صفحات العالم

اللاجئون: إعادة تعريف مفهوم الإنسانية/ نهلة الشهال

 

 

لا مفردة في العربية لجمع كلمة جحيم، وكأن اللغة أرادت أن تسجل وحدة ناره بغض النظر عن اختلاف الظروف والأسباب. وبالفعل، تدمي القلب مشاهد أولئك الفارين من جحيم سورية والعراق (بالأساس)، يتكدسون أمام أسلاك شائكة يقف خلفها جنود مدججون بالسلاح، أو يعْبرون أنهاراً جارفة، ويسيرون مئات الكيلومترات في البراري، لينتهي المطاف بالأكثر حظاً بينهم في مخيمات للجوء أغلبها لا تعريف له سوى الذل، وهذا بعد مغامرة اجتياز البحر المتوسط سواء باتجاه جزر اليونان أو باتجاه جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.

فظاعة الأمر لم تحل دون القسوة تضاف إلى كل ما واجهه هؤلاء: يتفاوض الاتحاد الأوروبي وتركيا على الحلول التي تتقاذف هؤلاء البائسين، فيقررون مبدأ ضرورة حجبهم عن التنقل ثم نسب قبولهم ورفضهم ثم آليات تبادلهم (تبادل البشر!). ويصاحب ذلك كل أنواع الابتزاز السياسي والمالي، وصنوف الخطابات العنصرية ودرجات الكذب بخصوص الجرائم التي تضاعفت لوجود هؤلاء «الغرباء» و»المختلفين ثقافياً»، حتى وصل الأمر إلى نعتهم بـ»مغتصبي النساء والأطفال»، هكذا على الإطلاق، ولقيام تظاهرات لجماعات اليمين المتطرف في غير بلد على أبواب مخيماتهم واقتحامها والاعتداء عليهم. بل صعد هذا اليمين إلى سدة الحكم في غير بلد أوروبي على أكتاف التخويف منهم، وأصابت جميع الحكام إجمالاً، ولأي تيار انتموا، لوثة استسهال استخدام الكلام العنصري واتخاذ الإجراءات العنصرية بكل عادية.

… إلا في ليسبوس وكوس وخيوس وساموس ورودس وليروس، أولى بوابات اليونان، وهي جزر ملاصقة للشواطئ التركية. هناك بالطبع، وعلى امتداد أوروبا، جمعيات وحتى أفراد شجعان، لم يفقدوا حس التأثر بمصائب سواهم ولا بالتضامن الإنساني، يتحركون بأشكال مختلفة من أجل النازحين، وبعضهم بات مقيماً معهم وسط بشاعة ظروف أماكنهم، يخدمونهم بما يمكنهم ويتصدون للدفاع عن حقوقهم. لقد اكتشف العالم العشرات منهم، نساء ورجال أوروبيون، في دغل كاليه في شمال فرنسا الذي ينتمي إلى القرون الوسطى. وهناك بالطبع يونانيون عنصريون، أفراداً وتيارات سياسية، ينشطون على رغم قلة أعدادهم مقارنة ببلدان أوروبا الأخرى.

يبدو أن الجدات في هذه الجزر الفائقة الصغر يعرضن على الأمهات اللاجئات الاهتمام لبعض الوقت بالصغار كل يوم ليتسنى للأجيرات بعض الراحة، ولو على قارعة الطريق أو في الحدائق العامة. يضعن الرضع في حجرهن ويناولنهم الحليب الذي غالباً ما يتبرعن به على رغم ما يعانيه اليونان من شظف العيش منذ سنوات. ولو لم يتوافر ذلك، فهن يحضرن ويقمن بالرعاية، وحتى «يغنين للأطفال ويهدهدنهم ليناموا»، كما قال مسعف من الهيئة العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، بينما يقوم صاحب فرن صغير بتوزيع بعض الخبز يومياً عليهم، ويتولى عشرات الصيادين توفير السمك لهم، هذا حينما لا يخرجون في دوريات لإنقاذ ركاب المراكب المطاطية الوافدة من تركيا.

أهالي اليونان الفقراء يتقاسمون ما يملكون، وهو قليل، مع اللاجئين، ولولا ذلك لكان موقف الأخيرين أصعب بكثير مما هو عليه كما يلاحظ المتطوعون من أنحاء العالم الذين يعملون هناك ليل نهار.

بعض هؤلاء السكان قال للصحافيين الذين جاؤوا لاستطلاع هذه «الحالة الغريبة»، إنهم أصلاً لاجئون، وصلوا إلى هنا مطلع القرن العشرين مع انهيار السلطنة العثمانية، ويعرفون من روايات آبائهم وأجدادهم ما يعانيه اللاجئون الحاليون. وهو ما يضاعف قيمة ما يقومون به، فهم فروا من تركيا أو طُردوا منها بسبب أصولهم الدينية والعرقية، ما لم يدفعهم للحقد على هؤلاء المتدفقين على جزرهم البسيطة «على رغم اختلافهم الديني والعرقي والثقافي»، كما تقول التقارير الصحافية، ملمحة إلى أن اللاجئين يحملون العديد من سمات وانتماءات المضطهَدين اليونانيين في تلك السنوات.

رُشح سكان تلك الجزر لنيل جائزة نوبل للسلام. وصلت التواقيع على العريضة المطالِبة بذلك إلى 600 ألف توقيع قبل إقفالها في نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي. وسيتقرر ذلك في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. وفي الأثناء تبنى الترشيح مئات الأساتذة الكبار من جامعات عالمية كأكسفورد وبرنستون واستوكهولم وسواها، وأتموا الملف وفق الأصول وتقدموا به للجنة الترشيحات. وهم اقترحوا (بسبب اشتراطات الجائزة التي لا يمكن لأكثر من ثلاثة أشخاص تقاسمها) أن تجسِّد مكافأة هذه الاندفاعة الإنسانية المؤثرة ثلاث شخصيات: جدة في الثمانين وبحار ترك عمله للاهتمام باللاجئين (وهناك العشرات من الطلاب والأساتذة والممرضين الذين حذوا حذوه) والممثلة الأميركية العالمية سوزان ساراندون التي تمضي منذ صيف 2015 جل وقتها على تلك الجزر للمساعدة في كسر الحصار الإعلامي ونشر ما يجري.

هؤلاء الناس ليسوا ملائكة بالتأكيد. ويوجد بينهم من تنتابه مشاعر عدائية ضد النازحين الذين اغرقوا الجزر (في إحداها هناك 20 ألف لاجئ مقابل 85 ألف مواطن)، لا سيما أن اليونان تعتمد على السياحة ووجود تلك الأعداد من النازحين مهدد لها، والبلاد في أزمة اقتصادية طاحنة، إذ وصلت البطالة إلى 45 في المئة من قوة العمل، وخفضت الأجور، وخصخصت الخدمات، ما يعني حرمان الغالبية منها، وهو ما جرى غصباً وبناء على تدابير من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، إذ لم تتورع الدول الثرية عن إنزال عقوبات قاسية باليونان رداً على ارتفاع الدين من مصارفها التي حققت أرباحاً هائلة وقت تشجيعها على الاستدانة ثم عادت فحققت أخرى وقت إدارة أزمة العجز عن إيفاء الديون. كما اتفقت البلدان الأوروبية في ما بينها على تحويل اليونان فعلياً إلى مستودع للاجئين، وذلك بإجراءات رسمية وأخرى متخذة واقعياً تؤدي إلى حجز هؤلاء على الأراضي اليونانية.

حيال ذلك شاعت أقوال عن تضامن الفقراء في ما بينهم، وعن الانشطار بين الفقراء والأغنياء على رغم القاعدة التي تقول إن «القلة تولد النقار». لكن الأهم من كل النظريات ذلك المخزون من الطيبة ومن المشاعر الإنسانية التي ثبت أنها لا تزال حية، مخالفة ما يقال عن فوات موضتها وعن أن القسوة والأنانية وحدهما تشكلان أخلاق اليوم.

عسى ينال سكان جزر اليونان هؤلاء نوبل، مما سيضيف قيمةً إلى تلك المكافأة وينزّهها، فهي كثيراً ما ذهبت لغير مستحقيها لو قسنا ذلك بشروط مؤسسها وبإعلان مبادئها.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى