صفحات الحوار

الكاتب السوري ورئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك العربي سمير العيطة لـ النهار: لم تفهم السلطة عمق التحولات في المجتمع السوري


بقلم ديانا سكيني

[1]

سمير العيطة، المقيم في باريس، كاتب سوري، واقتصادي مرموق، ورئيس تحرير النشرة العربية من “لوموند ديبلوماتيك” الفرنسية. هو أيضاً من الشخصيات السياسية العلمانية المثابرة على دعم الانتفاضة الشعبية منذ آذار الماضي. العيطة الذي لا يحب أن يُقدّم للآخرين بصفته معارضاً لأنه لا يعتبر المعارضة موحدة أو قابلة للتوحد يستعد للمشاركة في مؤتمر 17 ايلول الذي تعقده قوى هيئة التنسيق الوطني في دمشق، حيث يراهن على بروز تيار سياسي وطني ديموقراطي قوي. في ما يلي اجاباته على اسئلة “النهار”:

¶ أي أثر للسياسات الاقتصادية الانفتاحية التي اعتمدها النظام في السنوات الأخيرة، دون التخلص من اشتراكية النصوص، على ازدياد النقمة على الدولة ؟

– ليس هناك نقمة على الدولة في سوريا، هناك نقمة على السلطة. والفرق شاسع بين الأمرين. السوريّون يعتزّون بدولتهم، ويعرفون موظّفيها بشكلٍ جيّد، وأنّ هؤلاء لا يستطيعون أخذ القرارات، بل السلطة القابعة فوقهم بما فيها الأجهزة الأمنية. السياسات الاقتصادية الانفتاحية، دون حريات عامّة وعدالة اجتماعية، أرست في سوريا نظاما اقتصاديا يمكن تسميته “رأسمالية الأقرباء والأصدقاء crony capitalism”، حلّ محلّ رأسمالية الدولة التي أرسيت في عهد حافظ الأسد، والتي كانت انفتحت على القطاع الخاص في أوائل التسعينات، حتّى هدّد صعود هذا القطاع الخاص قبضة السلطة وطالب بالحريات السياسية والاجتماعية في منتصف هذا العقد. الرأسمالية الجديدة سارعت في تخريب كلّ النظم الاجتماعية والخدمات الأساسية في سوريا: الصحّة والتعليم وشبكات الحماية الاجتماعية ولم تستبدلها بشيء، فازداد الفقر والتهميش وهشاشة العمل. 80 في المئة من العاملين في سوريا خارج القطاع الحكومي يعملون دون عقود عمل وحماية صحيّة وتعويضات شيخوخة، إلخ. هذا هو الواقع، أمّا النصوص فهي مشكلة أخرى. هناك تضارب واضح في القوانين التي أرسيت مؤخّراً، خاصّة مع الدستور القائم الذي يحوي بنوداً واضحة تضع أسساً للعدالة الاجتماعية، كما الدساتير السابقة لسوريا. والسلطة القائمة دفعت السلطة التنفيذيّة كما التشريعيّة إلى تخطّي الدستور، هكذا دون الرجوع إلى الشعب مصدر الشرعيّة.

بين الطبقية والاستبداد

¶ هل يمكن القول إن العامل الطبقي كمحرك للمواطن السوري المنتفض هو اكثر تأثيرا من العامل السياسي المطالب بالتحرر من الاستبداد؟ الارياف والعشوائيات كمركز لانطلاق الاحتجاجات وضعف مشاركة الطبقة الوسطى نموذجاً؟

– وكأنّ الاقتصاد والمجتمع والسياسة تشكل مستويات غير مترابطة بشكلٍ وثيق مع بعضها، خاصّة عندما يتمّ تعريف السياسة على أنّها النضال من أجل الحريات والحقوق وليست صراعاً بين فردانيّات زعماء أو بين أحزاب. الاقتصاد في سوريا هو بشكلٍ لافت اقتصاد-سياسي، لا يسمح فيه مثلاً بلاعبين كبار مستقلّين عن السلطة السياسيّة (بما فيها الأجهزة الأمنيّة). والمجتمع أصلاً مخنوق في كلّ تعبيراته من قبل هذه السلطة، حتّى لتكوين أدنى جمعيّة. والثورة-الانتفاضة السورية ليست ذات طابع طبقي صرف، ولم تنبع من مطالبات عمّالية أو فلاحية. الثورة-الانتفاضة في سوريا جاءت نتيجة تراكمات كثيرة: جوهريّاً كما في بقية الدول العربية، إنّها ما أسميه التسونامي الشبابي الذي يأتي ليطيح السلطة المتحجّرة المهيمنة على الدولة، مع وعي ثقافي واجتماعي كبير. التسونامي الشبابي هو ظاهرة ديموغرافية اقتصادية اجتماعية تفسّر نوعاً ما خريطة توسّع الانتفاضة من درعا وحوران إلى مختلف المناطق السورية، وانتشارها خاصّة في المدن المتوسّطة والصغيرة وأقلّ من ذلك الى قلب المدينتين الكبريين: دمشق وحلب. ولكن التطلّع إلى الحرية والكرامة يشمل كلّ السوريين، بمن فيهم خاصّة الطبقة الوسطى، إلاّ المستفيدين مباشرة من السلطة وهم قلّة قليلة، وموزّعون في الأطياف والمناطق السورية.

وإذا أردنا الحديث عن محرّك أساسي فأنا اختصره بشعارات ظهرت خلال سيرورة هذه الثورة-الانتفاضة: أنّ “الشعب السوري لا يذلّ”، وأنّ “الشعب يريد “الحرية والكرامة”، وكذلك أنّ “النظام يريد إسقاط النظام”! ( ليس فقط أنّ “الشعب يريد إسقاط النظام”). إذ لم تفهم السلطة منذ البداية، مع أنّ الظواهر كانت واضحة حتّى قبل الشرارة الأولى، عمق التحوّلات الاجتماعية الاقتصادية السياسية، وأنّه لم يكن ممكناً الاستمرار بسوريا يمكن اختزالها بعائلة: “سوريا الأسد”.

الشريحة المترددة

¶ من هي الشريحة المترددة اليوم من الشعب؟ كيف تصف مبررات حيادها السلبي؟

– الأمور في سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه قبل آذار 2011. الكلّ يعي ذلك. وأولئك الذين لا يدعمون الحراك الشعبي بشكل صريح هم متخوّفون على الوطن وكيف يحصل التغيير بشكلٍ يوصله إلى برّ الآمان.

¶ هناك نظرية تقول إن البورجوازية السنية (في غالبيتها) مؤيدة للنظام بينما الطبقة الوسطى والفقراء من السنّة منقسمون في معارضتهم له. كيف تؤثر هذه المعادلة على العامل الطائفي كمحرك لطَيف من المنتفضين؟

– إذا أخذنا كيف تطوّرت الأحداث، انقسم الناس في دعمهم للانتفاضة-الثورة حتّى ضمن العائلة الواحدة، مهما كانت الطائفة أو المنطقة أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. اللافت في الحالة السورية، على خلاف تونس ومصر، أنّ بشار الأسد كان يحظى بشعبيّة حقيقية قبل اندلاع شرارة درعا الأولى، بالرغم من رفض الجميع لمظاهر السلطة العائلية. كان السخط في سوريا يتوجّه نحو رامي مخلوف، لا بشار الأسد، في حين كان في تونس يتوجّه مباشرة نحو بن علي. اصطفاف الرئيس السوري مع عائلته (عاطف نجيب الذي قام بالتعذيب في درعا) ضد شعبه هو الذي صدم الناس وأفقده في زمنٍ قياسيّ معظم الشعبية التي كان يحظى بها.

لا أتصوّر أنّ ما تسمّيه البورجوازية السنيّة ولا حتّى العلوية والدرزية والمسيحيّة هي مؤيّدة للنظام. البورجوازية السورية هي شديدة الوطنيّة، بمختلف أطيافها، وليست “مغتربة” عن شعبها. إلاّ أنّها من الناحية الطبقية تخاف من الفوضى، وهذا طبيعي، في حين لم يعد للكثير من الفئات الشعبية ما تخسره، من حريات ومن كرامة. والمشكلة منذ الخطاب الأوّل للرئيس السوري لم تعد تأييد النظام كما كان، بل ما هو النظام الجديد الذي يجب أن يبزغ.

 الحراك الشعبي كان حريصاً منذ البداية على نبذ زجّ أيّ بعد طائفي في الصراع، والمثال أولى تظاهرات اللاذقية. لكن السلطة وبعض وسائل الإعلام العربية وبعض ما يسمّى المعارضين هم الذين استمرّوا مع استطالة الأزمة واشتداد قسوتها في نفخ الكراهية الطائفيّة. شيخ سلفي على محطة عربية دينية يبثّ الفتنة مقابل قنوات للسلطة تخيف العلويين والمسيحيين على مصيرهم، و”معارض” لا أحد يثق به يعلن على محطات أخرى أنّه “إذا تغيّر النظام فهناك طائفة ستخسر” (كذا)، وفيديوات تبرز رجال أمن يهينون الناس ويطلبون منهم أن يقولوا أنّ بشار ربّهم.

المجتمع السوري وبورجوازيّته بأطيافها تداركت حتّى الآن كثيراً من حالات التقسيم الطائفيّ بوعيها، كما يحدث كلّ يوم في حمص أو في الساحل السوري، انطلاقاً من أحداث كان كلّ منها ليفجّر الوضع كليّاً في لبنان أو العراق.

¶ في أي لحظة يمكن الفئة البورجوازية التي ما زالت مؤيدة للنظام أن تتخلى عن موقفها؟

– لم تعد هذه البورجوازية منذ أشهر إلاّ في حالات نادرة مؤيّدة للنظام. مشكلتها ليست هنا، بل التخوّف من الفوضى والحرب الأهليّة. كثيرون في صفوفها بدأوا بـ”أخذ” منازل في لبنان أو الأردن أو تركيا، ويضعون أولادهم في مدارس في الخارج، وكذلك أموالهم. وهم يبذلون قصارى جهدهم كي يخرج تحوّل معقول نحو برّ الأمان، مع أنّ السلطة تأخذهم هم أيضاً رهينة لبقائها (بل ربّما لأنّها تتهدّدهم).

عند الهاوية

¶ هل سوريا مهددة بالوصول إلى شفير الهاوية اقتصادياً؟ وما حقيقة أن عوامل كقدرتها على تأمين أمنها الغذائي، مضافة الى علاقاتها الوطيدة مع روسيا وإيران، الى الحدود المفتوحة مع العراق ولبنان، تخفف من اثر الانهيار الاقتصادي المجتمعي؟

– لا ليست سوريا مهدّدة بالوصول إلى شفير الهاوية في المدى القصير أو المتوسط. ولن يتمّ التغيير بسبب الضغوط الاقتصادية، والسلطة القائمة ليست مستمرة فقط لأنّ هناك دولاً تدعمها.

وللمناسبة، ومع أنّني خبير في كثير من قضايا الاقتصاد السوري، امتنع عمداً عن التعليق على النواحي الاقتصادية. هذه المعركة هي معركة سياسية داخلية سورية من أجل “الحرية والكرامة”، ولا أرى مناسباً أن تستخدم جهات خارجيّة معلومات اقتصادية عن البلاد لتحوير الانتفاضة-الثورة في سوريا عن مسارها وأهدافها.

¶ قطع العلاقات من جانب تركيا، اي من البلدين يضر اقتصاديا؟

– الاثنان سيتضّرران اقتصادياً، خاصّة جنوب تركيا وشمال سوريا.

العقوبات

¶ ماذا عن العقوبات الغربية واثرها على المجتمع السوري؟

– لا أظنّ أن الحكومات الغربيّة تهتمّ حقّاً للديموقراطية أو لحقوق الشعوب العربية. إذ لم يكن للدكتاتوريات أن تستمرّ عشرات السنين دون دعمها. لها مصالحها، والحكم على عقوباتها هو بمقدار ما تخدم هذه المصالح أو الشعب السوري. هناك كثير من الدراسات توضح أن العقوبات الاقتصادية لم تؤدّ إلى تغيير أنظمة، بل إلى تحجّرها وإنهاك المجتمعات كي تتفسّخ. العقوبات الاقتصادية على العراق هي التي أدّت إلى تفسخ المجتمع العراقي، وجعله يرغب بالتحالف مع “الشيطان” فقط حتّى يخرج من الأزمة، ليتفجّر داخلياً بعد ذلك. والعقوبات الاقتصادية الشاملة التي تفرض على سوريا اليوم (على صادرات النفط أو المصرف المركزي، إلخ) لها المنحى نفسه.

إن منطق تدخل دول أجنبية في ثورات داخلية، حتّى عبر العقوبات، هو منطق غريب. كأن تطلب ثورة 1848 أو كومونة باريس مساعدة ألمانيا ضدّ السلطة القائمة في فرنسا حينها؛ وكأن تفرض سوريا حصاراً تجارياً على لبنان لفرض نجاح فريق سياسي. القمع يخلق احتقاناً، تنتج عنه أحياناً مطالبات داخلية بعقوبات شاملة أو حتّى بتدّخل أجنبيّ. هذا يأتي في لحظة غضب، ولكنّه لا يمثّل تطلّعات الشعب السوري.

الصبر ضروري، فقد انتصر الحراك الشعبي على السلطة وأثبت أنّ إرادته تفوق إرادة السلطة في البقاء، وأثبت أنّه سيبقى ثابتاً على قيمه السلمية المدنية الديموقراطية، ولا بدّ أن تأتي لحظة تحقّق التغيير. الصبر، الصبر.

[2]

• ما المأمول من مؤتمر 17 ايلول الدمشقي؟

– المأمول هو إبراز التيّار الوطني الديموقراطي الداعم للحراك الشعبي وطروحاته، ووجوهه، والوثائق التي عمل عليها، بما فيها الوثائق المؤسّسة وبرنامج للمرحلة الانتقالية. سيكون في الداخل السوري، وسيكون لقاءً لمختلف المكوّنات السورية، من الحراك الشعبي الشبابي حتّى الفاعليات الاقتصادية، وستدعى إليه قوى وطنيّة عربيّة وأجنبيّة داعمة ومناهضة لمشاريع الهيمنة على المنطقة. وسيكون لهذا المؤتمر رافد في الخارج يعقد في 23 أيلول، في حال منعته السلطة أو لم يستطع البعض المجيء. سيوضح هذا الاجتماع خريطة طريق حقيقيّة لتيار وطني ديموقراطي سوري، ويشهد بروز تآلف بين العديد من القوى والشخصيات في سوريا، داخل البلد وخارجه، مختلفة التوجّهات ولكن متوافقة على الأسس. وأعتقد أن بعض الخلافات السابقة ستزول في سياق التحضير له أو أثناء انعقاده، في سبيل الهدف الأسمى وهو تحقيق مطالب الانتفاضة في سوريا سلمياً، وبما يصون المواطن والوطن سويّة.

• ما رأيك بمحاولة تشكيل المجلس الوطني الانتقالي؟

– أنا مثل كثير من السوريين وكذلك ممثلي الحراك الشعبي حذر جداً إزاء خطوة كهذه. بعض مروّجيها يقولون إنّها ضرورية “لتمثيل الحراك الشعبي أمام القوى الخارجية”، وهذه المقولة مغلوطة في أساسها لأنّها تدفع ضمناً في اتجاه المسار الليبي. البعض الآخر يقول إنّ “المعارضة متشتّتة ويجب توحيدها”، وهنا أيضاً يبرز السؤال: على أي أسس، وأي برنامج للمرحلة الانتقالية؟ وما التفويض الذي يمكن أن يعطى لقيادة مجلس كهذا؟ للتفاوض مع السلطة أم مع قوى خارجية؟ الإعلان في أنقرة عن هذا المجلس جاء مفاجأة للجميع وأحرج من وضعت اسماؤهم فيه. الجميع قالوا أنّه لا تجري الأمور هكذا، وشكّكوا في من قام بخطوة الإعلان هذه، في حين قبل الأستاذ برهان غليون مهمّة رئاسة المجلس. وما فهمته أنّه يعمل على تشكيل مجلس آخر. هذا الأمر حسّاس جدّاً، وأنا إنسان حرّ، ولي أفكاري، وأناهض سلطة ما فوق الدولة في سوريا قبل الانتفاضة-الثورة بزمنٍ طويل، ولا مشكلة لي مع أيّ كان إلاّ مع ما لا يصون المواطن والوطن سويّة، ولا أوقّع على بياض لأحد إن لم تكن الأسس واضحة. أنا لا أحبّ أنّ أسمّي نفسي معارضاً، بل وطنيّ وأدافع منذ البداية من هذا المنطلق عن الحراك الشعبي السوري. ما يهمّني هو خروج سوريا من الأزمة والقتل إلى برّ الأمان، وكذلك مآل الربيع العربي، فهو حدث على مستوى التاريخ الإنساني.

• عمّ يعبرُ وجود أكثر من مبادرة لتشكيل أطر معارضة سورية “انتقالية” في الخارج؟

– كلمة “انتقالية” هي المحورية في هذا السؤال: انتقالية إلى ماذا؟ سوريا تتوجّه نحو التعدديّة الديموقراطية، ومن الطبيعي أن نرى محاولات كي يتجمّع الناس كي يؤطّروا تياراتهم الفكرية أو أحزابهم السياسية المستقبلية، وأن تكون هذه المحاولات متنوّعة. ونحن نشهد الكثير من هذا في الداخل والخارج. في المقابل، من الغريب أن يستعجل البعض تشكيل حكومة انتقالية أو مجلس وطني، يفترض به أن يمثّل جميع الأطياف، قبل أن يوضّح كلّ طيف أفكاره وطروحاته. هذا شيء من العمل السياسي بالمقلوب. صحيح أنّ الحراك الشعبي يعاني، وأنّ هناك مطالبات بالتسريع بالتوحيد، ولكن هل يمكن أن يكون هناك توحيد دون أسس واضحة، دون وثائق تشكّل التزاماً للأطراف حول أكثر النقاط حساسية؟ الكلّ يقول بالتوجّه نحو “دولة ديموقراطية مدنية تعدّدية”، ولكن هذا برأيي شعار فضفاض. وكنت في الندوة الفكرية التي عقدت في الدوحة منذ شهرين قد دعوت للعمل على هذه الأسس والوثائق، للإسراع بتشكيل الائتلافات وتوحيد الجهود. والغريب أنّ كثيرين رفضوا وفضّلوا التفاوض على الأسماء. هذا أيضاً برأيي عمل سياسي بالمقلوب.

التيار المطلوب

• لدينا انتفاضة تنطلق من محركات اقتصادية اجتماعية سياسية، في المقابل لا نرى برنامجا متكاملا واضحا للمعارضة للإجابة على تطلعات الشعب؟

– لا معنى لمطلب توحيد المعارضة خاصّة مع وجود معارضين طائفيين أو انتقاميين أو لهم توجّهات لا تتّفق مع التوجّهات الوطنية للسوريين. والمطلوب هو بروز تياّر سياسي وطني ديموقراطي قوي داعم للحراك الشعبي، يحرص على المواطن والوطن على السواء، ويوضّح برنامجه المتكامل. عناصر هذا التيّار واضحة، ورموزه كأشخاص وكتيارات سياسية متنوّعة واضحون أيضاً. مع أنّ هناك مشكلة هي أنّ القيادات السياسية الشابة للحراك الشعبي لا يمكن وأن تبرز بشكلٍ واضح اليوم، فهي تُقتل وتُسجن وتُعذّب. ان الزمن الاجتماعي للانتفاضة-الثورة في سوريا أسرع من الزمن السياسي. إلاّ أنّ هذا التيار يعمل بجديّة، رغم كل صعوبات القمع، وهناك نقاشات سياسية صاخبة، تستفيد حتّى من دروس تونس ومصر بعد الثورة. والمطلوب وفاءً لشهداء الانتفاضة السورية، من ناحية طرح الأسس ما فوق الدستوريّة للجمهورية السورية الثانية، للحفاظ على المساواة في المواطنة والوطن، ومن ناحية أخرى طرح برنامج واضح المعالم للمرحلة الانتقالية (مثلاً مجلس دستوري أولاً أم انتخابات عامّة؟). وكلّ هذا يحتاج الى وقت، إذ هناك قضايا تحتاج الى نقاش حقيقي لبناء التوافق بين كلّ المكوّنات وللتوجّه حتّى للفئات المتردّدة.

ما يجعل الأمور أصعب هو وجود بعض المعارضين الذين يريدون الوصول إلى تشكيل مجالس أو حتّى حكومات انتقالية، دون الاتفاق على أسس كهذه، ومع ترك الكثير من المشاكل الجوهريّة إلى ما بعد. وكأنّ المشكلة هي مشكلة أشخاص وأفراد، وكأنّه يمكن عقد تحالفات بين تيارات سياسية دون توقيعها على أسس متينة تضع صورة واضحة وآمنة للمستقبل.

المحرك الطائفي

• ما هو الحجم الفعلي للمحرك الفئوي الطائفي والعشائري في الحراك الشعبي؟ وهل من الممكن أن يؤسس لخلل في الوطنية السورية الجديدة الناشئة؟

– الحراك الشعبي ليس طائفيّاً. والأمر واضح في شعاراته وطرق تحرّكه. إلاّ إنّ بعض ما تبثّه الفضائيات الموالية والمناهضة للسلطة على السواء ينفخ في أتون طائفي. صور، أصوات خلفيّة وراء الصور، خطابات لبعض ما يسمّى “المعارضين”. الشعب السوري فعلاً شعب عظيم فهو بعد ستة أشهر من المعاناة والقهر والإذلال والتهييج ما زال يرفض وبشدّة هذا المنحى. هناك تشنّج طائفي أضحى واضحاً، والأهالي يتداعون لحلّه كّلما تفاقم هذا التشنّج وانفجر، لكن ليست هناك مواجهات طائفيّة على مستوى الأحياء أو القرى، كما حدث في لبنان أو العراق.

على العكس، هناك طائفيّة أوضح لدى بعض “الموالاة” و”المعارضة” على السواء، أي على مستوى الشخصيات السياسيّة أو الإعلامية التي تحاول اجتذاب زبائن لها عبر خطاب طائفيّ. وهذا أمرٌ تستمرّ الفضائيات في التعبئة عليه. فمن ناحية “الموالاة” هناك تخويف، بل ترويع، أنّه إذا ما انتصرت الانتفاضة-الثورة في سوريا فسيكون هناك انتقام من بعض الطوائف أو الأقليات. وهدف هذا واضح ورخيص. كما أنّ هناك أفراداً في المعارضة طائفيين وانتقاميين، يدّعون دعم الحراك الشعبي بهذه الدوافع. كمثل الحديث عن أنّ الجيش السوري طائفي، وأنّ الحكم كذلك، وليس حكم عائلة وأجهزة أمن. هدف هذا أيضاً واضح ورخيص. وهناك أيضاً تهييج من  بعض الأفراد على قضايا تثير الفتنة: مثل المطالبة بانفصال الأكراد أو جعل سوريا دولة فيديرالية، أو مثل المطالبة بتطبيق مبادئ الغالبية على الدستور في حين أنّ دستور المواطنة يرسي أساساً المساواة في الحقوق ويحمي هذه المساواة للجميع (“الدين لله والوطن للجميع” هو أحد ثوابت المواطنة السورية)؛ ومفهوم الغالبية هو مفهوم تيار سياسي قابل للتحوّل والتبدّل. ومهما كان الصدى الذي تلقاه خطابات الفتنة هذه المنتشرة على محطات التلفزة،

فإنّ الشعب السوري ما زال يثبت كلّ يوم مدى قوّة وحدته الوطنية.

لهذا لا معنى لمفهوم “توحيد المعارضة” السياسية الذي يطالب به البعض. على العكس يجب تقوية التيار الوطني الذي ينبذ الطائفية والطائفيين على السواء، وينبذ كذلك من يثير الفتنة، ويشدّد على مبادئ المواطنة والوطن معا. لأنّ هذا التيار هو الانعكاس السياسي للحراك الشعبي الواعي للتحديات. راجعوا بيانات التنسيقيات وقارنوها مع خطابات بعض “المعارضين” على التلفزة. الانتفاضة-الثورة في سوريا هي ثورة وطنية سلمية تؤسّس لمواطنة حقيقيّة للجميع.

يكمن الخطر في رفض السلطة المستمرّ للتظاهر السلمي الحاشد وللاعتراف به على أنّه حالة سياسية، وكذلك في دفع بعض المعارضين أناساً للعمل المسلّح، على خلفيّات طائفيّة أو عشائريّة. وبالرغم من أنّ هذه الحالات لا تشكّل سوى استثناءات، إلاّ أنّ الأزمة السياسية المتفاقمة دون مخرج والتهييج الإعلامي القائم قد يدفعان رويداً رويداً كثيرين إلى اليأس وتحوير الانتفاضة-الثورة السورية عن مسارها.

دور النخب

• هل سيكون للعلمانيين والنخب دور وازن في كتابة أي عقد سوري اجتماعي جديد، او ان عمق الإسلام الشعبي بالتحالف مع رؤى خارجية سيكون المقرر واقعيا؟

– حتماً، وبالتعاون أصلاً مع ما يمكن تسميته “الإسلام الشعبي”، الذي هو في الأساس منفتح الرؤيا ومتنوّع الألوان، وكذلك كلّ مكوّنات الشعب السوري. لا خوف على علمانية الدولة – أو مدنيّتها كما يكنّي البعض – لأنّ “الدين لله والوطن للجميع” بات أساساً تاريخياً للتوافق السوري، لا يستطيع أحد القفز عليه. ولا أحد يرغب حتّى في النموذجين اللبناني (الطائفية السياسية) أو العراقي (الطائفية-القومية الفيديرالية). سوريا أقرب للنموذج التركي، الدولة علمانية في أسسها، لكن يمكن لحزب إسلامي-ديموقراطي مثلاً أن يتولّى سدّة الحكم لفترة إذا ما حصل على غالبية الأصوات، إذا احترم أسس الجمهورية، كما في أوروبا أو في تركيا.

الشعب السوري واع وهو يعرف كيف أخذته السلطة رهينة لوجودها، وأنّ هناك قوى خارجية تلعب في ماء عكر. وهو يعرف أنّ ربيعه سيكون مفترق طرق الربيع العربي.

• يؤخذ عليكم كعلمانيين انكم تنقلون صورة مغلوطة عن الواقع حين تقللون من اثر العامل الطائفي في الحراك بتجاهل مخاوف الأقليات تارة، وبالقفز فوق حقيقة ما يمثله الإسلام السياسي لدى المزاج الشعبي تارة أخرى. كيف تجيب ؟

– أوّلاً من المفيد أن نوضح ما المقصود بالعلمانيين. أنا ابن بيئة مسلمة وافتخر بها. ولا يمكن أن أكون ضد الدين أو الأديان. المقصود هو بالضبط الوفاء لأحد مبادئ الاستقلال السوري، أنّ “الدين للّه والوطن للجميع”. أي بشكلٍ أوضح أنّني أختار المواطنة والأخوّة وأرفض تعاليم ابن تيميّة التي تكفّر بل تحلّل دم مذاهب إسلامية أخرى؛ كما أرفض أن تتحوّل النقاشات المذهبيّة إلى صراع سياسي، وحتّى أن يتمّ إرساء الدولة السورية على أسس تعتمد التوازنات الطائفية كقاعدة، كما في لبنان. أنا لا أقول أنّه ليس هناك عامل طائفي وكذلك بعض الأحداث الطائفية التي برزت مع الفوضى التي ظهرت مع المأزق الذي أخذه إلينا قمع السلطة. وأنّ الأمر في منتهى الخطورة لأنّه ليس من ثقافة وأخلاق الشعب السوري.

وبالضبط لأنّني لا أتجاهل المخاوف والمخاطر المتعلّقة بهذا الموضوع، أصرّ وأكرّر أنّه يجب منذ الآن وضع الوثائق فوق الدستورية التي تصون حقّ جميع المواطنين في المساواة والاعتقاد، وأنّه لا يكفي القول بالدولة المدنية فقط، وأنّ الشعار السوري المؤسّس أقوى ولا يمكن التراجع عنه، وأنّه لا يجوز التساهل مع من يدّعي دعم الحراك الشعبي ويبثّ الفتنة المذهبيّة. وللمناسبة أنا أكره مفهوم أقليّة أو أقليّات، هذا مفهوم تخلّصنا منه في سوريا مع الدولة الحديثة بعد الانتهاء من الدولة العثمانية، ومن التدخّلات الأجنبيّة بحجّة الدفاع عن الأقليّات: “المسألة الشرقية”، كما يسمّيها الفرنسيون. المواطنون متساوون في الحريات، بما فيها حرية الاعتقاد، وعلى الدولة صون هذه الحريات، لا قمعها.

من ناحية أخرى، ليس لديّ مشكلة مع الإسلام السياسي، كأن يكون هناك أحزاب في سوريا على شاكلة حزب “العدالة والتنمية في تركيا”، إذا احترمت المبادئ الدستورية. إلاّ أنّي لا أرى أنّ الإسلام السياسي هو حقّاً المزاج الشعبي في البلاد. بل يرتبط هذا المزاج الشعبي بقيم وبشخصيّات فكرية دينيّة؛ وحتماً سيغضب عندما يجتاح الأمن مسجداً أو يهين شيخاً قديراً ومحترماً مثل الشيخ الرفاعي، وفوق ذلك في ليلة القدر بالضبط. هذه الممارسات المشينة للسلطة والأمن غير مقبولة تحت أي نظامٍ كان، كما غير مقبول أن تهان كنيسة أو حسينيّة أو أي شخصية دينية مهما كان مذهبها.

الشباب

• انت ممن يعتبرون أن الشباب هم جوهر الثورة اليوم  وليس اصحاب الاجندات الخارجية او الغايات الطائفية، ثمة من يسألك ما الضمانة الا ينقضّ هؤلاء على انجاز الشباب؟

– الضمانة هي أن يوحّد الشباب جهودهم، ويعملوا على الحفاظ على حراكهم بالرغم من القمع، ويستمرّوا، كما يفعلون اليوم، في توضيح مواقفهم بالنسبة للحراك السياسي القائم. لم يأخذ الأمر اكثر من بضع ساعات حتّى ظهر انتقاد التنسيقيات لما أعلن في أنقرة. وهذا أمر لافت وجيّد. والضمانة هي أن يقوى التيار الوطني الديموقراطي في الداخل كي يكون حاملاً سياسياً فاعلاً للمرحلة المقبلة. والمشكلة أنّ الإعلام يضخّم ما يفعله الخارج ويجعله هو حامل التغيير، وأنّ القادة الشباب لا يستطيعون الظهور إعلامياً بقوّة، وأنّ بعض مكوّنات الحراك قد تضعف إرادتها أمام القمع الوحشي وتتعلّق بقشّة تمدّ لها من الخارج.

تجنب الحرب

• هل هناك خريطة طريق واقعية لتجنب الحرب الأهلية ونجاح أهداف الحراك في آن واحد؟

– هذا هو مضمون العمل السياسي الذي يجري تحضيرا لاجتماع منتصف أيلول. وأنا أنوي حضوره والمساهمة في إنجاحه. وأتمنّى أن يأتي الكثيرون مثلي من أنصاره الذين يقيمون في الخارج، رغم المخاطر، “سعرنا بسعر غيرنا”.

ديانا سكيني

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى