صفحات مميزةعمر قدور

الكتابة تحت إطلاق النار


عمر قدور

لحظة كتابة هذه السطور قد يحدث مثلاً أن يسمع كاتبها، أيّ كاتب لها، صوت انفجار قريب، تليه رشقات كثيفة ثم متقطعة من الرصاص. وقد تأتي الطلقات متقطعة وباردة الأعصاب ما يدفع إلى الظن بأنها طلقات قناص يلاحق من سطح بناء عالٍ ضحاياه المارين في الشارع. سيكون من حسن حظ هؤلاء الضحايا إن أتيح لهم التظاهر أولاً والهتاف بإسقاط النظام. قد تمر مروحية ويطغى هديرها على الجمل التي تتهيأ في الرأس، فتتداخل الأسئلة فيما بينها: تُرى أين ستقصف الهيلوكبتر؟ أهي ماضية إلى ريف حلب البعيد؟ أم ستفرغ حمولتها من الرصاص على رؤوس الناس في حمص أو حماة؟ أو لعلها لن تبتعد عن دمشق وتتهيأ الآن للانقضاض على واحدة من ضواحيها القريبة؟

في مثل هذه اللحظات سيكون من الترف البحثُ عن جذر مشترك لكلمتيْ «ضحية» و»ضاحية». في الواقع قد لا يُسمع صوت انفجار قريب، وقد تكون الطلقات الآن في مكان ناءٍ بحيث لا يصل صوتها، وقد لا تمر طائرات الهيلوكبتر لأن الدبابات تنجز مهمتها على أكمل وجه. قد يتوقف الأمر عند خبر اعتقال إحدى الصديقات أو الأصدقاء. قد تقرأ الخبر وأنت تتصفح صفحتك على الفيس بوك. سيتناقل الأصدقاء المتبقون الخبرَ، سيضع أصدقاء آخرون «Like» على الخبر؛ مع كل خبر اعتقال تمثُل المفارقة ذاتها. فالمستخدم السوري يضع «Like» التي تدل على الاستحسان بمعنى أنه أخذ علماً بالخبر. بعد قليل سيتم إنشاء صفحة خاصة بالمعتَقل وسيكون اسمها على الأرجح «الحرية للمعتقل….» أو «أعيدوا إلينا….»، وقد لا يتسع الوقت لتعريف وافٍ بمَن أُنشئت الصفحة لأجله؛ ربما في مناسبة أخرى إن انتقل من صفحة «الحرية للمعتقل….» إلى صفحة «كلنا الشهيد….»، ربما عندما ينجز التعذيب مهمته على أكمل وجه. أنت أيضاً لست بمنجى عن هذا المصير، تفكر بذلك دون أن تستبعد الخاطر التعيس من رأسك، وأيضاً دون التفكير بتفاصيله وتبعاته المروعة، تتقبل هذا الاحتمال باستسلام وتضع لنفسك «Like» بمعنى أنك أخذت علماً به!

بعد مضي قليل من الوقت لا يعود مهماً إن كنتَ قد سمعت إطلاق النار حقاً، فمن المؤكد أن الرصاص يُطلق الآن في مكان ما، وأن عدد الشهداء سيرتفع مع كل فقرة في النص الذي تنوي كتابته، وسيوالي ارتفاعه عندما سيقرأه قارئ ما في مكان آخر بعيد. بالطبع ليس هناك سباق بين الكتابة والقتل، فالأخير يمضي قدماً بلا انقطاع. القاتل لا يحتاج فسحة من التأمل، ولن يتوقف عند الجملة الأخيرة ليفكر في القرابة البلاغية بين «فسحة من التأمل» و»فسحة من الأمل». في وقت لاحق، بعدما يتم إيقاف القتلة، قد تُكتب نصوص أدبية عنهم، قد نتخيل واحداً منهم يتأمل ضحيته ملياً قبل قتلها، حينها قد ترتجف عدسة القنص مرات قبل أن تنزل إلى رأسها أو صدرها. لكننا الآن نعلم أن القتلة يطلقون النار على نحو غريزي، وأن المصطلح العسكري «إطلاق النار غريزياً» تعدّى هنا دلالته على الدقة في التصويب بلمح البصر ليأخذ معنى غريزة القتل.

تخجل أحياناً من تسرب ما هو شخصي أو عاطفي إلى النص. تبدو انفعالاتك تجاه الألم ترفاً قياساً إلى الألم نفسه. بصرف النظر عما أنت عليه في الواقع؛ في الكتابة تصبح ضحية من الدرجة الثانية أو الرابعة، وترى من الإنصاف أن تؤجل الكثير مما يعتمل في داخلك إلى أجل آخر. في المحصلة أنت شخص ما يزال يمتلك يدين وعينين ولوحة مفاتيح للكتابة! لكنك تتراجع عن هذه الفكرة، لا لأهمية الكتابة ولكن لأنك تدرك أهمية التشبث بالتفاصيل الصغيرة للحياة. عند ساعة الخطر تختلط المعايير، وما كان سابقاً أدنى قيمة ربما تصبح له قيمة استثنائية. لو أن الشهداء عادوا لكانوا الأجدر بالحديث عن الصور أو الأفكار غير المتوقعة التي داهمتهم لحظة الموت، لكننا من خلال معرفتنا بسيرة البعض منهم قد نُفاجَأ بالحياة الشخصية الاعتيادية التي عاشوها حتى اللحظات الأخيرة، بالتأكيد لم يكونوا يعدّون أنفسهم لتلك اللحظة حتى وهم يتوقعونها.

يصعب القبض على التغيير الذي أحدثته الثورة في الكتابة، فيما بعد يمكن تفحص التغييرات المفترضة وتفنيدها، أما الآن فالثورة تبدو كأنها تكتب نصوصها المتعددة بتعدد كتّابها، ثمة فورة يعيشها السوريون في التعبير عن واقعهم الحالي، هي كحال من أُجبر طويلاً على الصمت واندفع الآن ليقول كل شيء دفعة واحدة. ثمة أيضاً السباق مع الزمن الذي قد لا يسمح لبعضهم بإتمام ما يريدون قوله؛ ليس الزمن بالضبط، هي بالأحرى الخشية التي تتولد من الكتابة تحت إطلاق النار، من هذه الجهة قد يكون هناك سباق بين الكتابة والقتل، فسنستذكر المقولة القديمة عن أن الكتابة فعل مضادّ للموت، ولكن هذه المرة بالمعنى الفظ والمباشر لا بالمعنى الوجودي العميق الذي درج استخدامه.

أكثر من سنة، لا شك في أنها مدة كافية للكتابة عن ثورة، لكن ليس إن كانت الثورة ما تزال مستمرة، فشيطان الثورة لا يكف عن ابتداع التفاصيل التي تجعل كل كتابة غير ناجزة، بل يجعل من بعضها متقادماً بفارق ضئيل من التوقيت. يتقاطع زمن الثورة وزمن الكتابة في أنهما زمنان فنّيان بامتياز، وبهذا يختلفان عن الزمن الاعتيادي الذي يُحتَسب بالأيام والأشهر. ومع ذلك يفترقان من حيث أن نصّ الثورة أكثر كثافة وثقلاً بينما لم يحن الوقت لكي تتخفف الكتابة من ذلك الثقل المعنوي. لم يحن الوقت لتتحرر الكتابة من الثورة. من جهة ثانية يصبح الزمن الشخصي الذي تقتضيه الكتابة عزيزاً، إذ يصعب التمسك بالإيقاع الخاص تحت وقع الهدير العام. الترقب أيضاً أضحى فعلاً يومياً، لذا بات اصطناعه في الكتابة يحتاج حنكة تفوق المعتاد.

إنها الكتابة على مفترق زمنين، وليس افتراضاً أدبياً بحتاً أن المروحيات عبرت في سماء النص، أو أن رشقات الرصاص سُمعت من مكان قريب، ليست هذه حيل فاقعة من كاتب يريد استدراج القارئ أو استدرار تعاطفه. بل على العكس، لقد أخفق النص في وصف الصورة اللامبالية لذلك القناص، فهو متربص الآن هناك على السطح، يدخن سيجارة من النوع الرخيص، ولا يكترث بنوعية الهدف الذي يتحرك في الشارع، ولا يكترث إن أفلت أحدهم من طلقاته ما دامت ستصيب آخرين في المرات القادمة، وسيكون غير مفهوم بالنسبة إليه أن نتحدث عن أبرياء. ولأن الانفجارات التي حدثت في مطلع النص لم تبرح رأسك تفتح التلفزيون على إحدى المحطات في غير موعد نشرة الأخبار. تتابع الشريط الإخباري الذي يورد أخبار الأمس متداخلة مع أخبار اليوم. تتأكد من حدوث الانفجارات الضخمة ولكن في مدينة سورية أخرى. هذه المرة سقطت صواريخ النظام على حي «مشاع الأربعين» في مدينة حماة، فهدمت الكثير من المنازل وأودت بحياة العشرات. في الترجمة المحلية لكلمة «مشاع» أنها تدل على أبنية عشوائية شديدة التواضع، أبنية ربما ينهار بعضها بفعل أصوات الانفجارات وحسب ولا تحتاج إصابات دقيقة بالصواريخ. «مشاع الأربعين»؛ يذكّرك الاسم بعنوان «خلوة الغلبان» للروائي المصري الراحل ابراهيم أصلان، اسم يصلح عنواناً لنص أدبي. ولكن ليس الآن، ليس عندما ما تزال الجثث ممددة أو مقطعة الأوصال تحت أنقاضه.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى