صفحات مميزةهوشنك أوسي

الكرد السوريون والتيّارات الإسلاميّة: تناقضات الأمزجة وضرورة منح الفرص


هوشنك أوسي

هناك ميزة هامّة ربما يجهلها الكثير من المراقبين العرب وحتّى الكرد، مفادها: إنّ الحراك السياسي الكردي السوري، قبل وبعد انطلاقته الحزبيّة الرسميّة سنة 1957، ولغاية الآن، لم يتسّم بأي توجّه إسلامي، رغم كمّ الانشقاقات الحزبيّة الكبيرة التي شهدها الجسم السياسي الكردي السوري منذ منتصف الستينات من القرن المنصرم! ولم يتّجه الكرد السوريون لتأسيس حتّى أندية وجمعيّات وروابط اجتماعيّة، ذات خلفيّات دينيّة أيضاً، فضلاً عن عدم تأسيس أحزاب دينيّة. وما زال المزاج السياسي الكردي السوري، علمانياً، قومياً أو يسارياً، أو ما يمكن اعتباره اشتراكياً ديمقراطياً، ذا منحى قومي. ويتأتّى هذا الأمر من المزاج الاجتماعي/ الشعبي الكردي السوري عموماً، إذ نجد الكرد السوريين انتسبوا للأحزاب السوريّة، الشيوعيّة (بكل اجنحتها) والناصريّة وحتّى لحزب البعث أيضاً، (لاعتبارات عدّة، لا يتّسع هذا المقام للخوض فيها). ورغم ظهور عوائل كرديّة سوريّة متديّنة، شكّلت تكيّات ومشيخات، كآل الخزنوي، الحقّي، علوان، كفتارو، البوطي، مضافاً إليها الخلفيّة القبليّة للبنى الاجتماعيّة الكرديّة في سورية، إلاّ أن ذلك لم يدفع الكرد السوريين نحو تشكيل تيّار إسلامي كردي، كما أسلفنا، ولا حتّى الانتساب لتيّارات الإسلام السياسي العربيّة في سورية، كـ”جماعة الأخوان المسلمين، حزب التحرير” أو حتّى لـ”القاعدة”. وإذا وجِد أكراد سوريون، ضمن هذه الاحزاب المذكورة، فغن عددهم، قطعيّاً، لن يتجاوز عدد أصابع اليد.

تمايز

هذه الخاصيّة، يمتاز بها الكرد السوريون عن أقرانهم في العراق وتركيا وايران. ذلك ان الكثير من أبناء الشعب الكردي في هذه البلدان الثلاثة، اتّجه لتشكيل أحزاب دينيّة كرديّة، بل انهم انتسبوا للأحزاب الدينيّة التركيّة والفارسيّة والعربيّة العراقيّة. ففي كردستان العراق، هنالك أكثر من حزب إسلامي، وبل شكّل الكرد هناك تيّارات إسلاميّة جهاديّة سلفيّة متطرّفة، مرتبطة بـ”القاعدة”، كـ”جماعة انصار الإسلام”. وفي كردستان تركيا أيضاً، كانت وما زالت قطاعات واسعة من الشعب الكردي منتسبة للأحزاب التركيّة الإسلاميّة (حزب العدالة والتنمية الحاكم AKP، حزب السعادة الاسلامي SP المعارض، حزب الله التركي المتطرّف). فضلاً عن انتساب عدد من كرد تركيا الى “القاعدة” للقتال في افغانستان والعراق والشيشان. دون ان ننسى قطاعات كرديّة واسعة أخرى، كانت وما زالت منتسبة وموالية للأحزاب القوميّة التركيّة (يمين الوسط)، كحزب الشعب الجمهوري CHP، والاحزاب التي خلفت حزب الوطن الأم ANAP (حزب الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال) وحزب الطريق القويم DYP (حزب الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل)، ولأحزاب يسار الوسط (حزب الشعب الاشتراكي الديمقراطي SHP (اسسه أردال إينونو، (نجل الرئيس التركي السابق عصمت إينونو)، ناهيكم عن انتساب الكرد وبكثافة أيضاً إلى الاحزاب اليساريّة التركيّة المتطرّفة!. ولكن، تبقى نسبة الكرد السوريين الذين انتسبوا للأحزاب القوميّة واليساريّة العربيّة السوريّة، قليلة جداً، ولا يمكن مقارنتها بانتساب كرد تركيا للاحزاب القوميّة واليساريّة التركيّة بكثافة.

تواطؤ خفي

أثناء إعلان جماعة الإخوان المسلمين تمرّدها المسلح ضدّ النظام السوري سنة 1979، وقف الكرد السوريون والحركة السياسيّة الكرديّة على الحياد من الصراع الدموي الذي جرى وقتئذ على السلطة بين الاخوان والنظام السوري. وهذا ما دفع الأخوان، في الكثير من الأحيان، الى الجهر باتهام الكرد، بأنهم (عملاء النظام السوري!). في حين ان النظام، والأحزاب الملحقة به (الجبهة الوطنيّة التقدميّة) دأبت على تشويه صورة الكردي السوري في المجتمع العربي على انه (انفصالي، وعميل لأميركا واسرائيل والقوى الخارجيّة المتربّصة بالوطن والنظام الحاكم). وهنا، تقاطعت جماعة الأخوان المسلمين مع النظام السوري في حيثيّة تشويه الكرد السوريين وتجاهل دورهم الوطني المقاوم، أثناء الاحتلال الفرنسي وبعده. وبالتالي، كانت هنالك حالة انتقام غير معلن، من قبل النظام السوري والاخوان المسلمين من الكرد السوريين؛ النظام بقمع وتهميش الكرد وصهرهم وإصدار المراسيم والقوانين العنصريّة بحقّهم وتأليب الرأي العام العربي المحلّي ضدّهم: وجماعة الأخوان، عبر التشهير بهم وزجّهم في خانة النظام والمدافعين عنه. وللأسف، ما زال هذا التواطؤ الخفيّ بين نظام الأسد وجماعة الاخوان المسلمين السوريّة، ضد الشعب الكردي في سورية، ساري المفعول، ولو بشكل غير معلن. فرغم وصول سكين الثورة السوريّة والضغوط الإقليميّة والعربيّة والدوليّة لعظم النظام، ورغم الانخراط القلق وغير المستعجل للشعب الكردي في حركة الاحتجاج التي تشهدها سورية، وقد أتى الصديق بدرخان علي على سرد بعض أسباب وخلفيّات هذا الانخراط الحذر، في مقالٍ له بعنوان: “الحراك الكردي في سورية: الانخراط الحذر في الثورة” (“الحياة” 28/12/2011)، رغم ذلك، فإن النظام لم يخطُ أيّة خطوة جادّة نحو حقوق ومطالب الشعب الكردي وحلّ قضيّته العادلة، ضمن مزاعم النظام بأنه يقود حركة إصلاح جدّي وجذري في البلاد وإيجاد حلول لقضايا البلاد العالقة! ذلك أن النظام، وتحديداً رأسه، قادر على إصدار مرسوم يقضي بتعديل مواد في الدستور، بحيث يعترف بوجود الكرد كثاني قوميّة في سورية، لها حقوق سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة محددة ومصانة! ولو نحا النظام هذا النحو، غالب الظنّ ان المعارضة السوريّة، لن تنقلب على منح الاسد الكرد السوريين حقوقهم، إن هي استلمت السلطة!. وإلاّ، لظهرت المعارضة السوريّة بمظهر دكتاتوري واستبدادي وقمعي للكرد ومطالبهم، أكثر من نظام الاسد!. لكن النظام لم يفعل ذلك، رغم انه يلفظ أنفاسه!. وبالتالي، إذا كان هنالك ما يمكن وصفه بـ”البراغمانيّة الكرديّة السوريّة” على أنها هي التي تقف وراء انخراط الكرد السوريين، المشوب بالحذر، في الانتفاضة السوريّة، فالتجربة، وبعد مضي نحو عشرة أشهر على الثورة السوريّة، وإصرار النظام على عدم منح الكرد عُشر حقوقهم الوطنيّة الديمقراطيّة، أثبتت ان تلك البراغماتيّة غير مجديّة، إن لم تكن فاشلة!. بخاصّة، بعد الخطاب التهديدي، الوعيدي، الهزلي، الأخير، للرئيس السوري!

في موازاة رفض النظام للحقوق الكرديّة، وسكّين الثورة على رقبته، تلعب جماعة الاخوان المسلمين، دوراً سلبيّاً في عدم إقرار الحقوق الكرديّة، بشكل واضح ومنصف وعادل، ضمن وثائق تكتّلات المعارضة السوريّة، بخاصّة في “المجلس الوطني السوري”. وحين يبدي الكثير من النخب السياسيّة والثقافيّة الكرديّة تبرّمهم وتوجّسهم وامتعاضهم وانتقادهم للدور والسلوك والتأثير السلبي للأخوان في توجّه ومسار “المجلس الوطني السوري”، فهذا لا يعني ان “هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي”، قد انصفت الشعب الكردي في سوريا، وأقرّت بشكل واضح وعادل وحازم كامل حقوق ومطالب الكرد في وثائقها!. وبحسب الكثير من آراء المثقفين الكرد السوريين، ليس هناك ثمّة تباين كبير بين البيئات السياسيّة والذهنيّات والتوجّهات الفكريّة لبرهان غليون وحسن عبدالعظيم، لجهة التعاطي الملتبس والمشوّش والاستثماري مع الكرد السوريين، وعدم الاقرار الجليّ بعدالة مطالبهم، وتحديدها وتثبيتها. وإذا كان مفهوماً أن مواقف “المجلس الوطني السوري” من الكرد، ناجمة عن طغيان الأخوان المسلمين وتأثيرهم، ومن خلفهم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، فمن غير المفهوم والمبرر، ضبابيّة وعدم إنصاف هيئة التنسيق الوطني للكرد السوريين، بشكل يطمئن الكرد ويقلل من هواجسهم! ويبدو أن سلوك هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي ينطوي على حالة “مكاسرة” أو “مزايدة” قومويّة مع “المجلس الوطني السوري” من جهة، ومع النظام السوري، من جهة اخرى، حيال التعاطي غير المرضي وغير المنصف للحقوق الكرديّة في سورية.

ضرورة منح الفرص

أيّاً يكن من أمر، على الكرد السوريين وأحزابهم السياسيّة أن يمنحوا فرصة للتيّارات الإسلاميّة، حتّى لو وصلت للحكم، في نظام مابعد الأسد. وهي حتماً واصلة للسلطة، ولا يمكن للكرد الحؤول دون ذلك. وأن استلامها للسلطة في سورية مابعد الأسد صار في حكم تحصيل الحاصل، بصرف النظر عن المخاضات وآلام إسقاط النظام نهائيّاً، وفق فرضيّة مفادها: إن الثورات في المنطقة، أنعشت حظوظ الإسلام السياسي، بنسخته الأخوانيّة، للوصول الى الحكم في المغرب وتونس وليبيا ومصر. ويمكن للكرد السوريين الاستفادة من تجربة حزب العمال الكردستاني، (اليساري القومي)، الذي يمنح الفرصة تلو الاخرى لحزب العدالة والتنمية، مبدياً مرونة مع الحزب التركي الإسلامي الحاكم منذ سنة 2002، ولغاية لحظة كتابة هذه الاسطر، في مسعى لإيجاد منفرج سلمي للقضيّة الكرديّة في تركيا. ولم يتخلَّ الكردستاني وزعيمه أوجلان عن التواصل المباشر وغير المباشر مع الحكومة التركيّة الإسلاميّة. في حين، لا تبدو مواقف الكردستاني مبررة ومقنعة، في مسألة التهويل والتخويف من وصول الإسلاميين للسلطة في دمشق، ورفضه أي نوع من أنواع الحوار والتواصل بين الكرد السوريين، (بخاصة الموالين له: حزب الاتحاد الديمقراطي) مع جماعة الأخوان المسلمين السوريّة!، بحجّة أن الأخيرة، موالية تماماً للحكومة التركيّة. وبالتأكيد، هذا الاتهام في محلّه. لكن من يسعى للتفاوض مع تركيا لحل القضيّة الكرديّة، يجب عليه ألاّ يعيب على الكرد السوريين إن همُ دخلوا في حوارات وتفاهمات مع التلاميذ جماعة الاخوان المسلمين السوريّة، في مسعى لإقناع الأخيرة بقبول حقوق الشعب الكردي السوري. وإذا كان العمال الكردستاني قد فشل، أقلّه حتّى الآن، في إقناع الأخوان المسلمين الحاكمين في تركيا، بحقوق ومطالب كرد تركيا، الجد معقولة، فهذا لا يعني بالضرورة ان الكرد السوريين سيفشلون في إقناع الاخوان المسلمين السوريين، بعدالة القضيّة الكرديّة، ومشروعيّة حقوق الكرد السوريين.

وما على العمال الكردستاني القيام به ازاء عدم الحؤول دون التواصل مع الاسلام السياسي السوري، ينحسب على قادة كردستان العراق أيضاً. ذلك ان تصريحات الرئيس العراقي، وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال طالباني، وتهويله من وصول جماعات إسلاميّة للسلطة في دمشق، هي ايضاً غير مقنعة، وبل تبدو جدّ ركيكة ومشتبها بها. لجهة ان قادة كرد العراق، يتحالفون مع حكومة إسلاميّة، طائفيّة تحكم العراق منذ سنوات، (المالكي وقبله الجعفري)، وهم على علاقة وطيدة مع الحزب الاسلامي العراقي (السنّي)، وكل الاحزاب الإسلاميّة العراقيّة، الشيعيّة والسنيّة. زد على ذلك أن قيادة كردستان العراق، تربطهم علاقات جد قويّة بالنظام الايراني، الإسلامي، الطائفي، ومع حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا!. والحال هذه، يبيح قادة كردستان العراق لأنفسهم، ما يحرّمونه على كرد سورية، وبل ويهوّلون من قدوم الاسلاميين للسلطة في سورية. ووجه الغرابة هنا، أن زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال طالباني، لطالما عُرفت عنه تصريحاته الزئبقيّة المتأرجحة، إلاّ فيما يخصّ في مدحه للأسد الأب، ومحاولته كسب ودّ الأسد الأبن، طيلة السنوات السابقة! في هذه الحيثيّة، تبدو تصريحات طالباني، في غاية “الثبات والمبدئيّة” والإصرار على رغبته إعادة مياه علاقاته بالنظام السوري، وآل الأسد تحديداً، لسابق عهدها!

بتقديري، آن لكرد سورية، معرفة حجم وخلفيّات التهويل المبالغ فيه، الذي يمارسه القادة الكرد غير السوريين من نظام مابعد الأسد في سورية، للحوؤل دون أخذ الكرد السوريين دورهم الريادي والطليعي في حركة الاحتجاج الثوريّة التي تشهدها سورية ضد طغمة الأسد! وبما أن الكرد السوريين، جرّبوا نظاماً شمولياً دكتاتورياً قمعياً ودموياً، من طينة النظام البعثي، طيلة خمسين سنة، فلا ضير من محاولة منح فرصة لجماعة الأخوان المسلمين السورية، وتجربتهم لخمس سنوات على الأقل!. ذلك أنه من مقتضيات العقلانيّة والموضوعيّة السياسيّة والوعي والمراس الديمقراطي الناضج، عدم إطلاق الأحكام على التيّار الإسلامي السوري دون وضعه في اختبار السلطة. وإذا كانت السلطة هي هاجس وهدف كل تيّار أيديولوجي، عقيدي، أكان دينياً أم علمانياً، فصحيح أيضاً ان السلطة هي امتحان واختبار لكل الأيديولوجيّات، لمعرفة منسوب اخلاصها لمبادئها ووعودها. وبالتالي، على الكرد السوريين عدم الأخذ كثيراً بجدّية حملات التهويل والتخويف من وصول الإسلاميين للسلطة، بهدف الحؤول دون الانخراط الكامل للشعب الكردي السوري في الثورة السورية وإسقاط النظام الحاكم. دون أن ننسى أنه منذ ولادة حركة الأخوان المسلمين، ولغاية الآن، لم تجد هذه الجماعة أيّ حضور لها بين الكرد السوريين. ليس لأن الجماعة لم تسعَ لذلك، بل لأن المزاج المجتمعي والسياسي والثقافي الكردي السوري، وطيلة هذه المدّة، هو مزاج طارد وممانع للإسلام السياسي، بالضدّ من المزاج المجتمعي الكردي في تركيا والعراق وايران.

ما هو مفروغ منه، أن الكرد السوريين، وبحسب وزنهم الاستراتيجي وحجمهم وتوزّعهم الديموغرافي، في مطلق الأحوال، لن تستطيع جماعة الأخوان، اثناء استلامها للسلطة، أن تفعل بهم، ما فعله نظام البعث/الاسد، من قمع وسحق ومنع وتهميش وإقصاء وطمس وصهر…، على مدى نصف قرن، مهما بلغت جماعة الاخوان المسلمين من جبروت ودعم تركي وعربي، وحتّى دولي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى