صفحات الحوار

الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعًا: ليس لديّ حلمٌ أميركي

 

 

غيّوم ميسو، حسب آخر الأرقام، هو الكاتب المفضّل لدى الفرنسيين بلا منازع، لأنه ما يزال حتّى الآن يتربّع على عرش الكتب الأكثر مبيعًا في فرنسا للعام السّابع على التوالي. كما أنّه الروائي الوحيد، خلال سنة 2017، الذي بيعت من إحدى رواياته مليون ونصف مليون نسخة، هي رواية “شقّة في باريس”، بينما تبلغ مبيعات رواياته عبر العالم ما يزيد عن 30 مليون نسخة، وكلّها مترجمة إلى عشرات اللغات العالمية. وُلد هذا الكاتب الظاهرة عام 1974 بمدينة “أنتيب” الفرنسية، وبدأ الكتابة في سنّ التاسعة عشرة حين كان طالبًا. وبسبب عشقه لأميركا، قام بزيارة لمدينة نيويورك وأقام فيها لبضعة أشهر، حيث اشتغل هناك بائعًا للآيس كريم. وحين عاد إلى فرنسا، درس العلوم الاقتصادية في جامعة نيس، وبعد تخرجه عمل أستاذًا للاقتصاد من 1999 إلى 2003، قبل أن يتفرّغ نهائيًا للكتابة.

نشر غيّوم ميسو روايته الأولى “سكيدمارينك” سنة 2001، ولم تعرف نجاحًا يُذكر. لكن روايته الثانية “وبعد…” ستحقّق نجاحًا كبيرًا، وتمّ تحويلها إلى فيلم بنفس العنوان سنة 2009. ثمّ تتالت الروايات الناجحة، لتصل اليوم إلى 16 رواية، آخرها رواية “الفتاة واللّيل”، الصادرة مؤخّرًا عن دار كلامان- ليفي في باريس، الّتي تدور أحداثها لأوّل مرّة في الريفييرا الفرنسية، بعد أن كانت أغلب رواياته تتّخذ من أميركا فضاءات لها.

كيف توّلدت فكرة هذه الرواية الجديدة؟ وكيف كان مسار ميسو الروائي؟ وما هي طقوسه في الكتابة ؟ ولماذا انتقل من ناشره القديم إلى ناشر جديد؟ كلّ هذه الأسئلة يجيب عنها في آخر حوارٍ له نُشر قبل أيّام:

(*) هل وضعية الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعًا مُحفّزة بالنسبة إليك؟

– بصراحة، في حياتي اليومية، لا أفكّر إطلاقًا في الأمر. إذا فكرتُ فيه سأُصاب بالشلَل. على العكس، أُلزم نفسي في كلّ مرّة بأن أكون في تلك الحالة الذهنية الّتي كتبتُ بها روايتي الأولى، حيث لم أكن واثقًا حتّى من أنها ستُنشر. لكن، إذا تراجعتُ يومًا عن هذه الوضعية، سوف لن يكون ذلك مأساويًا. المأساوي، هو أن تفقد عملك، أو أن يُصاب طفلك بمرض ما… وعلى كلّ حال، كانت مغامرتي ستبدو مثيرة.

(*) أحقًّا لم تساهم وسائل الإعلام في هذه المغامرة المدهشة؟

– صحيح أنّ المشافهة هي الّتي ساعدتني في البداية، خصوصًا عند صدور روايتي الثانية “وبعد…” في طبعة الجيب. بعدها صار القرّاء يتابعون ما أنشر، بغضّ النظر عن نوع الروايات الّتي أكتب، سواء كانت روايات تشويق مطبوعة بأحداث خارقة للطبيعة، كما في الماضي، أو روايات إثارة حميمية كما هو الحال اليوم. لكنّي قمتُ بتفكيك فكرة الكاتب الملعون هذه. فمنذ أربع أو خمس سنوات، صارت رواياتي تلقى استحسانًا من الصحافة، ولم يعد مجال للتذمر بالنسبة إليّ.

ليس هناك توجّه عالمي موحّد في القراءة

(*) أن تكون مترجَمًا إلى 40 لغة، نجمًا في كوريا الجنوبية، في إيطاليا وألمانيا، هل هذا يتطلّب منك الكثير من السفر؟

– كنتُ أقوم بذلك، نعم، مرّات عديدة، قبل أن أُنجب أطفالًا. اليوم، ببساطة، أكرّس وقتي حصريًا لعائلتي وللكتابة. لكن، يجب أن نرى الأمر بشكلٍ نسبيّ. إذا كانت ثمّة دول كثيرة تقوم بالدعاية لرواياتي، فهناك دول أخرى، مثل إسبانيا مثلًا، لم ينجح معها الأمر. ولا نعرف لماذا. من جهة ثانية، وبشكلٍ عام، القرّاء في أوروبا يفضّلون روايات التشويق، بينما في آسيا يُقبلون أكثر على روايات الظواهر الخارقة. واختصارًا، ليس هناك توجّه عالمي موحّد في القراءة، وهذا يُطمئن الكاتب.

(*) أين تكتب رواياتك؟

– أستطيع أن أكتب في أيّ مكان، ما عدا بيتي. هناك أخصّص وقتي 100% لأسرتي. لهذا أشتغل هنا، في هذه الشقة، أو كما ترين، في مكتبي  بدار نشر كالمان- ليفي، أو أيضًا في مقهى، مثل برناد ويبر. يقول ستيفن كينغ: “لكي تكتب، يجب أن تُغلق الباب”. من جهتي، يكفي أن أدخل في ما يمكن أن نسمّيه أرض الخيال المحرّمة. وميزة التّواجد في مكان يعجّ بالحركة، أنّه يكسر العزلة الثّقيلة للكاتب. وكما يقول مثلي الأعلى وصديقي جون- كريستوف غرونجي: “في النّهاية، عملُنا هو أن نبقى عشر ساعات يوميًا بلباس البيت أمام شاشة ونتناول بيتزا عند الظهيرة”. ليس في الأمر سحرًا.

(*) كيف قمتَ بذلك حين كنتَ تعمل أستاذا للاقتصاد؟

– كنتُ أبدأ الكتابة في الساعة الثامنة مساء، بعد أن أكون قد أنهيت تصحيحاتي، وأظلّ كذلك حتّى الثالثة صباحًا. ثمّ أنهض في السابعة صباحًا من أجل الذهاب لإلقاء الدّروس. كنتُ أعمل بهذه الطريقة بالنسبة لرواياتي الستّ الأولى. لقد كان ذلك عنيفًا للغاية، مبهجًا، لكنّه لا يتوافق مع الحياة الزوجية. في عام 2007، طلبتُ تفرّغًا من العمل وانضممتُ إلى زوجتي في باريس. وخلال عامين كنتُ مثل مهووس حقيقي، أذهبُ إلى مدينة “أنتيب” المتوسّطية، لأشتغل فوق طاولتي القديمة. هذا كان يمنحني ثقة، مثل غرونجي الّذي عاد إلى آلته الكاتبة التي أنجز عليها روايته “الأنهار الأرجوانية”. في أحد الأيام، تحرّرتُ فجأة من كلّ قيودي! وللغرابة، لم أعد أشتغل كثيرًا حتّى لو توفّر لديّ مزيد من الوقت، ولم أعد أكتب روايتين كلَّ عام.

(*) أصلًا كتاب واحد في العام إنجازٌ كبير. ألم تتذمّر يومًا من هذا الإيقاع الجهنمي؟

– لا، فأنا المسؤول الوحيد عن ذلك. إنّها حياتي. منذ سنّ الخامسة عشرة، حلمتُ أن أكون روائيًا. أحبّ قيمة العمل، أحبّ أن يراني ابني في الصباح متأهّبًا للخروج إلى العمل، وبشكل خاصّ، أنا محاط بأناس لديهم وظائف “حقيقيّة”. ولكي أكون صريحًا معك، كنتُ قد خطّطت ألا أنشر كتابًا هذا العام. لديّ طفلة في عمر ثلاثة أشهر ونصف الشهر، وأفكّر أن أتفرّغ لرعايتها. لكن ما حدث هو أنني رغبتُ في إنهاء هذه الحكاية بشكل جيّد، وكنت خلال شتاء هذا العام الرهيب لا أطيق صبرًا على مغادرة شاشة حاسوبي.

(*) لقد عشتَ فترة متقلّبة جدًّا خلال الأشهر الماضية، بين زوجتك الحامل وانتقالك من دار النشر “إكسو” إلى دار “كلامان- ليفي”، هل أثّر ذلك سلبًا على الكتابة؟

– انتقال؟ يجب الحذر من هذه الكلمة، نحن لسنا في مجال كرة القدم. لا، كانت بالأحرى سنة غنيّة بالإبداع. انتظارُ ولادة طفلٍ جديد يمنح طاقة للمرء. وبالمثل، يحصل ذلك عند تغيير الناشر، الّذي يبقى في المقام الأوّل تعبيرًا عن الحرية. كنتُ في حاجة لتعريض نفسي للخطر، للخروج من منطقة الراحة، والعثور على القوّة. ثمّ إنّني كنت أرغب بشدّة في العمل مع ناشرتي الأولى، كارولين ليبي، الّتي التحقت بكلامان- ليفي منذ عام، وهي دار نشر يديرها أيضًا فيليب روبيني، وهو صديق لي منذ خمسة عشر عامًا. إنّها دار نشر تاريخية ومرموقة، نشرت لفلوبير، أناتول فرانس، “الفرسان الثلاثة” لدوما، باتريسيا هيغسميث، وصولًا إلى ميشيل كونلي ودوناتو كاريسي، وغيرهم من الكتّاب المحبّبين إليّ.

(*) لكن، أليست العودة إلى ناشرة معروفة ومدير صديق هي استمرار للبقاء في منطقة الراحة؟

– صحيح، أنا لم أقفز من النافذة، لكن يتعلّق الأمر أيضًا بتغيير، بسلسلةٍ جديدة من الكتب، مع أشخاص أحبّهم بالتأكيد. المسألة إنسانية جدًّا، في النهاية. لم أرغب في قطع الحبل مع برناد فيكسو، ناشري الأوّل، وإنّما كانت لديّ هذه الرغبة فقط، وكان ذلك بديهيًّا، حيث كانت كلّ الإشارات الضّوئية خضراء للبدء في مغامرة جديدة.

(*) أليس المال عصّب الحرب؟ يقال بأنّ الأمر يتعلّق بإعادة تقييم وزيادة في حقوق المؤلف…؟

– في هذه المرحلة من مسيرتي المهنية، لم يعد لحقوق المؤلف أهمّية كبرى. وفي حياتي، لم يكن المال أبدًا محرّكًا لاختياراتي، واليوم بشكل أقلّ عن السابق. حينما كنتُ طالبًا، نجحت في عدد من المباريات الإدارية، ومنها مفتّش الخزينة، وكانت أكثر أهمية من التعليم الثانوي، لكنّي، كما ترين، أردتُ أن أكون أستاذًا للاقتصاد. واليوم ما يرشد طريقي هو أن أكون سعيدًا في عملي، ولهذا كان لا بدّ من الرجوع إلى ناشرتي الأولى. لا شيء آخر.

(*) ثمةّ وباء حقيقي ينتشر بالنسبة لكلمة “فتاة” في عناوين روايات الإثارة اليوم. إضافة إلى رواية مارك ليفي القادمة “فتاة مثلها”، لدينا “فتاة القطار”، “فتاة في الغابة”، “فتاة تحت الجليد”…وبتوقيعك “فتاة من ورق”، و”فتاة بروكلين”، وها هي رواية أخيرة بعنوان “الفتاة والليل”!؟

– أعرف ذلك وقد كنتُ متردّدًا في اختياره، لكنّه فرض نفسه عليّ بوضوح منذ البداية.  إنّه يحيل على مقطوعة “الفتاة والموت” لشوبير والشاعر الألماني ماثياس كلاوديوس. هذه الأسطورة الشعرية، الموسيقية والأدبية، تناسب تمامًا شخصية روايتي “فينكا”، الّتي حامت من حولها فكرة الموت لدرجة لم أستطع التخلّي عنها لأسباب خاطئة.

رواية بألوان البحر الأبيض المتوسط

(*) كيف تولّدت فكرة رواية “الفتاة والليل”؟

– منذ عشر سنوات وأنا أرغب في كتابة رواية جديدة عن الحرم الجامعي، لأنّني أحبّ كثيرًا هذا الفضاء عند دافيد لودج، دونا تارت أو لاورا كاسيسكش. اخترتُ أن يكون في هارفارد، في بيركلي، ثم في ولاية مين، لكن كلّ هذا لم ينجح. أيّ شرعية لديّ للقيام بذلك؟ وما الّذي يمكن أن أضيفه؟ ثمّ، في الربيع الماضي، جاءتني فجأةً فكرة مبتكرة وفريدة، وهي أن هذه الرواية تحتاج إلى ألوان البحر الأبيض المتوسط، الشّمس، الريح، أشجار الصنوبر والطرقات الساحلية. ولقد استلهمتُ ذلك من مهنتي كأستاذ حينما كنتُ أشتغل في القرية العلمية صوفيا أنتيبوليس، وهي بمثابة وادي سيليكون فرنسي صغير. لقد خلقتُ منها نوعًا من المسرح القديم، مكانًا مفتوحًا على كلّ الأخطار، على غرار رواية “توين بيكس في البلاد” لبانيول. هناك في تلك القرية الصغيرة، حيث كلّ واحد من سكّانها يخفي أسرارًا. وحيث لا أحد بريء تمامًا، ولا أحد شرّير على حدّ سواء.

(*) إنّها المرّة الأولى الّتي تختار فيها الريفييرا الفرنسية ديكورًا لروايتك، علمًا أنّها مسقط رأسك؟

– نعم. منذ 2005، يُطالبني سكّان المنطقة: “متى ستكتب رواية تقع أحداثها هنا؟”. كنتُ أرغب في ذلك بشدّة، لكنّي كنت غير قادر على ذلك تمامًا. حين كنتُ أزرع قصصي في تربة نيويورك كان ذلك يحميني ويُحرّر مخيلتي، مثل جويل ديكر، الّذي لا يستطيع كتابة رواية تقع أحداثها في جنيف خوفًا من أن تُفسّر على أنّها نوعٌ من التخييل الذاتي. في نهاية المطاف، لقد كسرتُ هذا الحاجز.

(*) يقع جزء من الأحداث في سنة 1992، ويتخلّل نصّك كثير من المراجع الموسيقية، السينمائية، الأدبية والكروية لسنوات التسعينيات…؟

– كنتُ في سنّ الثامنة عشرة سنة 1992. وتلك الحقبة كانت تعرف اضطرابًا ثقافيًا كبيرًا. لم تكن قد ظهرت بعد الوسائل الرقمية، لذلك كنّا نستهلك بإفراط، كان مجرّد شراء قرص موسيقي مدمج يعدّ استثمارًا، ننصتُ إليه مرارًا وتكرارًا. ثمّ لا يمكن أن تكون في سن الثامنة عشرة ولا تناصر قلبًا وقالبًا فريق أولمبيك مارسيليا. كما أنّ كأس أوربا للأمم 1993 بقيت ذكرى رائعة. لا يمكن لأحد أن يقتلعها منّا.

(*) إنّها مراجع كثيرة لم يكن بإمكانك استخدامها لو اخترت أن تُموقع الأحداث في الولايات المتحدة؟

– بالضّبط، والناشرون الأجانب مهتمّون جدًّا بمثل هذه الحكايات الّتي تجري في الريفييرا جنوب البلاد، المتأصّلة في الثقافة الفرنسية. لقد بيعت فعلًا حقوق الرواية في اثنتي عشر دولة، منها انجلترا والولايات المتحدة، حيث حصل عليها هناك الناشر ليتل براون.

ليس لديّ حلمٌ أميركي

(*) ليتل براون هو فرع دار هاشيت للنشر، وهو ناشرك الجديد بعد انتقالك إلى كلامان- ليفي. أليس هذا أحد دوافعك لتغيير الناشر؟

– لا، هذا لم يكن مهمًّا إلى تلك الدرجة، أنا ليس لديّ حلمٌ أميركي. أحبّ نيويورك، لكن عكس ما يظنّ البعض، لست مفتونًا بهذا البلد. إنّها حبّة كرز فوق الكعكة، وهذا كلّ ما في الأمر.

(*) قلتَ مرّة إنّ لديك نيّة في تحويل روايتك “فتاة من ورق” إلى مسرحية؟

نعم، لقد تناقشتُ مع زوجتي كثيرًا في هذا الأمر، أردت أن أتناول موضوع الإبداع والكتابة من خلال حوارات أكثر خفّة ممّا في الرواية. لقد مرّت ثلاث سنوات على ذلك، واستغرقتُ وقتًا طويلًا حتّى أعثر على النبرة المناسبة، وما زلتُ مستمرًّا في الاشتغال. في الوقت نفسه، أفكّر في كتابة سلسلة تلفزيونية، مع صديقي المنتج سيدني غالوند، الّذي سبق أن حوّل روايات هارلان كوبن، دوغلاس كيندي، تيم ويلوكس. لدينا مشاريع حول رواية “نداء الملاك”، وحول روايتي الأخيرة الّتي نالت إعجابه كثيرًا. إذا لم أحافظ في السنوات المقبلة على وتيرة إصدار كتاب كلّ عام، سوف أقوم بذلك. لكن المهمّ أنك مع الروايات تكون السيّد الوحيد، بينما في السينما ثمّة إكراهات عديدة، وهذا مُرهق…

*أجرت الحوار ماريان بايو، ونُشر يوم 24 أبريل/ نيسان 2018 في مجلة “إكسبرس” الفرنسية

المترجم: نجيب مبارك

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى