صفحات سوريةطيب تيزيني

الكرامة قبل الخبز

 


طيب تيزيني

أتت الانتفاضات الشبابية في العالم العربي لتطرح رؤية جديدة في ضبط الأولويات، بعد أن كان الاعتقاد سابقاً سائداً بأن سيد الموقف في هذه الحال يتمثل في مطلب “الخبز” ليأتي بعده ما يأتي، ولكن الذي هيمن لأزمنة سبقت نمط من النزعة الاقتصادية التي بمقتضاها يبرز مطلب الخبز والوضع الاقتصادي عموماً في حياة الناس بوصفه الحل المدخل إلى الأزمات القائمة في العالم العربي، وقد قاد فئات من الناس ذلك المطلب إلى حالة من “التقديس النظري”، أي إلى التأكيد على أهمية حاسمة لدور “العيش” في حياة الناس، خصوصاً مع تعاظم الفقر والإفقار في أوساط الفئات الوسطى والطبقات الدنيا، وكذلك مع اتساع حقول الفساد والإفساد والرشوة، ومن ثم مع ظهور ما يسمى “مجتمعات الثمانين والعشرين”، وتقوم هذه على امتلاك عشرين بالمئة من سكان العالم العربي لثمانين من ثروته من طرف، وعلى امتلاك ثمانين بالمئة من سكانه لعشرين بالمئة من ثروته فحسب.

نعم، مع تعاظم تلك الوضعية هنا وهناك، بات “الخبز” رمزاً مباشراً لكرامة الفقراء والمفقرين، والدليل على خطورة الوضعية المذكورة أن الناس راحوا يبحثون عن لقمتهم فيما نُظر إليه في ظروف أخرى “عاراً وذلاً”، مجسِّداً خصوصاً في “تجارة الرقيق الأبيض”، وفي أهمية الرشوة وبيع الكرامة. ومن يرغب في التدقيق في هذه المعطيات تدقيقاً بحثياً علمياً، عليه أن يقوم الآن بدراسة مصداقية المثل العربي الشعبي المعروف: “تموت الحرة ولا تأكل بثدييها”، أو بما تبقى من هذه المصداقية.

والحالة التي نتحدث عنها ليست خاصة بالشعوب العربية، بل هي ظهرت لدى شعوب أخرى، أوروبية، مثلاً في القرن التاسع عشر، بالترافق مع الثورة الصناعية هناك، التي أوجدت أوضاعاً مأساوية جعلت النساء في مدينة مانشستر البريطانية، حيث توجب على المرأة منهن أن تعمل أكثر من خمس عشرة ساعة في النهار، حتى تحقق الحد الأدنى من حاجتها وحاجة أسرتها، في هذا السياق، يعلمنا التاريخ الاقتصادي الاجتماعي أن نسباً عالية من النساء رحن يبحثن عن كفايتهن المادية في تلك الحقول المذكورة (الفساد المالي الاجتماعي إلى حد خطير). نعم، في تلك الظروف كان همُّ الناس أن يلتقطوا حياتهم اليومية من كل دار ما يدخل في خانة “الفساد والإفساد”، بكل ما يقترن بهما من إذلال واستباحة.

ذلك كان وضعاً هيمن، وجعل “العيش – الخبز” أقصى ما يبحثون عنه، أما في العالم العربي الآن، وبالرغم من كل الموبقات التي تلجأ إليها النظم الأمنية في إطار تجويع “الغلابة” إلى درجة أن “حاويات الأقذار” تحوَّلت إلى مصدر لسد الرمق، نقول: رغم ذلك، حين خرج أفلاذ أكبادنا من الشباب، خصوصاً يعلنون انتفاضاتهم في وجه الظلم والقمع والإذلال، أطلّ المستبدون يبشرون بتقديم تسهيلات لهم على صعيد المازوت والخبز وغيره. فما كان من الشباب إياهم إلا أن أعلنوا بملء حناجرهم: إننا لا نتطفَّل على موائدكم!

إننا نريد حريتنا وكرامتنا، ولن نقبل شيئاً آخر دونهما. ذلك ما راح يهتف به هؤلاء في مصر وتونس وسوريا واليمن، إنه أعظم درس في دروس الحرية، لاستعادة ما يجعل البشر بشراً.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى