صفحات الناسعلي العائد

الكرد والعرب في الجزيرة وجوار حلب: صندوق «باندورا» السوري يطلق كل الشرور/ علي العائد

 

 

بين الجد والمزاح، أطلق كردي على جورج بوش الابن، بعد احتلال الجيش الأميركي للعراق، لقب «أبو آزاد».

بينما كان صديق كردي يردد أن الكرد، حين يعلنون دولتهم المستقلة، سيقولون للعرب الذين يعيشون تحت حكمهم، إذا طالبوا بحقوق متساوية مع الأغلبية الكردية في تلك الدولة «نحن الآن محاصرون بالأعداء، وعندما ننتهي منهم ستأخذون حقوقاً متساوية معنا»، في إشارة إلى ما كان يردده نظاما الحكم الأسديان في سوريا في وجه مطالبة الكرد بحقوقهم الثقافية والمساواة مع بقية الأعراق والاثنيات في سوريا في الحقوق والواجبات.

أيضاً، كان هذا الكلام بين الجد والمزاح.

أياً يكن، لايزال الحلم الكردي يراوح بين المعلن في حديث هذين المناوئين للنظام بوضوح، وبين كلام يجري في السر داخل القوى الكردية السياسية، وبين النظام وما يمكن أن يطلق عليه «ممثلو الكرد» في السر أيضاً.

خرج الكرد في انتفاضتهم عام 2004، التي امتدت من القامشلي وبعض ريف حلب، وأحياء في حلب تقطنها أغلبية كردية، إلى حي جبل الرز في ربوة دمشق، فوقف كثير من السوريين غير الكرد في شك مما يجري؛ صحيح أنهم يعرفون ما يضمر النظام السوري ويُعلن من قمع وتخوين للسوريين جميعاً، من دون استثناء، لكنهم في شك مما يضمره «الآخر»، في ظل عماء قومي عربي، يصل به الغباء حد إطلاق تعبير «الكرد عرب سوريون».

قبل ذلك، تعرض الكرد للقمع والاعتقال والاغتيال على امتداد الحكم البعثي لسوريا منذ بداية ستينيات القرن الماضي، مثلهم مثل باقي مواطنيهم، دون زيادة، أو نقصان، مما تعرضت له الأعراق والاثنيات المشكلة للفسيفساء المربكة في سوريا، وفي المشرق العربي كله.

ولا يزيد المراقب، شكاً أو يقيناً، في الداخل والخارج، أن الكرد مكون أساسي في النسيج السوري، لكن البديهي الطبيعي تحول على يد البعث القومي العربي إلى كارثة أسطورية تروى من جيل إلى جيل، إن صح التعبير. فأدخل البعث كل المكونات في صندوق «باندورا» الذي أخفى فيه كل القوى والمشاعر الحية في المجتمع، بما فيها الكرد، متناسياً تاريخها وحاضرها، وتطلعاتها المستقبلية، التي لا تنتهي عند المطالبة بحقوقها السياسية والاقتصادية فقط، ولا تبدأ عند حق الحياة والتمتع بجنسية البلد الذي تعيش فيه، بل وصل الأمر إلى تمييز عنصري من باب الاقتصاد والعمل ولقمة العيش.. مثلاً: معظم العاملين في المطاعم والكافيتريات، وماسحي الأحذية، هم من الكرد، وتجد هذا في معظم المدن السورية، حتى التي لا يشكلون فيها ثقلاً بشرياً مهماً. الأدهى أن بعضاً من الكرد يحلم أن تصبح مهنته «كرسون» في مطعم، وشكا لي أحدهم في الرقة منذ أكثر من عشرين سنة «لو كنت أكتب لأصبحت منذ زمن طويل كرسوناً».

حالة «القناعة الدونية» هذه جعلت الكردي «يهاجر» من أرياف القامشلي إلى حلب، أو من أرياف حلب إلى دمشق، في حلم العمل نادلاً في فندق، أو كرسوناً في مطعم. ومن كانت يداه خشنتان كفاية، سيجد في أعمال البناء الشاقة فرصته، مثله مثل معظم أبناء الجزيرة السورية الذين يعملون في لبنان، وفي ريف دمشق، مياومة، أو فصلياً، ومنهم من استقر «مستوطناً» في أحزمة الفقر، التي ازدادت اتساعاً لتحيط بدمشق، بل وبمحافظة ريف دمشق نفسها.

لكن الدخول في صدر «الكردي»، وما يخفي عقله السياسي، وما يخفي الجناح العسكري في الحزب الذي ينتمي إليه، عن «الآخر» العربي في جواره، أذكى حالة عدم الثقة، التي تتغذى على الإشاعات المتبادلة بين الطرفين. ليبقى الأمر الذي نخشى منه، في مثل هذه الفوضى التي تعيشها الجغرافيا السورية، هو حالة الانتقامات المتبادلة بين «الآخر العربي»، و»الآخر الكردي» المتجاورين في الجغرافيا والتاريخ، كون ذلك قد يتجاوز فوضى السلاح بين محترفي القتل في الطرفين، وكون فائض القوة يولد خشية توارث «ثارات» بين قبائل عربية وقبائل كردية، تولد مزيداً من القتل، حتى بعد أن تصمت البنادق.

«الآخر»

مع بدايات الثورة السورية، بدأت ظلال الشك تزداد قتامة عند الحديث عن الكرد ودورهم في الثورة السورية، وعند الحديث عن حقيقة موقفهم منها، أفراداً، وجماعات، أي بين ما هو معلن وما هو باطن. بعضهم، يخمن أن الكرد، وبإطلاق، يستغلون الفوضى لانتزاع حقوق، مختلف عليها حتى بين الكرد أنفسهم، وتقع بين حدي «الحقوق الثقافية، وحق التملك، والحق بالجنسية»، وحد المطالبة بالفيدرالية، وصولاً إلى الاستقلال بدولة كردية في سوريا؛ بعض آخر يردد أن مصطلح الشوفينية التي يطلقها بعض المثقفين الكرد ضد العرب، تقمصها الكرد وصاروا شوفينيين بدورهم، وهنالك من ابتعد بالأمر إلى حد اتهام الكرد بتقمص حالة «المظلومية»، قياساً مع ما قال به اليهود عن المحرقة و»اللاسامية»، وما يعيشه بعض الشيعة من تقمص لحالة المظلومية، والمناداة بالثأر حتى آخر الزمان.

الظلم وقع على كل تلك الأطراف، أما مصطلح المظلومية فهو فضفاض كثيراً، بالمعنى النفسي للكلمة على الأقل، خصوصاً عندما تحول اليهودي المظلوم إلى ظالم بامتياز بعد تمكنه من امتلاك القوة. ونلاحظ الآن بدايات لظلم شيعي في مناطق تمكن فيها الشيعي من امتلاك القوة في لبنان واليمن والعراق، وكل الخشية أن يطبق الكردي، مظلوم الأمس، هذه النظرية ويصبح ظالماً اليوم لـ «ظالمه» بالأمس.

وأما تحديد الظالم الحقيقي للكرد في هذه الفوضى الفكرية، وتحت أصوات الرصاص، فلابد أنه ترف لا يطاله أي من المظلومين المتساوين في الشقاء، بالأمس واليوم.

مع ذلك، هنالك أصوات تخرج من هذا الطرف العربي، وذاك الطرف الكردي، تنبه إلى الخصومة مع الظلم وفاعله بالأصالة، وهو نظام بشار الأسد.

وحتى لا يضيِّع المظلومون بوصلة «ثأرهم»، ينبه هؤلاء إلى أن النظام وحده مَنْ وزع ظلمه بنسب متفاوتة على رعاياه، نسب تتغير حسب الزمان والمكان والأسباب المباشرة، فكل من لا يعزف نشازاً في لحن السلطة الرتيب، سينال نصيبه من قرع الطبول، في أمنه وأمانه ولقمة عيشه.

فضائل «داعش«

مع متابعة العالم لحالة النزوح من عين العرب «كوباني»، هرباً من تمدد شبح داعش في شرق حلب، وشمالها الشرقي، خفت الحديث عن القتال العربي الكردي في القامشلي، وأخبار المذابح على الهوية، ونالت مأساة النزوح نصيباً كبيراً في التغطيات الإعلامية.

هذه إحدى فضائل داعش التي لم يتقصدها تنظيم الدولة «اللاإسلامية».

هنالك فضيلة أخرى «لداعش« في حدث النزوح، وهي، للمفارقة، أنه جعل الكردي يلجأ إلى الجار التركي، «عدو» الأمس، متناسياً إلى حين يبرد جرحه، «عدويه» العربي والتركي.

هو، الآن، لا يتذكر سوى عدوه الظاهر «داعش»، على أمل أن لا ينسى اللاجئ الكردي أن أصل الشرور هو من أطلق «داعش« من صندوق «باندورا»، وأن الأمل لايزال حبيساً في هذا الصندوق.

الفضيلة الثانية لداعش أن الجار العربي التقى مع الجار الكردي في تركيا، وقد أصبحا متساويين في المأساة، وعلى المتضرر من اكتشاف هذه الحقيقة الابتعاد ما أمكنه عن السؤال: من هو صاحب المأساة الأكبر تاريخياً؛ فخيمة اللاجئ الأول لا تختلف عن خيمة اللاجئ التالي، هذا إن وجد اللاجئان خيمتين تحميهما، رغم أن الجرح المفتوح للاجئ المستجد أشد إيلاماً من جرح اللاجئ الذي التأمت جراحه واستوطن المخيم.

أما الصورة المثالية التي لا يحلم أحدنا بحصولها فهي مشاركة لاجئ عتيد خيمته، أو بيته، مع لاجئ مستجد، وإن حدث هذا فهي حالات نادرة، خصوصاً أن ناشطي فيسبوك من الكرد عمموا عتبهم على الكرد الأتراك في أورفة، الذين قصروا في إغاثة إخوانهم الكرد السوريين، من دون إغفال أصوات خافتة تعتب على العرب الأتراك، وعلى اللاجئين العرب السوريين، وعلى الدولة التركية، الذين قصروا في إغاثة اللاجئين وإيوائهم.

يبقى جرح الكردي مفتوحاً، وجرح «آخره» في سوريا مفتوحاً، ما دامت البلاد قبائل سياسية وعسكرية، وما قبل إنسانية «داعشية«، تتحكم كلها في أقدار الناس، الذين لا يعنينهم من الحياة سوى أن يبقوا أحياء، بانتظار الأمل الحبيس في صندوق «باندورا» سوريا.

()كاتب وصحافي سوري.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى