صفحات سورية

الكرد الفيليّة: على درب المأساة مجدداً/ شورش درويش

 

 

مجدداً أُحضر الكرد الفيليّة إلى ساحة الخلافات السياسية العراقية، فبيان الحكومة العراقية في ما خص استفتاء استقلال كردستان يتناول في جوانب منه مصير الكرد الفيلية إلى جوار الكرد القاطنين خارج حدود الإقليم أو المناطق المتنازع عليها. ذلك أن البيان حدّد وجوب استفتائهم على الاستقلال، وما سيحمله ذلك من تبعات وآثار قانونية تطال بقاءهم في العراق الجديد الذي سيتشكل عقب «الاستقلال» وما يستتبعه الأمر من سحبٍ للجنسية العراقية وانتزاع أملاكهم غير المنقولة وتجريدهم من وظائفهم ومناصبهم وتوقيف دراستهم ، وبالتالي معاملتهم كمقيمين يخضعون لقانون الإقامة العراقي، في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان مآسي الكرد الفيلية المديدة.

معاناة الكرد الفيلية كانت مزدوجةً منذ تشكّل الدولة العراقية في 1920 – 1921: فالعراق الوريث للدولة العثمانية بقي أسير الطبقة العسكرية العربية السنية الحاكمة،و التي بالغت منذ تسلمها الحكم في التشكيك بالعناصر غير العربية وخاصةً غير السنية منها، كحال الفيلية، الذين هم كرد شيعة وفدوا إلى بغداد وسكنوا الجانب الشرقي منها، في الشورجة وعكد الأكراد وباب الشيخ، ثم لاحقاً مع تنامي الطبقة الوسطى، في مناطق شارع فلسطين وحي العقاري، وكذلك العديد من المناطق العربية العراقية في العمارة وديالى والكوت والنجف وفي مستوطنة بالقرب من الكوفة. فمنذ اعتناقها المذهب الشيعي وهجرتها من موطنها الأصلي في لور الصغرى، المقسمة بين إيران والعراق، أجادت الفيلية الاندماج في المجتمعات العربية والعراقية.

أحدث قانون الجنسية العراقي في 1924 الصدع الأول داخل المجتمع العراقي الجديد حين قسم المواطنين إلى درجتين، وطبيعي أن يحظى معظم الفيلية بالدرجة الثانية. وبدوره أمعن رشيد عالي الكيلاني خلال توليه حقيبة الداخلية في العهد الملكي في مهمة تهجير بعض الفيلية إلى خارج الحدود، ليستمر العمل في عهد الأخوين عارف اللذين وضعا قوانين للجنسية العراقية وفق شروط يفهم منها أنها تستثني الفيلية وتبقيهم مواطنين من الدرجة الثانية وعرضة للطرد والإبعاد. ومع تسّلم أحمد حسن البكر الحكم وفي فترة 1971 – 1972 تعرّض الفيلية لأولى حملات التهجير الجماعي والتي تضاعفت مع قيام صدام حسين، قبيل حرب الخليج الأولى، بتهجير ما يقارب ربع مليون فيلي إلى إيران بعد مصادرة أملاكهم وعقاراتهم، وذلك بناءً على التوصيات التي كتبها مدير المخابرات العامة فاضل البرّاك المقرب من صدام، والذي اعتبر الفيلية «إيرانيين»، أي ليسوا كرداً عراقيين، وأنهم يمثلون تاريخياً، إلى جانب اليهود، الطابور الخامس في العراق، لتكون مسألة التهجير الجماعية تلك أشبه بعمليات «الفرهود» في الأربعينات والتي ابتدأ معها مسار تهجير يهود بغداد ونهب ممتلكاتهم. وقبل ذلك كان «قانون مار شمعون» في 1933 الذي حاول مشرعو بغداد إصداره لسحب الجنسية وطرد الآثوريين إبان تمرد مار شمعون، والذي سارعت بريطانيا وفرنسا إلى تعطيله.

نأى الكرد الفيلية بأنفسهم عن العمل في الشأن العام قدر استطاعتهم، بيد أن السياسات القومية والنخب السنية دفعتهم إليها دفعاً، فتوزعوا إلى اتجاهاتٍ سياسية متباينة أهمها، حزب الدعوة الإسلامي، والحزب الشيوعي العراقي الذي تزعمه الكردي الفيلي عزيز الحاج، والحزب الديموقراطي الكردي ( تحول لاحقاً إلى كردستاني) والذي ساهم في تأسيسه السياسي الفيلي جعفر محمد كريم، وكذلك الدور المهم للمساعد الشخصي للملا مصطفى البرزاني، حبيب كريم الذي رشحه الحزب لمنصب نائب رئيس الجمهورية إبان اتفاقية آذار ( مارس) 1970، والذي أشيع أن البعث كان يصر على رفض ترشيحه على اعتباره فيلياً بحيث يكون قبوله اعترافاً بكردية الفيلية أي نفي أصولهم الإيرانية، وإلى جوار هذه الأسماء المؤثرة في مسيرة الكفاح السياسي والعسكري الكردي يحضر اسمان لأبرز مؤسسي الاتحاد الوطني الكردستاني وهما رزاق مرزا وعادل مراد (تولّى الأخير رئاسة اتحاد طلبة كردستان) .

خلال المفاوضات التي خاضها الاتحاد الوطني ونظام البعث لم تغب مسألة الكرد الفيلية عن جلسات المفاوضات إلى درجة أن بنود المطالب الكردية في 1984 قد طوت مطلب إعادة الجنسية للكرد الفيلية وتوطينهم في بغداد أو كردستان وكذا تعويضهم تعويضاً عادلاً، إلّا أن انهيار المفاوضات واشتعال الحرب بعد ذلك بعام أدى إلى طمس ملف مأساة الفيلية، ليطفو إلى السطح مجدداً من خلال «الجبهة الكردستانية» في 1991 والتي طالبت بعودة وتعويض المتضررين الفيلية.

تلوّح بغداد، التي افترضَ الفيلية أنها ستكون رحيمةً بهم قياساً بالأنظمة القومية المتعاقبة، بتهجير جديد يطال الكرد الفيلية ويطال حقوقهم المدنية ربطاً بين الاستقلال الكردي وبين وجود عناصر كردية في الحواضر التي سيتشكل منها العراق الجديد، ودائماً لدواعي الأمن القومي للعراق الجديد الذي سيتشكل بعيد الاستقلال (وفقاً للبيان الحكومي)، إذ تعرف بغداد ثقل هذا الملف حين تضعه على طاولة الإقليم الذي تكيفت بنيته الاجتماعية السنية العريضة مع تقبل هجرة عشرات آلاف الكرد الشيعة إلى حواضره السنيّة، كما تعرف بغداد مقدار الارتباط بين الفيلية والعتبات المقدسة ومعاني دفن الفيلية موتاهم في مقابر النجف، وتعرف بغداد مقدار الأذى المالي الذي سيطال الفيلية جراء عملية نزع الأملاك غير المنقولة وإلحاقها بدائرة أملاك الدولة العراقية.

يبدو أن شيعية الفيلية لن تشفع لهم في بغداد المحكومة بأنفاس شيعية، فهل ستقدر كردستان على استيعاب وتضميد جراح الكرد الفيلية، وهل ستنجح في دمجهم في مجتمع أثار ألف لغط حين أقام زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني «حسينيّة» واحدة في السليمانية؟

لقد أُحضر الفيلية مرغمين إلى طاولة البازار السياسي، وبالتالي تمّ تحويلهم إلى جزءٍ من اللعبة التي ستخوضها بغداد، والحال أنه لم يبق أمام كردستان سوى أن تفسح للوافدين الجدد مساحاتٍ محترمة ليكونوا فيلية كردستان، بعد أن كانوا كرد بغداد الفيلية.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى