صفحات مميزةنائلة منصور

الكافور البعثي: مثال التعليم العالي


نائلة منصور

علمت مؤخراً وبالصدفة أن قناة «فتافيت»، وهي، لغير العارف، قناة شرق أوسطية لفنون الطبخ، تكاد تكون الأكثر مشاهدةً في الشرق الأوسط. ولن أكثر هنا من إشارات التعجب، فأنا لا أستهجن استعلاءً، بل أتابعها بود من وقت لآخر. ولكنني أتساءل من باب الفضول: لماذا؟ ألأن الشرق أوسطيين نهمون وأبيقوريون، على كل ضرس لون؟ ربما، تفسير لا يجانب الواقع كثيراً ولكنه جزئي. هناك تفسيرات أخرى تبقى هي أيضاً جزئية. فقد يقول الاجتماعيون إن هذه القناة تلقي المشاهد وقبله المشاهدة، بعيداً عن واقعهما، في محاكاة محكمة لرغد العيش ووفرته، تذهب من الشعار المباشر «الحياة حلوة» إلى المطابخ الرحبة بألوان الباستيل إلى أجساد بعض المقدمات من الفرع «الصحي» للطبخ، إلى بيت مارتا ستيورات الخيالي، وكلها إشارات تشي بنمط حياة سعيدة وانسجام عائلي كبير… خاصة حين تكون الأطباق المحضرة مليئة بالزنجبيل.

ولكنني أعتقد أن الأساس في سر نجاح هذه القناة يذهب إلى أبعد من ذلك. السر هو أنها تسلّم للمشاهد زمام مبادرته الخاصة ليجد معها أنه قادر على «إنجاز» مهمة ما من الألف إلى الياء. السر بسيط ولكنه أعيى اختصاصيي التربية، وخاصة اختصاصيي «التحفيز والرغبة»، حتى استطاعوا أن يصوغوه. السر في الحافز والرغبة والمثابرة دون كلل، ولاحقاً الإنجاز والإبداع، باختصار الحياة غير النباتية، هي ببساطة أن يعرف المرء «كيف» يمسك بزمام مبادرته، أن يكون ما يواجهه يحمل تحدياً، ولكن دون استحالة.

هنا، لا أود الحديث عن التربية أو عن قنوات فنون الطبخ بقدر ما أود توصيف الاستحالة كنقيض لحالة «فتافيت»، حيث لا يستطيع المرء، بأي حال من الأحوال، تملّك أدواته ومبادرته. الاستحالة، ليس كمعقد نفسي أساسي في ظل نظام البعث فحسب، استبطنه الإنسان السوري في كل المجالات، ولكن كتفاصيل تندرج في المعاش اليومي وكـ«شيفرات» مضمّنة اصطلح الناس عليها وتعودوها حتى باتت شبه بيولوجية. وسأتناول، كمثال، التعليم العالي، لا لشيء، إلا لأنني غرقت بعوالمه «البعثية»، بدايةً كطالبةً، ثم كمدرّسة لمدة سبع سنوات، ولأنني أؤمن أن أي «اجتثاث» للبعث من المؤسسات الوطنية، بعد سقوط النظام الحالي، لن يكون، على الأقل بدايةً، إلا صورياً، لأن الذهنية البعثية استحكمت بالمؤسسات وناسها، وأن أحد أنجع الطرق لتغيير الذهنية هو تفكيك رموزها وإشاراتها المضمنة، كما عايشها الأفراد عبر التوصيف والشهادات.

الكثيرون من البعيدين عن السياق الجامعي، يعتقدون أن فروع الحزب الموجودة ضمن الحرم الجامعي، تتحكم بالعملية التدريسية مباشرة وبشكل فج عبر إملاء القرارات والتحكم بصناعتها أو التحكم بالمحتويات الدرسية. هذا النوع من التأثير هو الأبسط على الاجتثاث بعد سقوط النظام الأسدي في سورية. أما الأخطر والأصعب تفكيكا فهو تمثل الكوادر الجامعية، حتى غير البعثية منها، وهم، على فكرة، موجودون على عكس ما يتم تداوله بأن كل موظفي الجامعات وأعضاء الهيئة التدريسية هم بعثيون. أقول إن الأصعب هو تفكيك ما يمثَّله أولئك من سلوكيات وردود أفعال وطرائق مسبقة الصنع ومقولبة ضمن العقلية البعثية. فاجتثاث الصورة النمطية لبعثي الثمانينات، صاحب اللغة الخشبية «الممانعة» أسهل بكثير من اجتثاث البعث من عقل شاب، حليق الشاربين، ولا يرتدي بدلة سفاري بالضرورة، ومواكِب لكل التحديثات الالكترونية وغير الالكترونية. وهذا ما أود التطرق إليه.

المؤسسة التعليمية والطالب

منذ أربعة عقود، كانت السياسة المعلنة في التعليم العالي، وما زالت، هي دمقرطة التعليم وسياسة الاستيعاب الجامعي على نطاق واسع، ولكن الحقيقة هي أن التعليم ليس ديمقراطياً على الإطلاق. الحصول على الشهادة متاح للجميع، ولكن الشهادة بالمحتوى الدراسي الموافق لا تؤهل لأي عمل، على الأقل على حد علمي في مجال العلوم الإنسانية. كان الهدف الأساسي على طول العقود الماضية، وخاصة في العقد الأخير، هو افتتاح واستحداث الكليات الجديدة حتى تضاف إلى مسيرة «التطوير والتحديث»، ولكن دون تأمين الكادر المطلوب. استحدثت كذلك هيئات مراقبة الجودة في كل جامعات البلد، مهمتها مراقبة وتطبيق معايير الجودة العالمية على العملية التعليمية، طبعاً دون أي نوع من المنشورات يعمّم بشفافية على كل المعنيين. المسألة ببساطة هي كالتالي: ما تطلبه السياسات العامة من المؤسسات، وبالتالي ما تطلبه المؤسسات التعليمية من كوادرها ومن هيئاتها على مستوى الجودة غير قابل للتحقيق ضمن الشروط الموضوعية المؤمّنة، إذ لا يمكن أن نتحدث عن الجودة والمعيار الأسهل تطبيقاً ضمن معايير الجودة، وهو نسبة عدد المدرسين للطلاب، غير مؤمن. هذا هو «الكود» المبطن للبعث في مجال التعليم وعلى كافة المستويات والعلاقات بين كل عناصر العملية التعليمية: «عليك أن تفعل هذا، ولكن هذا مستحيل موضوعياً»، ما ينتج عن ذلك أن الكل يصبح مخالفاً للقانون المعياري الملزم، والكل متفق ضمنياً على أنه مخالف وأن الآخر مخالف. يبقى ذلك مسكوتا عنه، يتحكم به صاحب السلطة الرمزية أو الفعلية الأعلى لحين الحاجة، حينئذ يبرز صاحب السلطة البطاقة الحمراء لصاحب المخالفة، لابتزازه أو التمكن منه لسبب ما ويقول له، رمزياً أيضاً: «آوت»!

المؤسسة التعليمية تطلب من الطالب، دون أي وثيقة شفافة معلنة وواضحة، أن يتمكن من مجموعة من المعارف تؤهله لعمل ما، غير موصوف في أي مكان، ولكنها في الحقيقة لا تتمكن من هذه المهمة، بسبب المعطيات الموجودة. الطالب يعرف ذلك تمام المعرفة، وخاصة حين يحاول دخول سوق العمل مما يؤدي إلى نشوء علاقة انحرافية غير صحية بين الطرفين. الطالب يحاول بكل الطرق أن يحصل على الشهادة كجواز مرور اجتماعي، دون بذل الحد الأدنى من الجهد ودون أدنى شعور بالانتماء إلى هذه المؤسسة، والمؤسسة متواطئة معه ضمنياً فيما يعتقده، ولا تبذل أي جهد في إضفاء مصداقية ما على ما تمنحه من معارف تجاه الجهات الأخرى. بكل الأحوال ذلك غير ممكن. ديمقراطية التعليم تصبح بذلك محض نفاق اجتماعي، لأن المؤهَّل لدخول سوق العمل، هو الأكثر قدرة على الوصول إلى مصادر معرفة أخرى، وهو المنتمي إلى شبكة اجتماعية وعائلية داعمة وقادرة على تأمين هذه المصادر. هو الأوفر حظاً بكل الأحوال، قبل الجامعة وبعدها. الجامعة، بذلك، لم تعد فرصة ارتقاء اجتماعي للأقل حظوظاً. على سبيل المثال لا الحصر، أحد أهم معايير التوظيف في القطاع الخاص هو التمكن من لغة أجنبية تمكناً جيداً. التعليم العام والتعليم الجامعي لا يؤمنان أي شرط لتعلم اللغات الأجنبية، وللمفارقة حتى في أقسام اللغة الأجنبية.

حين لا تتمكن المؤسسة من «الاستيعاب» تلجأ إلى بيع أوهام ديمقراطية التعليم بافتتاح التعليم الموازي والتعليم المفتوح وترخيص التعليم الخاص، وهي كلها أشكال من التعليم المدفوع قد يوحي أن الجودة أعلى، ولكن المشكلة أن البنية هي نفسها والكادر التدريسي هو نفسه كماً ونوعاً، يمزقونه ويثقلونه مما يؤدي إلى انخفاض جودة التعليم. الجامعة في سوريا هي مؤسسة، ككل المؤسسات الحكومية تتقن فرض معادلة الاستحالة على جميع العاملين والمعنيين لدرجة ينفصلون فيها عن الواقع، لدرجة تبدت فداحتها خلال السنة الماضية حين كانت الإدارة في «جامعة البعث» في مدينة حمص تصر على إنكار «الأزمة» وتجبر عامليها على الالتزام بالدوام في أقسى الظروف الأمنية وتهددهم في بعض الأحوال بالعقوبات.

في اجتماع علمي على أعلى مستوى في جامعة البعث في حمص، في خريف 2011، استنكر رئيس الاجتماع على الحاضرين والذين حملوا دمهم على كفهم وأتوا لحضور الاجتماع تحت الرصاص خوفاً من العقوبات ومن اتهامهم بالعصيان المدني، استنكر عليهم تقاعسهم عن البحث العلمي الجدّي، وحثّهم على نشر أبحاث في مجلات محكمة أجنبية، وقال لهم أنه «من الواجب أن نواكب عجلة التطور في زمننا، ففي البلدان المتطورة أصبحنا نصفق فيعمل الشوفاج، وعلينا أن نسرع حتى نصل إلى هذه المرحلة». ومن البديهي أنه لم يأت على ذكر «الأزمة»، حتى لا نقول «ثورة». هذا السلوك الانحرافي المريض في فرض واجبات لا يمكن الالتزام بها يتظاهر في كل تفصيل وفي كل علاقة على الإطلاق في عالم التعليم العالي المريض. اللغة الخشبية القومية التي كانت تعاد كرتها على أسماع الجميع في المناسبات الوطنية وغير الوطنية هي التجليّ الأعظم لحالة الاغتراب السورية تلك، تشبه إلى حد كبير الحالة التي يشعر بها السوري حين يسمع بشار الجعفري، المندوب السوري في الأمم المتحدة، يقتبس من شعر نزار قباني وهو على ضفاف بحيرات الدماء السورية، ذلك الاغتراب الذي التقطته قناة «العربية» دون الكثير من الجدارة.

عضو الهيئة التدريسية

معظم أعضاء الهيئة التدريسية هم من ملاك وزارة التعليم العالي، أي في معظمهم ممن أتموا دراساتهم العليا في الخارج كموفدين. طبعاً الإيفاد إلى الخارج، وهو من أهم البنود المكلفة في ميزانية التعليم العالي، قد يخضع في كثير من الأحيان إلى معايير الواسطة والفساد الشائع، ولكنه يشمل كذلك المتفوقين وأوائل الدفعات الجامعية. يرجع الموفد من دراسته بمنظومة نرجسية مرتفعة بعد تجربة علمية معقولة (وهنا أتحدث عن الحالات المثلى من الموفدين، المنفتحين نوعاً ما)، ليخضع لطقوس الولوج إلى ملكوت الجامعات السورية، بدءاً من معاملات التعيين، إلى تجربة التدريس، الأقرب إلى تجربة مناجم الفحم.

منذ اللحظات الأولى للتعيين يتفق القائمون على الجهات المختصة على التعيين، ضمنياً، على ضرورة «تكسير مآديف» المعيد العائد من الإيفاد والإيحاء له أن دخول الحمام ليس مثل خروجه. الشيفرة التي على المعيد المسكين إتقانها هي تقليص أي لغة تعبيرية عن نفسه ومشاريعه وآماله ورؤيته للعالم، لتقتصر لغته على اللغة الإدارية دون أي طابع شخصي، وإن وجدت تلك البصمة الشخصية، ينبغي أن تكون بصمة التشكي والمسكنة حتى لا يوحي المعيد أنه متمكن من شيء، عليه أن يبرز قلقه الهائل على وضع تعيينه، سهاد الليالي من إمكانية أن يكون معتمد الرواتب قد «زوغل» في حساب الأقدمية… باختصار، لا ينبغي على المعيد أن يظهر أنه منعتق من هذه الهموم وأنه يتطلع لأكثر من ذلك وإلاّ…

أذكر أنه حين عودتي من الإيفاد أبرزتُ وثيقة تثبت أن مركز الأبحاث الوطنية الفرنسية قد دفع لي تكاليف رحلة مسبقة، لأعود إلى فرنسا في مهمة علمية في وقت ما من تلك السنة، أبرزت تلك الوثيقة كي يُسمح لي أن أجدد جواز سفري… آه، نسيت أن أخبركم أن المعيد يُمنع من السفر خلال الفترة الأولى من تعيينه إلى حين، حتى يتكلس ويفقد القدرة على الحركة. حينها قال لي الوكيل العلمي في كليتي، حرفياً: «هناك حلان، إما أن تنتحري أو تهاجري، ولا يمكن أن نمنحك هذه الورقة…». هنا يتساءل المعيد أول تساؤلاته (أو آخرها): ما هذه المفارقة؟ الدولة تكلفت على تحصيلي العلمي الكثير الكثير، ولكنها تلفظني نفسياً بعد عودتي؟ إنها نفسها، معادلة الحيرة والاستحالة.

يوكل إلى المدرس نصاب تدريسي، هو نظرياً لا يتجاوز الأربع عشرة ساعة، ولكنه عملياً يتجاوزه لنقص الكادر التدريسي، ومتابعة وزارة التعليم العالي لافتتاح فروع وكليات جديدة، في مسيرتها التحديثية، دون توفر الحد الأدنى من الكوادر. يجد عضو الهيئة التدريسية نفسه بين ليلة وضحاها مؤدي أكروبات في فنون «التلحيق»، حيث لا مجال لأن يفكر، أمام هذا الكم من العمل. يتمرن عبر سنوات مهنته الطويلة على أن يفرّغ كل فعل جامعي من معناه الأول ليصبح مجرد محاكاة لجامعة متخيلة افتراضية. فقد يصل النصاب التدريسي للمدرس 20 ساعة، يُضاف إليها الساعات التي يُجبر عليها أحياناً في التعليم المفتوح، لتصل مجمل ساعاته إلى 30 ساعة، النتيجة هي أن المدرّس يختصر هذا النصاب فتصبح الساعة النظرية، نصف ساعة فعلية. الأعمال الامتحانية هي الطامة الكبرى في حياة المدرس، فهو يُجبر، وعندما أقول يُجبر فهو التعبير الوحيد الملطف، فقد يُجبر بالتهديد، كي يراقب حوالي 24 ساعة في كل فصل، قبل أن يخضع لتمارين يوغا مكثفة في فنون التصحيح، والتصحيح هو تمرين محاكاة، يتخيل معه المدرس أنه يدّرس. عملياً هو لم يدرس ما يكفي من المعارف ليمتحن طلابه، فكمية ما درّسه لا تتجاوز الشهرين، ولكنه مع ذلك يصحح أوراق امتحانية قد تصل إلى 3000 ورقة في بعض الكليات والأقسام، كقسم اللغة العربية أو كلية الحقوق. النتيجة أنه لا ولن يستطيع أن يصحح بنزاهة، هذا إن كان أصلا من النزيهين الذين لا يقبلون الرشوة من الطلاب. النفاق والكذب والتستر على الحقيقة المرّة يصبح مُعاشا يوميا. أما نظام التقييم والقياس والامتحان فهو كارثة في حق كل تربوي ذي ضمير. الامتحان في الكليات السورية لا يسبر أي شيء، بل يوضع لهدفين اثنين، تكسير الطالب وإراحة المصحح. لا علاقة للامتحان بالمهارات والخبرات الذي يجب أن تُقاس كي يدخل الطالب معترك الحياة بجدارة. لا شيء على الإطلاق.

العلاقة بين الطالب وعضو الهيئة التدريسية «النموذجي» ضمن هذه المنظومة ليست مغايرة للجو العام، المدرس يتفنن، ضمن أراضيه الخاصة (أي القاعة الدرسية)، بالتكبر على الطالب وإشعاره بأنه لن يكون يوماً نداً له، يطلب منه القيام بفروض، هو نفسه غير قادر عليها نظراً لتكلسه وضعف قدراته الإبداعية. في بعض الأحيان، في الدراسات العليا على سبيل المثال، قد يطلب من الطالب أن يترجم له موادَّ يضع الأستاذ اسمه عليها، كي يحصل هو على ترقية نحو المرتبة العليا في سلم الرتب الجامعية (هذا ما يفسر جزئياً رداءة المؤلفات الجامعية، فترجمتها لم تخضع لعين مراجعة على الإطلاق). بالمقابل، في الأراضي الخاصة بالطلاب، أي اتحاد الطلبة وممثلية الطلاب في فرع الحزب، قد يتحكم الطالب بمصير الأستاذ. إن أتى الطالب على ذكر حديث سياسي غير ملائم تطرق له الأستاذ، قد يتعرض هذا لتنبيه، قد يُكتب به «تقرير» يصفه بأنه يحضر لخلايا نائمة… وأنا هنا لا أشطح بخيالي، هي تجربة شخصية جداً. الحمد الله أنني لا أدرّس تاريخ الفكر. فقد كُتب، في الثمانينات تقرير عتيد بأستاذ جامعي وُصف فيه بأنه طائفي متشدد، وكان سياق التشدد درساً عن ديكارت…

هذه الشيفرة السورية الصنع، تتسرب إلى عقل وأيدي المشرّعين وواضعي القوانين بطريقة مدهشة نكاد نعجب من نجاعتها. القانون يكرس تلك المفارقة بين الممكن وبين المعيار الملزم. ففي قانون تنظيم الجامعات لعام 2006، يوصَف المدرس بأنه مدرس وباحث بقدر متساوٍ. ويذهب القانون بوقاحته إلى تحديد عدد ساعات عمل المدرس بـ 36 ساعة بين تدريس وساعات مكتبية عليه أن يجيب خلالها عن تساؤلات الطلاب. أتساءل بسذاجة شديدة، ولكم أن تجيبوني: ما معنى أن يكون الأكاديمي باحثا؟ ألا يفترض ذلك وقتاً، وبنية تحتية، وقدرة على التنقل والاتصال بالعالم والمستحدثات في مجال البحث؟ ألا يقتضي ذلك وجود شبكة محلية من الباحثين ليكون للباحث مخاطب ما، يتحدث معه عن أبحاثه ويتلقى منه تغذية راجعة تطور عمله؟ باختصار أن تكون مدرساً جامعياً وباحثاً هو أمر غير ممكن في سوريا بحساب دقيق جداً لعدد ساعات الأسبوع، وعدد ساعات النوم والحاجات الحيوية والساعات المكتبية وساعات التدريس. النتيجة أن المدرس يلجأ مرة أخرى إلى الكذب والنفاق على نفسه أولاً ليتوهم أنه باحث، ولا يحاول على الإطلاق أن يطرح المشكلة على بنية جماعية ما مثل النقابات أو المجالس، فذلك يعتبر عيباً ينتقص من قدره «الجامعي». قد يلجأ إلى كتابة مقالات (وهنا ما زلت أتحدث عن العلوم الإنسانية)، هي أقرب ما تكون إلى جنس المقالة (essay) منها إلى البحث، حتى لا أقول استمناءات ليلية لا تمت إلى البحث بصلة، يكتبها حتى يوهم لجنة ما تدرس طلبه بترفيعه إلى مرتبة أعلى. غني عن القول إن اللجنة من جنس الأساتذة نفسه، تخضع لنفس الضغوط والمقيدات و«تُمشّي» حال المدرس حتى يمشّي حالها هي.

أما في باب الحريات فتقول إحدى المواد الأولى في قانون للتنظيم إن للمدرس كامل الحرية في التعبير عن آرائه شرط ألا يمس ذلك بأهداف ورسالة الحزب. ولكن لا شيء يقول في القانون كيف يمكننا أن نمس بالرسالة الخالدة! نفرح ونتأمل أن تكون اللوائح التنفيذية أكثر اتساعاً في الشرح وإزالة الغموض، ولكن هيهات…

قد يتساءل القارئ عن جدوى أن آتي على ذكر هذه التفاصيل الكثيرة والمملة والتي لا تهم إلا العامل في هذا الميدان. هذه التفاصيل تأخذ أهميتها حين سأطرح السؤال البسيط التالي: ما السبب وراء عدم تمرد أساتذة الجامعات على هذا النظام الذي يستلب علمهم وشبابهم وآمالهم؟… فعلاً ما هو السبب، كيف يمكن أن تتحول هذه الآلة القاتلة إلى بداهات شبه بيولوجية عند هؤلاء الأفراد؟ إنها، بزعمي، تلك الشيفرة التي تُحكم «سيطرتها الغامضة» على الأفراد المدرسين وتجعلهم يشعرون أنهم مخالفون ومقصرّون بكل الأحوال. حين تكون المنظومة بأكملها مبنيّة على فكرة أن «هذا واجبك ولكن أنت المقصّر» ينتهي المدرس بأن يقتنع بهذا، ويصبح جزءاً من تلك الآلة القامعة، يقمع الزملاء الجدد الشباب، يُفشلهم ويثبط عزيمتهم ويحاول بشتى الوسائل أن يذيقهم طعم الخل الذي ذاقه. في مرحلة ما، يصبح جلّ طموح المدرس هو الانقضاض على المناصب الإدارية، لأن المناصب الإدارية (قد) تخفف من الحمل التدريسي، وتمنحه تلك الفرصة الذهبية بالتحكم بالزملاء وتجسيد «الرؤى» في تحسين المناهج والعمليات الإدارية، وتحسين جودة العملية التعليمية بالمجمل. حين يحصل المدرس على هذه الفرصة، وهنا نعتذر من غير البعثيين فلا أمل لهم فيها على الإطلاق، يبدأ رئيس القسم، أو الوكيل، أو العميد، بإعادة إنتاج ما عانى منه على مدى سنين، دون وعي. لا وجود لأدنى قدر من الشفافية في صناعة القرار، لا وجود لأبسط آلية من آليات سبر الآراء بغية التحسين، لا وجود لأي عقد أو وثيقة مكتوبة يُتفق عليها، تنكمش أصول الإدارة لتستحيل إصدار تعميمات.

نهايةً، «بدكن حرية» ؟

هذا «الهابتوس» البعثي في عمل مؤسسات الدولة، ومنها التعليم والتعليم العالي، كرس الثقافة السينيكية الفاقدة للإيمان. طلابنا ومدرسونا فقدوا إيمانهم لأنهم عاشوا وهم أن ذلك وذاك ممكن، في حين أنه حقيقة وفيزيائياً وواقعياً غير ممكن. أولادنا السوريون الذين يقتلون أخوتهم وهم يتساءلون: «بدكن حرية؟» هم أناس شديدو المرارة، فقدوا إيمانهم من وقت غير قليل، هم شباب توهموا أنهم تعلموا شيئاً ما ولكنه ليس بعلم، توهموا أن يحصلوا على عمل نتيجة ذلك، ولكنهم لم يحصلوا، عملوا وظنوا أنهم بعملهم يمكنهم أن يعيشوا ولكنهم لم يتمكنوا؛ هم فاقدو إيمان، لم يصدقوا أن تلك البنية محكمة الإغلاق يمكن أن تُفتح يوماً ما، ظنوها مغلقة إلى ما لا نهاية، ولم يصدقوا أن غيرهم يمكن أن يؤمن بفتحها.

إحدى المهمات الأساسية التي تقع على عاتق المجتمع السوري في الزمن القادم هي أن يصالح جنس الأنبياء الذين كسروا العلب المغلقة وآمنوا مع فاقدي الإيمان المريرين الذين يترجمون مرارتهم وفقدانهم لكل بنية نفسية حاملة للمستقبل بالعنف أو السلبية المطلقة. كيف يمكننا ذلك؟ هذا هو السؤال. أعتقد أن أحد الحلول هو أن نؤمن على الأقل بجدوى الشهادات والكتابات التي تحاول تفكيك شيفرات الزمن البعثي. أن نؤمن كذلك بأنه ينبغي أن تنتقل ثقافتنا من ثقافة شفاهة لا توثق الكثير من مثل هذه التفاصيل إلى ثقافة كتابة. إدارة الجودة تقتضي الكتابة والتفصيل، الأمانة والشفافية وتجنب اللبس والحيرة تقتضي الكتابة. إعادة كتابة التاريخ تقتضي البطولة، ولكن أيضاً الكتابة، حتى نستعيد بعضاً من الزنجبيل في حياتنا، كما في قناة «فتافيت»

 (Kalamon: http://www.kalamon.org)

كلمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى