أوزجان: «المعطيات السياسية والعسكرية والأجواء العامة غير مواتية الآن للقيام بهذه العملية فأمريكا تعارض هذا الأمر بقوة وتعتبر أكبر داعم لهذه الوحدات وعملية من هذا القبيل تحتاج جرأة ومجازفة كبيرة من تركيا.

أتاجان: يجب القيام بعمليات كبرى في عفرين ومنبج وتل أبيض

من جهته، رأى المحلل السياسي التركي بكير أتاجان أن إقامة ما أطلق عليه «الحزام الأمني» المتمثل في انتشار الجيش التركي على طول الخط الحدودي بين عفرين وإدلب أمر غير كاف، معتبراً أنه يتوجب على الجيش التركي القيام بعمليات عسكرية واسعة ضد الوحدات الكردية داخل عفرين ومنبج وتل أبيض من أجل إزالة خطر إقامة كيان جديد على الحدود التركية شمالي سوريا.

لكن أوزجان أقر بأن الظروف الحالية سياسياً وعسكرياً لا تتيح للجيش التركي مهاجمة عفرين، لافتاً إلى أن التوافقات مع روسيا وإيران تحتم على تركيا في هذه المرحلة تركيز عملها من أجل تثبيت وقف إطلاق النار وإقامة مناطق عدم الاشتباك في إدلب، وأنه «من غير المنطقي أن يترك الجيش التركي إدلب ويتجه نحو عفرين».

كما لفت إلى أن الموقف الأمريكي أيضاً يعارض قيام تركيا بعمليات عسكرية ضد الوحدات الكردية المدعومة من واشنطن، لكنه رأى تركيا لم تعد بحاجة إلى واشنطن التي تراجع نفوذها في سوريا وأن التوافق مع روسيا يكفي للقيام بهذه العمليات، على حد تقديره.

وأكد أتاجان على أن تركيا سوف تحاول اتمام تطبيق اتفاق أستانة في إدلب بشكل سلمي ودون الدخول في معارك مع الجماعات المسلحة بالمحافظة، وشدد على أن تسليم إدلب للنظام حالياً أمر غير وارد «لكن في المستقبل وفي حال سيطر النظام فعلياً على باقي مناطق سوريا وأصبح قادراً على حماية الحدود ووحدة الأراضي السورية فإن تركيا ستضطر للقيام بذلك».

أردوغان: لا يحق لأحد أن يحاسبنا على اتخاذنا التدابير الأمنية

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قال الجمعة إن بلاده بدأت عملية انتشار في مدينة إدلب شمالي سوريا، وفق إطار مباحثات أستانة. وأضاف: «قلنا سابقا يمكننا أن نأتي فجأة (إلى إدلب)، وهذه الليلة بدأت قواتنا المسلحة بالفعل مع الجيش السوري الحر بتنفيذ العملية في إدلب».

وتابع: «إدلب محافظة حدودية مع تركيا، ولنا حدود مع سوريا على طول 911 كيلو مترا، ونحن من يتعرض للتهديد في كل لحظة، فلا يحق لأحد أن يحاسبنا على اتخاذنا التدابير الأمنية»، وزاد قائلا: «إن الذين فشلوا في تركيع تركيا، يخرجون أمامنا كل يوم بمكائد مختلفة».

وقال الجيش التركي، الجمعة، إنه بدأ المرحلة الأولى من مهمته في محافظة إدلب السورية (شمال غرب) الهادفة لتأسيس نقاط مراقبة لمتابعة وقف إطلاق النار في «منطقة خفض التوتر»، بحيث تتضمن الانتشار في المنطقة الممتدة بين إدلب ومدينة عفرين في محافظة حلب، وسيتم إقامة أكثر من 10 مواقع للمراقبة سوف تمتد تدريجيا من شمالي إدلب باتجاه الجنوب، في الفترة المقبلة.

وكان الجيش التركي أطلق في 8 تشرين الأول/أكتوبر عملية استطلاعية بهدف إقامة مراكز. وأشارت هيئة الأركان إلى أنها تشن عمليتها بموجب «قواعد الاشتباك التي تم التفاوض حولها في أستانا».

والسبت، أرسل الجيش التركي، تعزيزات عسكرية جديدة إلى المحافظة، وانطلقت قافلة عسكرية تركية من بلدة الريحانية التابعة لولاية هاتاي، ووصلت إلى غرب مدينة حلب السورية. كما أجرى رئيس هيئة الأركان التركية خلوصي أكار، مساء الجمعة، جولة تفقدية لقوات بلاده المنتشرة على الحدود التركية السورية حيث يتوقع دخول عشرات المدرعات ومئات الجنود الأتراك تدريجياً إلى المحافظة.

 

 

على هامش التدخل التركي في الشمال السوري: هل اقتربت الحرب بين «الزنكي» و«تحرير الشام»؟/ منهل باريش

دخلت حركة “نور الدين الزنكي” كلاعب قوي في موضوع التدخل العسكري التركي في شمال سوريا في إطار تنفيذ اتفاقية “خفض التصعيد”، حين منعت عناصر “هيئة تحرير الشام” المرافقين لفريق استطلاع عسكري تركي من الدخول إلى مناطق سيطرتها شرق دارة عزة، في ريف حلب الغربي. وأكد مصدر مطلع على المفاوضات بين الزنكي والجانب التركي أن الاتفاق كان “دخول الرتل التركي دون أي عنصر من تحرير الشام، لكن الهيئة رفضت ترك الوفد التركي يدخل بمفرده”، وهو ما أخر الفريق التركي أربع ساعات، قررت بعدها وحدة الاستطلاع التركية العودة إلى الأراضي التركية، دون إكمال مهمتها في مسح منطقة جبل الشيخ عقيل وتحدد نقاط مراقبة وتفتيش عليه.

في السياق، نفى الناطق العسكري في حركة الزنكي، النقيب عبد السلام عبد الرزاق، أن القوة الأمنية التابعة للحركة منعت وحدة الاستطلاع التركية المتوجهة إلى جبل الشيخ عقيل شمال شرق جبل سمعان. وأوضح قائلاً: “جهزنا قوة لمرافقة الوفد التركي إلى النقاط مع قسد، ورفضنا دخول عناصر الهيئة لنقاط رباطنا، ولا يوجد أي سبب لدخول رتل أو قوة الهيئة المرافقة لهم على الاطلاق”.

وأضاف: “ليس هناك أي وجود تركي في النقاط التي تسيطر عليها الزنكي، ومهمة الوفد التركي كانت استطلاعية لتحديد نقاط مراقبة على خطوط التماس.

وخفف عبد الرزاق من مسألة منع عناصر تحرير الشام بالقوة وإشهار السلاح بوجههم، قائلاً: “ليس الأمر أمر سلاح، ولم يكن هنالك داع لدخول رتل من الهيئة إلى نقاط رباطنا، وتمسك عناصر الهيئة وإصرارهم على الدخول هو الدافع للرفض القطعي لمرورهم على حاجز الزنكي”. وأشار إلى أن “التنسيق دائم ومتواصل بين الأتراك وكل الفصائل ولم ينقطع إطلاقاً”.

ونشر الجيش التركي في المرحلة الأولى 80 جنديا مع 12 مدرعة بينها ناقلات جند، إضافة لآليات الهندسة الثقيلة، وسيارات الإسعاف. وتمركزت الدفعة الأولى، التي دخلت ليل الخميس الماضي في منطقتي جبل الشيخ بركات (غرب دارة عزة) وجبل سمعان إلى الشمال قليلاً، على أن يستكمل الجيش التركي نشر قواته في 8 نقاط مراقبة وتفتيش مع جبهات التماس الممتدة من أطمة إلى دير سمعان، بطول يصل إلى 15 كم في منطقة سيطرة “تحرير الشام” و8 نقاط من غرب دير سمعان وصولا إلى أقصى الشرق قرب الطامورة، وهي منطقة سيطرة حركة الزنكي.

يذكر أن جبل الشيخ بركات عبارة عن كتيبة دفاع جوي تابعة لإدارة الدفاع الجوي، سيطرت عليها كتائب الجيش الحر نهاية حزيران/ يونيو 2016، وهي أعلى قمة جبلية في منطقة في ريف حلب الغربي.

توزع النقاط بين مناطق الزنكي وتحرير الشام هو ما سيضعف دور الأخيرة في اتفاقها مع الجانب التركي، بعدما صدّرت دورها السياسي على أنه ضامن للتدخل التركي، وأنها أمنيا وعسكريا ستكون قوة الحماية لنقاط المراقبة المنتشرة في مناطقها.

بدورها فإن قيادة الزنكي لن تقدم أي رصيد إضافي للهيئة وهي الخارجة من تحالفها منذ شهور قليلة، فإمكانيات الحركة العسكرية والسياسية وحاضنتها الشعبية الكبيرة في ريف حلب الغربي، جعلتها الفصيل العسكري الوحيد القادر على رفض أستانة وعدم الانصياع للضغوط التركية والموافقة على مؤتمر أستانة 1 مطلع العام.

براغماتية الزنكي ستجعله يتمسك بالشراكة مع تركيا في مناطق نفوذه، وهو ما سيعود عليه بتثقيل دوره السياسي والعسكري في ترتيب مراحل الانتشار التركي وتأمين الحدود مع عفرين.

في المقابل، فإن هيئة تحرير الشام، التي قامت بعقد اتفاق منفرد مع تركيا دون مشاركة أحرار الشام وفيلق الشام المقربين منها، لن تسمح لحركة الزنكي أن تعطل اتفاقها مع تركيا دون شك. ويدرك قائد الهيئة، أبو محمد الجولاني، أن الزنكي رأس حربة في أي مشروع قتال ضدها في المستقبل القريب. ويعلم جيدا أن الاتفاق الرباعي لبدء الحرب على تحرير الشام يشكل الزنكي عموده الفقري، حيث أثبتت تجارب اختبار الجولاني له نجاح الزنكي دائما.

هذه الاعتبارات، وأخرى كهزيمة “أحرار الشام” المدوية، وكسر شوكة كل الفصائل وانحسار فصيل “صقور الشام” الصغير في قراه شرقي جبل الزاوية، تبرز “قلعة” الزنكي وحيدة في طريق تحرير الشام. ويمنع من هدم تلك القلعة أسباب عدة، أهمها الكلفة البشرية الكبيرة لمهاجمة أشرس أنواع مقاتلي فصائل الجيش الحر، والبنية العسكرية والأمنية للحركة، وتكتلها في منطقة جغرافية صخرية صعبة الاقتحام، إضافة إلى عامل الانتماء الجهوي لأبنائها ضد كل غريب، وكل من هم خارج ريف حلب الغربي.

وتحسب أي خسائر حالية في صفوف “تحرير الشام” لصالح الفصائل المتربصة بها، لكن من غير المستبعد قيام الجولاني، وتياره المتشدد الميال للحسم العسكري مع فصائل الداخل والرضوخ للخارج، أن يقدم على تلك المغامرة.

أولى خطوات منع إقامة “ممر إرهابي يبدأ من عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط” (حسب تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان) بدأت بالتجلي على أرض الواقع مع انتشار القوات التركية في جبل الشيخ بركات وجبل سمعان، وستتواصل من خلال تعزيز نقاط أخرى غربا في صلوة وأطمة المواجهة لدير بلوط التابعة لجنديرس أكبر بلدات منطقة عفرين.

ومع التثبيت الحاصل لنقاط مراقبة خفض التصعيد في مناطق النصرة، يعمل الجانب التركي بالتوازي مع الزنكي لحل مشكلة نشر النقاط في جبل الشيخ عقيل، باقل الخسائر. وتمارس تركيا سياسة ناعمة في الفترة الحالية لضمان موطئ قدم لها، وهذا خيار سوف يتغير لا شك في المرحلة الثانية، عندما ستبدأ بالتقدم إلى مدينة إدلب.

أمريكا، التي رحبت بالعملية التركية ضد الإرهاب في إدلب في بيان لوزارة الدفاع، فضلت الصمت على توجيه أي انتقاد أو ترحيب بالتفاهم التركي مع “هيئة تحرير الشام” المصنفة إرهابيا، واعتبرت التصريحات الرسمية أن العملية التركية تتم مع الجيش السوري الحر.

ويذهب الكثير من المحللين الأتراك إلى اعتبار أن العملية العسكرية التركية في إدلب، وإقامة نقاط مراقبة على الحدود بين إدلب وعفرين، إلى أنه سيحاصر “وحدات حماية الشعب” التي تصنف كمنظمة إرهابية، وهي الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، ويمنع توسعها باتجاه ادلب بشكل نهائي، مع إدراك استحالة أي عملية هجومية عليها في الوقت الحالي على الأقل.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى