مراجعات كتب

الكرنفالات الشعبية والأنثروبولوجيون: بحث في ما وراء المسرحة والأقنعة الطقوسية/ محمد تركي الربيعو

 

 

قبل أسابيع قليلة من الآن، أصدرت دار المتوسط للنشر، كتابا بعنوان «الكرنفال في الثقافة الشعبية». وقد ضمّ الكتاب، الذي جمعت نصوصه وترجمتها الباحثة العراقية خالدة حامد، عددا من الأبحاث والدراسات لباحثين في حقل الانثروبولوجيا، ممن حاولوا الكشف عن الشيفرات الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية التي تتضمنها حياة هذه الطقوس والمواسم الدينية.

أول ما يلفت النظر في الكتاب، هو أن غالبية الأبحاث المنشورة فيه (ثلاثة من أصل خمسة) كانت قد تطورت لدى كتابها ونشرت لاحقا بشكل أوسع كما في حالة دراسة الأنثروبولوجي الأمريكي كليفور غيرتز»صراع الديكة في بالي»، والتي صدرت قبل سنوات في كتابه تأويل الثقافات عن المنظمة العربية؛ وهو ما ينطبق أيضا على دراسة الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي «الأنثربولوجيا الكولونيالية لعيد الاضحى: بحثا عن دين ضائع» والتي طوّرها لاحقا في كتابه الثقيل «الأضحية وأقنعتها» الصادر عن دار توبقال، وكذلك ينطبق الأمر على دراسة جون ستيوارت حول الثقافة الشعبية.

ربما قد تزول هذه الحيرة، المتعلقة بإعادة ترجمة هذه الدراسات ونشرها، عندما نلاحظ أن المترجمة قد جمعت هذه الأعمال، بطريقة تتيح لنا فهم كيفية تطور رؤية الانثروبولوجيين أو بعضهم للطقوس. وكيف قرؤوا هذه الطقوس ورمزيتها، محاولين الخروج بها من معناها الشعبي لدراسة الطبقات الخافية أو المستترة في هذه الطقوس، خاصة فيما يتعلق بالأبعاد السياسة، والاقتصادية الثاوية وراء هذه الاحتفالات، عبر توجيه الوصف نحو السيرورات اليومية بدل حبسها في تمثلات منفصلة عن الأفعال الاجتماعية.

في نص «الكرنفال والكرنفالي» لميخائيل باختين والذي ربما يترجم لأول مرة للعربية، نعثر على قراءة مبكرة، وهي من القراءات التي بنى عليها الكثيرون لاحقا فيما يتعلق بموضوع مسرح الكرنفال واللاعبين عليه.

إذ يرى باختين أنه عادة ما تعلّق في الكرنفالات القوانين والممنوعات والضوابط التي تحدد بنية الحياة الاعتيادية؛ وأول ما يُعلّق هو البنية التراتبية وجميع أشكال الرهبة والتقوى والضوابط المرتبطة بها: أي تعليق كل ما ينتج عن اللامساواة السوسيوـ تراتبية، أو أي شكل من أشكال اللامساواة بين الناس. وهو وضع مضاد للعلاقات السلطوية التي تتضمنها الحياة اللاكرنفالية، أي الاعتيادية.

وبالإضافة لذلك، فإن ثمة صفة أخرى تصاحب الكرنفالات، تتعلق بما يدعوه باختين بـ «توظيف الأشياء بالعكس» عبر استبدال الملابس الداخلية بالخارجية، وبالعكس، أو ارتداء الملابس بالمقلوب، ووضع السراويل على الرأس، والصحون بدلا من غطاء الرأس، واستخدام الأدوات المنزلية كأسلحة وغيرها. وهذا مثال خاص وفق باختين على مقولة الغرائبية الكرنفالية، والتي تتمثل في انتهاك المعتاد وسحب الحياة من مسارها المعتاد.

ودراسة باختين هذه، عُدّت بالنسبة للعديد من الانثروبولوجيين والمهتمين بدراسة الثقافة الشعبية، بمثابة العتبة أو المقدمة لبحث أوسع في موضوع الكرنفالات، كما في حالة الانثربولوجي الانكليزي فيكتور تيرنر، الذي طوّر من نظرية باختين السابقة حول «طقوس العبور» المصاحبة لهذه الكرنفالات، وإسقاطها على سيرورة المجتمع. فكما في الطقوس، فإن المجتمعات أيضا تعيش حالات عبور شبيهة بحالة الكرنفالات. هذه المقاربة مكّنت تيرنز من تطوير فكرته حول «وضعية العتبة»، والتي يعلق فيها الشخص بين المرحلة الأولى والثالثة (المراهقة والخطوبة مثلا).

وكان الأنثروبولوجي الأمريكي والتر ارمبراست، قد تنبه لفكرة تيرنر السابقة، خاصة حول شخصية الحاوي، الشخصية المركزية التي تسيطر على المسرح في فترة ما بين البين، وهي شخصية غالبا ما تمتاز بالفكاهة والغرابة، لكنها في الآن ذاته قادرة على إثارة البلبة في ظل فترة العتبة، التي تتسم بمستويات مرتفعة من اللاثقة، والتوتر. وقد حاول ارمبراست دراسة واقع الثورة المصرية من هذه الزاوية، عبر النظر إلى الثورة بوصفها تعيش حالة من الانتظار بين النظام السابق، والنظام الجديد. الأهم من ذلك، أنه استطاع من خلال شخصية الحاوي، إعادة قراءة خطاب بعض الأصوات الإعلامية المتقلبة، والتي اشتهرت بعد الثورة، كما في حالة الإعلامي المصري توفيق عكاشة، والذي يستحق، بنظر ارمبراست، وبجدارة أن يُطلق عليه لقب «حاوي الثورة المصرية» عبر فكاهته، وتقلباته، وحالة القلق، واللاثقة التي ينشرها.

وبالعودة للكتاب، يمكن أن نشير في سياق الحديث عنه إلى دراسة الانثروبولوجي الأمريكي التأويلي غيرتز «نزال الديكة في بالي بوصفه لعبة». إذ تجري نزالات الديكة في حلقة قطرها خمسون مترا مربعا، وعادة ما تبدأ قبل العصر وتستمر لثلاث أو أربع ساعات حتى الغروب. ويتألف برنامج اللعب من تسع أو عشر مباريات منفصلة، وتكون كل مباراة مشابهة لغيرها تماما من حيث النمط العام. يطير كلا الديكين في اتجاه الآخر على الفور، ليبدأ بالضرب بالأجنحة ونقر الرؤوس والرفس بالأرجل، وخلال لحظات يسدد أحد الديكين ضربة قوية للديك الآخر، وتبقى المباراة قائمة إلى أن يهلك أحد الديكين.

ترافق هذه اللعبة وفقا لوصف غيرتز مجموعة هائلة من القواعد المفصّلة بدقة، والموسّعة بصورة تبعث على الغرابة، تحيط بها الميلودراما كلها، المدعومة من الحشد المتجحفل حول الحلبة؛ يحركون أجسادهم بتعاطف انفعالي واضح، كلما تحرك الديكان، ويطلقون صيحات التشجيع للبطل من خلال ايماءات معينة.

وهذه القواعد إلى جانب التقاليد الموروثة عن الديكة، ونزالات الديكة التي تصاحبها، تكتب على مخطوطة من جريد ورق النخيل التي تُتوارث من جيل لآخر كجزء من التقاليد العرفية والثقافية العامة للقرى.

ويرصد غيرتز في هذه النزالات نوعين من المراهنات:

المراهنات في المركز بين الأكابر، وهناك نوع من المراهنات العامية حول الحلبة بين أفراد الجمهور؛ ويكون الأول كبيرا، بينما الثاني صغيرا؛ الأول قائم على مقادير متساوية من المال، بينما لا يكون الثاني كذلك.

في المركز ليس المال والمقادير الكبيرة منه الهدف، بل ثمة أمور أخرى تكون في محك المخاطرة أكثر من المكسب المادي: السمعة، والشرف، والكرامة، والاحترام، أي باختصار: المنزلة الاجتماعية؛ فالمراهنون، وفقا لغيرتز، يشكلون أو يعيدون من خلال هذه الرهانات، وخسارة الأموال، والكرامة، تراتبية سوسيو- اقتصادية. في المقابل لا يسمح للمهمشين من النساء والأطفال والمراهقين سوى لعب مباريات الحظ النزقة القائمة على الحظ مثل رمي النرد، والروليت، وكذلك ينطبق الحال على فئات الناس المحظور عليهم المشاركة بنزالات الديكة، أما الرجال الذين ينازلون الديكة فمن العار عليهم الاقتراب من هذه المباريات. وربما هذا النهج التأويلي لصراع الديكة، والبحث في التراتبيات السوسيوـ اجتماعية هو ما ميز عمل الأنثروبولوجي المغربي حسن رشيق «سيدي شمهروش» إذ لاحظ في كتابه الشيق والمؤسس على مستوى الأنثروبولوجيا المغربية، في سياق قراءته لتوزيع الأضحية في طقس الجن شمهروش، أن العازب داخل القبيلة والذي يطلق عليه محليا اسم «أفروخ» وهي كلمة مشتقة من كلمة «فرخ» لا يحصل على حصة رب الأسرة نفسه. وهكذا تعتبر منزلته، في هذا السياق الطقوسي على الأقل، دون منزلة الرجل الكامل. ولذلك فإن التمييز بين «أركاز» (الرجل الكامل) و«افروخ» لا يقف عند المستوى الطقوسي، بل نلاحظه حتى في المستوى السياسي، أي على صعيد تيسير الدوار.

في المقابل، نلاحظ أن الأجنبي، والنساء، لا يحصلون على حصة من هذه الذبيحة، فهؤلاء يعيشون على هامش السياسة: فهم لا يساهمون في الواجبات الجماعية، ولذلك تُذكر وضعيتهم الهامشية بشكل دوري أثناء الطقوس.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى