صفحات الرأي

“القوة الخشنة”/ خليل العناني

 

 

طرح عالم السياسة جوزيف ناي، في العام 1990، مفهوم “القوة الناعمة”، والذي يشير إلى القدرة على الجذب والتأثير في المجتمعات الأخرى، بدون استخدام القوة أو الإكراه. ومذاك انتشر المفهوم على نطاق واسع، واستخدم لتفسير انتشار الثقافة ومنظومة القيم ونمط الحياة الأميركي خارجياً. وقد ترافق ظهور مفهوم “القوة الناعمة” مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية، ورواج أطروحة “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما التي بشرّت بالنموذج الليبرالي الغربي، باعتباره “الخلاص النهائي”، والطريق الحتمي الذي يجب أن تسير فيه المجتمعات البشرية.

ولكن منذ بداية الألفية الجديدة التي ترافقت مع صعود الصراع على الصعيدين، الإقليمي والدولي، وانخراط الولايات المتحدة في حروبٍ خارجيةٍ شوّهت سمعتها، وأكلت من رأسمالها المعنوي والرمزي والثقافي، تراجع مفهوم “القوة الناعمة” كثيراً، وأصبح لا يفسر صعود الخطابات المعادية للولايات المتحدة، سواء في المنطقة العربية أو أميركا اللاتينية أو غيرهما. في حين شكل صعود الصين وروسيا وعودة السلطويات خلال العقد الماضي أمراً مقلقاً، ما استدعى الباحثين والمراقبين للبحث عن مفهومٍ جديد ربما يفسر هذا الصعود.

لذا، انتشر خلال الفترة الماضية مفهوم جديد، هو مفهوم “القوة الخشنة” (Sharp Power)، والذي صكّته مجموعة من الباحثين من مناطق مختلفة (أميركا وأوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا) في تقرير نشره “الصندوق الوطني للديمقراطية” الأميركي (NED) أواخر العام الماضي. وبحسب واضعيه، يشير هذا المفهوم إلى دور السلطويات الصاعدة (كما الحال مع الصين وروسيا) في التأثير على الدول والمجتمعات الأخرى، ليس عن طريق الإقناع والجذب، كما هي الحال مع مفهوم “القوة الناعمة”، ولكن من خلال التشتيت والتلاعب، عبر استخدام الإعلام والثقافة ومراكز الأبحاث. ويشير المفهوم إلى محاولة هذه السلطويات تصدير نموذجها السلطوي القمعي إلى الخارج، من خلال استغلال انفتاح المجتمعات الديمقراطية، من أجل اختراقها والتأثير على توجهات مواطنيها.

وينشط مفهوم “القوة الخشنة” في المجتمعات المنتقلة حديثاً إلى الديمقراطية، ولم تصل بعد إلى مرحلة التماسك والرسوخ الديمقراطي، كما هي الحال في إفريقيا وشرق أوروبا. أو في المجتمعات التي شهدت انتفاضات وثورات، ولم تنجح في المرور نحو بناء أنظمة ديمقراطية، كما هي الحال في بلدان الربيع العربي. ومن الملفت أن ثمّة تحالفاً بين السلطويتين، الصينية والروسية، والنخب الحاكمة في البلدان التي انتكست ديمقراطياً، وذلك على غرار الحال في سورية وبولندا وبيلاروسيا وغيرها.

وتعتمد “القوة الخشنة” على قوة الإعلام والشبكات الاجتماعية، من أجل نشر الأكاذيب، وتشكيك الناس في قيم الديمقراطية وحرية التعبير… إلخ. كما تستخدم تقنيات الاختراق المعلوماتي من أجل التأثير على معتقدات المواطنين وأفكارهم وقراراتهم باتجاه هذه القيم والقضايا.

وفي منطقتنا العربية، تبدو تجليات “القوة الخشنة” أكثر وضوحاً، حيث تسعى الأصولية السلطوية إلى ترويج نفسها، باعتبارها الخلاص للمنطقة من الفوضى وعدم الاستقرار. وهي تقاوم كل محاولات التغيير السياسي، أو تبني الديمقراطية آلية للحكم، في حين تدعم كل الأصوات والحركات التي ترفض التغيير. وهو ما يبدو واضحاً في الحالتين، المصرية والتونسية. فالأولى استخدمت فيها الأصولية السلطوية كل أدوات التأثير قبل انقلاب “3 يوليو” في 2013، ما وضع البلاد تحت سيطرة نخبة سلطوية واستبدادية بعد ثورة يناير 2011. وفي تونس، تسعى قوى الأصولية السلطوية إلى إنهاء التجربة الديمقراطية، من خلال التلاعب بالإعلام التونسي، وضخ أموال كبيرة لقوى سلطوية محلية، تسعى بكل جد إلى إفشال التجربة الديمقراطية الوليدة.

نحن إذاً إزاء صعود متوازٍ للقوة الخشنة على الساحتين، الإقليمية والدولية، وهو ما يدفع المنطقة العربية نحو صراع جديد بين حلفاء السلطوية وقوى التغيير في المنطقة، لا يعرف أحدٌ متى سيتوقف وكيف.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى