صفحات الثقافة

الكتب ليست هي الناس بل طرق للوصول إليهم/ تشيزاريه بافيزي

 

 

 

يُعدّ الكاتب والشاعر تشيزاريه بافزي (مواليد 9 ايلول 1908 في «سانتو ستيفانو بيلبو» وتوفي منتحرا في مدينة «تورينو» في 27 آب 1950) واحدا من أهم كتّاب إيطاليا في القرن العشرين، على الرغم من أن شهرته تضاعفت بعد موته، حيث اكتشف القراء «سحر كلماته». من انتسابه للشباب الفاشي قبل الحرب العالمية الثانية (تحت تأثير أهله كما كان يقول) إلى الحزب الشيوعي الإيطالي بعد الحرب، مسيرة متنوعة وغنيّة على الرغم من أن حياته كانت قصيرة نسبيا.

في هذا النص المستل من كتابه «الأسطورة والأدب» والذي يحمل عنوان «أن تقرأ»، يحاول الكاتب أن يطرح سؤال الكتابة والقراءة اللذين يعتبرهما بمثابة السبب الرئيسي في إنسانيتنا..

سؤال أول

درجت العادة على دعوة الكتّاب إلى شيء من الوضوح، والبساطة، والالتفات إلى الجموع الغفيرة التي لا تحسن الكتابة الأدبية والفنيّة والإبداعية، لكننا أحيانا نطرح على أنفسنا، بإلحاح، سؤالا بسيطا: هل يحسن الناس القراءة؟

من هو القارئ؟

«القراءة شيء بمنتهى السهولة»، يقول الذين أنتزع منهم التعامل مع الورق كل هيبة للكلمة المكتوبة. أما الذي يختلط بالناس أكثر من الكتب، ذلك الذي يخرج الى العمل في الصباح الباكر ليرجع في المساء أصلب عودا بفعل تعامله مع الحياة، فإنه حالما تقع صفحة من كتاب تحت عينيه يشعر أنه أمام شيء خشن أو حتى بغيض، شيء يجمع الصلابة بالتلاشي، شيء يثبت عزيمته لكنه يستفزه. هذه الفئة من البشر هي حتما أقرب إلى القراءة الصحيحة من أي فئة أخرى. تشبه الكتب البشر، لذلك يجب التعامل معها بمنتهى الجدية، ولكن كونها تشبه البشر، ينبغي الحذر من أن نجعل منها أصناما، أو بمعنى آخر، أدوات للكسل. إن الإنسان الذي لا يعيش بين الكتب، والذي يبذل مجهودا مضاعفا للمسها، وفتحها، والغوص فيها، يمتلك رصيدا من التواضع، من القوة الواعية التي تتيح له مقاربة الكلمات بما يليق بها من الاحترام أو المحبة المقرونة بالهيبة، كما نقارب شخصا عزيزا نحبه ونهابه. إن هذه المقاربة قد تكون أهم من «الثقافة»، بل لعلها هي الثقافة الحقيقية نفسها: الحاجة إلى فهم الآخرين ومحبتهم هي الطريق الوحيد من أجل أن نفهم أنفسنا ونحبها، من هنا تبدأ الثقافة. الكتب ليست هي الناس، بل طرق للوصول إليهم. الذي يحب الكتب ولا يحب الناس، هو شيطان أو معتوه.

الكتابة والآخر

ثمة عائق ينتصب باستمرار أمام القراءة، وهو نفسه في شتى ميادين الحياة: الثقة الفائضة بالنفس، انعدام التواضع، رفض استقبال الآخر وتلقيه، الآخر المختلف. عادة ما نصاب بجرح نرجسي حين نكتشف أن أحدهم قد قارب الأشياء بطريقة قد لا تكون أكثر عمقا، ولكن حتما بطريقة مختلفة. يروق لنا أحيانا أن نصاب بالدهشة عندما نقرأ، لكنها غالبا ما تكون محدودة. نادرا ما تخرجنا الدهشة من أنفسنا تماما، كأن نفقد توازنا لنجد آخر أكثر خطورة، كأن نضرب الأرض بأرجلنا، كأن نرجع مثل الأطفال. تنقصنا عذرية الأطفال فهي براءة محضة: نحن نمتلك أفكارا وأذواقا لندافع عنها. إن أسهل الأشياء هو افتراض أن كل شيء قد انتهى بخلاصات القراءة، وأننا بتنا نمتلك خزائن الحقيقة والعدالة والجمال. إنه لخطأ فظيع وشائع، كمن يعتقد أن واجبه تجاه الفقراء قد انتهى بمجرد وضعه قطعة نقدية معدنية في يد متسول. يجب على القراءة أن تفتح نافذة في مادتنا الكسولة والمتغطرسة: نافذة للمغايرة والأسئلة المستمرة.

القراءة والاستعداد والنقد

يكون الأكاديمي الذي يجيد التعامل بسهولة مع المعرفة والذائقة، عادة، بلا روح، متجردا من حب الإنسان، صلفا وصلب العود بفعل موضوعيته وأنانيته المغلقة. إن الإنسان المناسب لتنسم هواء المخيلة والحياة الذي توفره القراءة هو شخص يفتقد ألفباء اللغات الاكاديمية، بل حتى الإنسان المشوه باستعدادات مغلوطة، حين تصدمه القراءة بمنظومة من القيم أو الجمال كانت قد شوهتها لديه الإيديولوجيا أو البروباغاندا. لكن الذي يواجه نصا في الفيزياء، أو قيدا في المحاسبة، أو تمرينا نحويا في اللغة لا بد له من تحضيرات ومفاهيم مسبقة للتعامل مع مادة القراءة. هل هناك حقيبة مماثلة لمقاربة رواية أو قصيدة، أو نص إبداعي أو تأملات؟ أم أن هذه الأنواع هي أكثر تعقيدا بحيث لا يمكن حصرها في كتيب تعليمات أو مرجع أكاديمي؟ للإجابة، البساطة لا تعني التبسيط. إن النصوص الإبداعية التي تبدو بسيطة وواضحة من القراءة الأولى قد تكون هي الأكثر خطورة: يعتقد الكثيرون أن هذه النصوص تقارب بقليل من الانتباه، أو بنسبة من الذكاء العادي، كونها لا تتوجه بالخطاب الى الفيزيائي أو خبير المحاسبة أو المتخصص باللغة، بل تتوجه الى «الإنسان» في دواخلهم. لا يتوجه الشعراء والروائيون والفلاسفة الى إنسان في المطلق، الإنسان المجرد، بل عادة ما يتوجهون الى إنسان حقبة معينة، إنسان أمام عقدة يجب حلها، أو انفعال، أو التعايش معها، وخاصة في الروايات. الخطاب هنا موجه الى الناقد: من أجل نقد الرواية مثلا، يجب على الأقل أن تضع نفسك في حقبة تلك الرواية، وأن تعايش أسئلتها ومشكلاتها، والأهم وقبل كل شيء، تعلم لغة الكاتب وفهم قاموسه. حين يختار الكاتب أو الروائي كلمة، نبرة، صياغة ما، فإن له كل الحق عليك بأن لا يُحاكَم بسيف قراءة سابقة، كانت فيها الصيغة أكثر تنظيما، والكلمات أكثر سهولة، أو بشكل أكثر بساطة، مختلفة.

قد تكون اللغة هي العامل الأهم لدى الناقد، وبالتأكيد لدى الكاتب الذي يصنع كل مجده منها، ولكن لنكف عن اعتبار كل كلمة أو إيقاع، أو انعطافة في النص وكأنها مسألة تقاليد، وأخلاقيات، أو أحكام سياسية. حتى لو كان الفن أمرا بغاية الجدية مثل السياسة والأخلاق، فلنتذكر أن نقاربه بالكثير من المحبة والتواضع تجاه أنفسنا: لا أعرف بأي حق، أمام صفحة مكتوبة، ننسى أحيانا أننا بشر، وأن إنسانا فوق هذه الصفحة يخاطبنا عبر الكلمات.

ترجمة: محمد ناصر الدين

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى