محمد تركي الربيعومراجعات كتب

الكتابة وأشكال التعبير الإسلامية في القرون الوسطى/ محمد تركي الربيعو

 

 

أخذ بعض الدارسين الغربيين للتراث الإسلامي في العقدين الأخيرين يؤكدون على أن فكرة التمييز بين الحكايات والقصص الخياليّة الإسلامية وبين كتب التاريخ الإسلامية لا تعد مهمة سهلة، وليس ذلك لأن التاريخ الإسلامي هو تاريخ مليء بالأساطير والخيال والقراءات الدينية للأحداث، بل على العكس من ذلك فإن هذا الموقف كثيراً ما عبر عن نفسه من منظور معرفي جديد، عبر الاستناد إلى أبحاث بول ريكور ورولان بارت وآخرين، ممن تركزت قراءاتهم على قراءة الحدود بين التاريخ والقصص وطبيعة السرد. ونتيجة لذلك فقد زوّدت هذه الدراسات الباحث الغربي بعدة تأويلية جديدة لقراءة التراث الإسلامي وطرق نقل الحكاية داخل التراث، بالإضافة إلى تفحص مدى حقيقتها وكيفيــــة صياغتها للحقيقة التاريخية، ما ساهم في رسم خريطة جديـــــدة لفهم طــــرق كتابة التاريــــخ والحكايا والسير الشعبية داخـــــل العالم الإسلامي خلال القرون الوسطى. وكمثال على هذه المقاربات الجديدة يمكن أن نشير هنا إلى كتاب «الكـــتابة وأشــكال التعبير في إسلام القرون الوسطى»، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، المركز القومي للترجمة، الذي أشرفت على تحريره جولي براي أستاذة الأدب العربي في جامعة باريس 8. إذ يضم الكتاب عدداً من الدراسات التي خُصّصت لمسألة فهم كيف كتب وعبّر المؤلفون المسلمون عن التاريخ في القرون الوسطى (التي يعنون بها الفترة الممتدة من القرن الثامن الميلادي إلى القرن السادس عشر). ومن بين هذه الدراسات يمكن أن نشير إلى دراستين مهمتين للغاية تتعلقان بأساليب التعبير عن التاريخ وأحداثه وتأويله في مخيال المسلمين في تلك الفترة.

أمّا الدراسة الأولى «التاريخ والقصة والتأليف في القرون الأولى من الإسلام» التي أعدّها روبرت هولاند أستاذ الأدب والتاريخ الإسلامي في جامعة سانت أندروز، فتشير إلى أنه طالما غدت أقوال الأبطال الأوائل في الإسلام بمثابة نموذج معياري للسلوك اليومي والسياسي لدى المسلمين، غير أنه بعد وقت قصير من بداية تراجع حيوات هؤلاء الأبطال من الذاكرة الحية ـ صارت موضوعاً للتجميع والدراسة. ولذلك أخذت تنشأ تخصصات متعددة اعتمدت كلها على المادة نفسها، لكنها مع ذلك كانت تختلف في مقاربتها على مستوى الأهداف والطرق، أو على مستوى الدلالات.

الأمر الذي أدى بحسب الباحث إلى ظهور عدد من المتخصصين في ما يتعلق بأشكال التعبير عن التاريخ، وعن أبطال هذا التاريخ وهو ما يمكن حصره في أربعة تخصصات أساسية:

الأول- يتعلق بعمل المحدّث الذي اهتمّ بتحديد قيم الأحاديث بوصفها سابقة شرعية، ولذلك فقد اعتنى بتقديم إسناد بمن تناقلوا الحديث محل المناقشة من أول شخص إلى آخر.

الثاني ـ يتعلق بعمل الإخباري الذي حافظ على النقل والمعرفة الشفهية، كما أنه طالما أبدى رغبة في معالجة نصوص الأخبار عبر محاولة الدمج والتأليف بين كل النسخ المختلفة من الروايات والأحاديث (بعكس المحدّث)، أو في إعادة تفسيرها واختصارها وعينه على الصورة الأعظم التي يتمنى رسمها. مع ذلك، فإنه غالباً ما ينكر انهماكه في هذا النشاط الأدبي ويفضل، مثل المحدث، أن يتوارى عن إدراك القارئ، ليعزز الانطباع بأن نصه لم يكن إلاّ تمثلاً موضوعياً للأحداث. وبالنسبة للإخباري، عدّت مسألة الصدق أكثر مرونة مما يمكن أن يسمح به المحدّث، فيما يتعلق بالمحتوى والشكل، مع ذلك بقيت بؤرة التوجه الأساسي لنصوصهم دينية.

الثالث- وبينما ركز المحدّثون والإخباريون عموماً على العلم والمعرفة الدينية، سعى الأديب وراء الأدب، ورغم أن الأديب استخدم المادة نفسها التي يستخدمها علماء الدين، إلاّ أنه ازدرى مقاربتهم غير النقدية. كما أبدى الأديب اهتماماً أكبر من المحدّث والإخباري بالقيمة الترفيهية والتهذيبية للخبر. كما كانت مسألة صدقه أو عدم صدقه أقل أهمية من مسألة واقعيته، أو عدم واقعيته. وهكذا بدا الأندلسي ابن عبد ربه في مقدمة مؤلفه الضخم للأخبار «العقد الفريد» منطقياً، حين أعلن أنه حذف الأسانيد «من أكثر الأخبار طلباً للاستخفاف… ولأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد».

وأخيرا نأتي إلى القاص (المتخصّص الرابع) الذي كانت مهمته، وفقا لما يراه ابن الجوزي، رواية أخبار الماضين لأن «في إيراد أخبارهم عبرة لمعتبر وعظة لمزدجر». ومن هنا ـ يرى هولاند- أنه علينا أن نضع في الاعتبار أن مصطلح القاص يحمل مفهوم «الواعظ الديني» وأيضا الراوي، خاصة أن ابن الجوزي يستمر ليقول إن القاص يعتبر مسؤولاً عن تعليم الجموع العقائد والمعتقدات الأساسية للإسلام. كما أن القاص طالما شكّل قلقاً للسلطات، خاصة أن القاص غالباً لم يلتزم بمساعي التهذيب المتوقع منه، وكثيراً ما انهمك في مناصرة مواقف دينية وسياسية متنوعة.

وفي دراسة أخرى يسعى روبرت اروين (محاضر في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن) في دراسته «ابن زنبل وقصة التاريخ» إلى القول إن تأدّب كتابة التاريخ، كان يعد سمة بارزة ومدروسة جيداً من سمات عصر المماليك. فإقحام الحكايات واللجوء إلى الخطاب المباشر وتضمين العجائب، وبشكل أكثر تحديداً، استخدام مواد التنجيم والأساطير التركية، وأيضاً استعارات من «الرواية الشعبية» وتوظيف التعبيرات العامية والشعبية، إذ نجد مثلاً أن «ملا بن صصرى» وهو مؤلف لكتاب تاريخي عن دمشق في القرن الرابع عشر، يتحدث عن قصته حول الحرب والسياسات المحلية بخرافات وأقوال مأثورة. وفي فترة سابقة وعلى مستوى أكثر تعقيداً يمكن قراءة «مروج الذهب» للمسعودي للمتعة والتعليم أيضاً لأنه سجل تاريخي وعمل أدبي.

وبناء على ذلك يرى أروين، أن الدراسات التي ترى أن الرواية التاريخية بدأت مع قصص السير والتر سكوت البريطاني، أو مع رواية جورج زيدان عن المملوك الشارد والمنشور سنة 1891، تبقى رؤية غير تاريخية. ولتوضيح وجهة نظره هذه يعود بنا الباحث إلى كتاب «انفصال» للشيخ أحمد بن علي بن زنبل الرمال المحلي الشافعي بوصفه يعبر عن أول عمل روائي تاريخي في التاريخ الإسلامي.

يبدأ الكتاب بتقديم السلطان المملوكي قبل الأخير قانصوه الغوري، خارج مصر ليواجه الهزيمة على يد سليم في معركة مرج دابق. ومن البداية يكثف المؤلف من السرد واختلاق المشاهد، ومن أهمها –وهي بالتأكيد ملفقة– قصة مغربي مسلم من شمال أفريقيا وصل ببندقية إلى بلاط قانصوه الغوري وجادل أمام السلطان بأن المماليك سوف يهلكون إذا لم يحصلوا على السلاح. لكن السلطان رفض، زاعماً أن الأداة البشعة مسيحية وأنه سيواصل اتّباع سنة النبي. يضم «انفصال» مجموعة قوية من الشخصيات التي تُرسم بشكل متميز. طومان باي القديس الشهم هو البطل. والأنذال الحقيقيون ليسوا من العثمانيين في المقام الأول، بل المماليك من أمثال خير بك وجان بردى الغزالي، الذين تعاونوا معهم.

يكشف ابن زنبل، مقارنة بالمؤرخين التقليديين لعصر المماليك، عن اهتمام غير عادي بدوافع الأبطال، ويبذل جهداً عظيماً ليوضح هذه الدوافع، وكثيراً ما يلجأ إلى حوار مبتكر لتحقيق ذلك. يوحي الاستخدام العديد للحوار أثناء السرد، بأن ابن زنبل ألّف عمله وفي ذهنه الأداء الشفهي. ويأتي الحوار قوياً، وفاحشاً أحياناً، أمّا المواجهات بين الأبطال فكثيراً ما تأتي متوترة ومتبجحة. ويوحي تكرار تلخيص القصة إلى هذا الحد والاهتمام بإبراز تغيرات المشهد بأن «انفصال» صمّمت للأداء أمام الجمهور، لا لقراءة على انفراد.

كما يتجلّى التنجيم في الدعائم العرضية للرواية وفي ثيماتها الرئيسية، ففي بداية القصة عرف قانصوه أنه سوف يلقى سقوطه على يد رجل يبدأ اسمه بحرف السين. ورأى قانصوه أن هذه النبوءة تشير إلى الأمير القوي سيباي الحاكم المملوكي لسوريا، ولم يهتم بحقيقة أن اسم سليم أيضاً يبدأ بحرف السين. كما ظهر سليم في القصة رجلاً يتمتع بمهارات في التنجيم ويستطيع قراءة ما يدور في عقول الرجال من خلال فراسته، ومن ثم يكتشف خداع قانصوه الغوري (ولعل قوة الفراسة هذه تذكرنا – بحسب معدّ الدراسة- بقصة ملك اليمن وابنائه الثلاثة في «ألف ليلة وليلة»). وبذلك يقدم «انفصال» مصر القرن السادس عشر بوصفها أرضاً للسحر وأرضاً للأحلام وللتنجيم. إذ تُخبر الأحلام طومان باي بنهايته المأساوية النبيلة، قبل أن يدخل الوادي المشؤوم، حيث يهزم، يحلم أولاً بطوفان مدمر، ثم بخمسة كلاب سود تهاجمه. وبعد قليل يظهر النبي في حلم ليخبره بأن قضيته خاسرة وسلالته هالكة. ورغم أن طومان باي ينهمك ظاهرياً مع بقية أمراء المماليك في كفاح ضد العثمانيين بتكنولوجيتهم العسكرية الجديدة، إلا أن هلاكهم يشبه هلاك أبرهة الحبشي وأصحاب الفيل في القرآن. إذ لا يكفل عددُ الجيش النصرَ.

في جانب آخر، تعمّ النوستالجيا قصةُ ابن زنبل. فعند نقطة ما ينحرف المؤلف إلى قائمة من مختلف شوارع القاهرة، التي كانت تضم مساكن أمراء المماليك كما يقدم صورة لمجتمع في عملية تحول حتمي ومجموعة من المحاربين يكافحون التاريخ.

وأما عن دلالات حكايته عن هلاك المماليك، يرى أروين أن ابن زنبل كان يهدف من هذه الرواية التاريخية إلى بعث رسالة إلى العثمانيين، وكان على العثمانيين أن يتلقوها. إذ ترجمت القصة مرتين إلى التركية، وكانت من أوائل الكتب التي طبعت في تركيا العثمانية. وفي وقت مبكر في منتصف القرن السادس عشر، كان بعض المفكرين الأتراك يفكرون بالفعل في احتمال انهيار امبراطوريتهم. وبعد ذلك بقليل تحول المؤرخون العثمانيون إلى دراسة نظريات ابن خلدون عن الظهور الدوري للأسر الحاكمة وانهيارها الحتمي، وبالتالي يمكن تصحيح الوضع لنقرأ «انفصال» باعتبارها قصة لا ترتبط فقط بسقوط المماليك، بل كانت تتنبأ ضمنياً بسقوط العثمانيين أيضاً في المستقبل.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى