صفحات الناسطلال المَيْهَني

 الكراجات، أو التلازم بين الثقافة والمكان/ طلال الميهني

 

 

تنتمي الكراجات «جغرافياً» إلى صنف الأماكن التي لا ترتضي حلولاً وسطى: إما أن تكون وسط المدينة ملتصقةً بمركزها، أو أن تكون على هامش المدينة. أما «ثقافياً» فالكراجات مكانٌ غريبٌ ذو دلالة عميقة على تجليات العلاقة بين الإنسان والمكان والثقافة، وهذا ما يجعل من حمولتها الرمزية فرصةً لفضح المجتمع، وفضح التناقضات الكامنة فيه.

ففي الكراجات تختلط زمجرة الحافلات بالدخان والغبار، حيث يستريح السائقون، ويتراكض المسافرون أو ينتظرون بضجر، حيث تنتشر الشائعات والنمائم وتكثر عناصر المخابرات. هنا يترك الإسفلتُ آثارَه في عمق الذاكرة البرجوازية: لون الشاي وطعم الفلافل وطنين الذباب الكسول، رائحة البول الواخزة وآثاره الجافة على الحيطان تحت أشعة الشمس، لُطَخُ البصاق المنتشرة على الأرض جنباً إلى جنب مع أعقاب السجائر. وقديماً، وقبل امتلاء الأسواق بقناني الكولا ذات الأغطية البلاستيكية، كانت تنتشر الأغطية المعدنية ذات الحواف المسننة في محاكاةٍ عفويةٍ، وعميقةٍ في رمزيتها، لخرائط مدن الصفيح التي تُزَنِّرُ العواصم العربية.

هنا تباع سندويشات «المعلاق» والبطاطا المقلية بزيتٍ أسود ومكرر، هنا ينتشر الدخان المهرب والحشيش، وهنا تعربد الذكورة المكبوتة، فتُعْرَضُ كتبٌ رخيصةٌ تبوح بأسرار الجنس مع صورٍ فاضحةٍ لـ «سيبيلجان»، وبعد الانفتاح الذي أحدثته ثورة الاتصالات، باتت الأفلام الإباحية متوافرةً بأسعار تنافسية تناسب الدخل المحدود للمراهقين في «أمتنا الفتية».

أرصفة الكراجات تأنفُ النظافة، تغطيها طبقةٌ من الشحم المُغْبَر. وعلى تلك الأرصفة المتسخة ينتشر أطفالُ الكراجات؛ أطفالٌ يبيعون الدخان، يمسحون الأحذية، ويحملون السكاكين والشفرات و»موس الكبّاس»، وهم يكتشفون ذكورتهم، ويعيشون نشوة استغلال أهلهم لهم، ويواجهون الحياة قبل أن يدركوا معنى الحياة.

السرعة صفةٌ ملتصقةٌ بالكراجات، أناسٌ يهرولون ويركضون، وآخرون يصرخون معلنين قرب انطلاق رحلات «الهوب هوب»، ومستوياتُ الأدرينالين المرتفعة تعبقُ في الهواء، مختلطةً برائحة العَرَقِ الحامض، وصَيْحات الباعة الجوّالين، لهذا لا يمكن الاسترخاء في الكراجات، فالضجة خيارٌ وحيدٌ وأوحد، والجو متطرفٌ في برده وحرِّه، وكأن الله قد حَرَّمَ على الطقس أن يكون معتدلاً في الكراجات. كل ذلك وسط صخب الأغاني التي يبدو أن قوانين المكان تشترط أن تكون من صنف «الأغاني الهابطة» حُكماً.

لكن للكراجات، كما هي الحال في كل الأماكن، علاقةٌ تبادليةٌ مع الإنسان الذي يمنح المكان اسماً ووظيفةً وثقافة وقَدَراً، وبالعكس. وهذا ما يعطي الكراجات أبعادها الثقافية الفريدة. إذ تمثل الكراجات، باعتبارها نقطةً للمغادرة/الوصول، مكاناً متمرداً على منطق الثبات والانتماء، مكاناً مصمماً ومخصصاً لأولئك الذين يودّون الانتقال بين الأماكن. وبسبب هذه «اللاثباتية» يغدو الزمن داخل الكراجات بنكهةٍ مختلفة: الزمن هنا عابرٌ ومقتطعٌ خارج نطاق الزمن.

تنتشر في الكراجات ثقافةٌ خاصة، ثقافةٌ تنبع مباشرةً من «لا ثباتية» المكان: يسهر على صناعتها خليطٌ عجيبٌ من أرباب السلطة والياقات البيضاء وأصحاب العمامات والأحذية العسكرية اللامعة. وبعد صناعتها يرسم هؤلاء بالحديد والنار والجهل والضرائب حدوداً صارمةً بين الثقافة الرسمية، والثقافة المنبوذة. وبين الثقافتين، الرسمية والمنبوذة، هوةٌ سحيقةٌ، وكَبْتٌ عميمٌ، ورغبةٌ في انفجارٍ وشيكٍ كنا نسمع فحيحه.

الثقافة المنبوذة مقموعةٌ رسمياً، لأنها بكل بساطة تتنافر مع الثقافة الرسمية: لهذا يتم إنكار الثقافة المنبوذة في الشوارع الرئيسية، يتم الادعاء بأنها ليست ثقافتنا، فندير ظهورنا لها لأننا لا ننتمي إليها، فهي ثقافةٌ تقبع «هناك» على الضفة الأخرى، تستفحل وتتكاثر بصمتٍ، تحت الرماد وفي العشوائيات، وخلف الأبواب الصدئة والوجوه الشاحبة.

الكراجات منبرٌ مفتوحٌ تجد فيه الثقافة المنبوذة ضالتها كي تمد برأسها، كي تصرخ بلا قواعد أو منغّصات، ليتم تقيؤها دون أن يمتعض أحد. هنا تتحطم أوهام الثقافة الرسمية التي تخسر سيادتها، ويظهر بوضوح مدى الانتشار الهائل الذي تحظى به الثقافة المنبوذة بعيداً عن منابر الإعلام، وعن نظافة واجهات المحلات، وعن الأجساد الضخمة لموظفي «السيكيوريتي» ذوي القبعات، عن السجاد الأحمر في مطاعم النجوم الخمس، وعن صور التلاميذ الجالسين باحترامٍ على مقاعدهم الخشبية الجديدة وأظافرهم النظيفة، أو صور القائد الرمز الذي يبتسم وسط لفيفٍ من الشعب السعيد.

بالمحصلة، للكراجات وظيفةٌ برزخيةٌ «مكانياً»، تعلن عن مرحلةٍ انتقاليةٍ تفصل بين موقعين جغرافيين: بين المدينة والريف، بين مقر العمل والمنزل، بين مدينة وأخرى، بين قرية وقرية، بين الحضر والبادية. ففي الكراجات: نحن في المدينة، لكننا على وشك مغادرتها. وفي الكراجات: نحن لسنا في المدينة، ولكننا على وشك الوصول إليها. وفي الحالتين، في لحظة المغادرة ولحظة الوصول، تكون الكراجات نقطة عبورٍ ولقاء، لتبقى مصممةً للاستخدام العابر والموقت.

وللكراجات أيضاً وظيفةٌ برزخيةٌ «ثقافياً»؛ تعلن عن مرحلةٍ انتقاليةٍ بين ثقافتين متباينتين: بين رسمية ومنبوذة، بين فيروز وسارية السواس، بين اللغة الفصحى واللغات العامية، بين دمشق «مهد الحضارات» ودمشق «العشوائيات»، بين الوطن والهويات المناطقية الأولى وتوابعها. الكراجات، إذن، برزخٌ موقتٌ للعبور بين الأمكنة، بين الأضداد، وبين الثقافات المتعددة في جسد الثقافة الواحدة (أو التي يعتقد أنها واحدة).

أخيراً، لا أحد يعلن امتلاك الكراجات، ولا أحد يدّعي الانتماء إليها، فهي مكانٌ ضد المكان، مكانٌ يمتاز بالـ «لا ثباتية» ويُقتل فيه الزمن بانتظار المغادرة. لكن الأهم أن الكراجات مكانٌ لاستعراض القباحة المستترة خلف الجمال المصطنع، ولكشف البشاعة المستفحلة في الجسد الثقافي، وإظهار هامشية الثقافة الرسمية قبالة شيوع الثقافة المنبوذة. في الكراجات تُذبح نوستالجيا الياسيمن، وتُمحى رومانسية المدينة. في الكراجات تغيب جريدة الصباح، ويختفي فنجان القهوة، ويتلاشى صوت فيروز مختنقاً أمام طغيان الغبار، وزمامير الباصات، وتزاوج الطبل والأورغ في «ورني ورني» لعمر سليمان. ولا يكتمل هذا المشهد الملحمي البائس سوى بصوت سارية السواس وهي تغني «وين امبارح سهرانة يا بنت الكلب». حينها فقط تزول الغشاوة عن العيون، ونحن نقرأ: أهلاً بكم في «كراجات سورية الأسد».

* كاتب سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى