صفحات الثقافة

اللاجئون: السلعة المفضّلة للجميع/ عمّار المأمون

 

 

 

قام الفنان الصيني، أي واي واي، منذ حوالي العامين، بتغطيّة أعمدة دار أوبرا كونزيرثوس في برلين، بـ1400 سترة نجاة، استخدمها اللاجئون للوصول إلى سواحل جزيرة ليزبوز اليونانيّة، منتقداً بذلك سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين.

بعدها بحوالي العام، قام المخرج اليوناني يورغوس زويس، بصناعة فيلم وثائقي قصير باسم القارة الثامنة، نرى فيه جبالاً من ستر النجاة المتروكة، في جزيرة ليزبوز، بعد أن وصل أصحابها إلى بر الأمان، وهي ذات الستر التي حصل على بعضها، واي واي لعرضها.

حمل كلاً من هذين المنتجين الفنيين، مقولات وقيم سياسيّة بل وحتى أدائيّة، فالأول، هدف نحو خلخلة لفضاء العام للمدينة وشكلها الجماليّ المسيسّ، والثاني عكس اللافعل، الممارس تجاه أفواج الهاربين، وكلا العملين، ينتقدان النظام السياسيّ الأوروبيّ، الذي يرونه مذنباً في ما يحصل في الشرق الأوسط.

المثالان السابقان، يمثلان آلية عمل فنيّة، تتحول من خلالها، مجموعة من الناس وتجربتهم على امتدادها، إلى موضوعة، لتحديقة الفنّان، الذي يأخذ موقفاً ما من نظام سياسي أو ثقافيّ أو حتى جمالي، وعلاقات القوة التي يمثلها، كون الفنان ذاته ينتمي إلى طبقة اجتماعيّة أو فنيّة.

النموذج السابق ينسحب على كل الأعمال الفنيّة والمنتجات الثقافيّة على أنواعها، كونه ينتمي إلى قراءة ماديّة-ثقافيّة للعمل الفنيّ، والسؤال الحاضر هنا هو عن طبيعة المسافة بين الفنان/ المؤسسة  والموضوع الذي يتناوله، كون هذه المسافة تتلاعب بالأخير وبخصائصه وبأشكال “ظهوره” في الفضاء العام، كموضوع لمنتح فنيّ أو ثقافيّ.

وفي مثال اللاجئين، فإن هذه التحديقة، هي التي ترسم صورة اللاجئ وخصائصه، تنعكس عليه وعلى تقديمه لذاته، بناء على وضعيته الإداريّة والسياسية، كونه أيضاً موضوعاً لسلسة من سياسات النمذجة السياديّة، كونه احتمال مواطن مستقبلي في البلد المضيف.

هذه المسافة السياسيّة ذات تأثير على كلّ من المُنتج وموضوع الإنتاج، كونها تخضع لقواعد ومعايير جمالية وثقافيّة واستعراضيّة، وهي التي تحدد الفرق بين العمل الفنيّ والاحتجاج السياسي والكيتش والبروباغاندا، كحالة الأمريكيّة أنجيلا لونا التي صممت خط إنتاج خاص بثياب اللاجئين، يمكن لهم ارتداءها أثناء رحلتهم، في حين مثلاً قامت حملة “جينز للاجئين”،على أساس إعادة صباغ “جينزات”، كان يرتديها مشاهير ثم بيعها والتبرع بثمنها للـ”لاجئين”.

المستهلك في الحالة الأولى للمُنتج هم اللاجئين أنفسهم، في حين أن الجينز سيرتديه من اشتراه، ممن ينعم بالأمن وقلق الإحساس بالذنب في ذات الوقت.

يمكن فهم المنتجات السابقة على أنها نوع من “فعل المستطاع”، فاللاجئون، وخصوصاً قبل أن يحصلوا على أوراق أو أثناء رحلات لجوئهم، هم “حياة صرفة”، ولحم بشري ينتمي لمساحات الاستثناء السياسي، هم لحم لا يمتلك كل الحقوق السياسيّة، لكنه موضوع للسياسة، والحملات المختلفة، لحمايتهم وحتى تلك التي تقوم بها منظمات المجتمع المدنيّ، تهدف للحفاظ على “حياتهم” واستمرار نبضهم.

على الطرف الآخر، هناك فئة أخرى من المنتجين، من اللاجئين أنفسهم، والذين يمارسون حقهم بالظهور في الفضاءات العامة، سواء كأفراد، أو عبر منتجاتهم الخاصة، لكن، المثير للاهتمام والمزعج في بعض الأحيان، هو القيمة المرتبطة ببعض أولئك المنتجين، الناجين من جغرافيات الجحيم وأصحاب التعريف الإداري ” لاجئ”.  فالمنتجات المرتبطة بأسمائهم تحمل قيمة سياسية وهي في ذات الوقت استهلاكيّة، كون “منتجات اللاجئين” صالحة للاستهلاك والتداول في السياق الأوروبيّ، والاحتفاء بها وتكريس أسماء يطرح مشكلة لا ترتبط فقط بالقيمة الجماليّة، بل هي مشكلة ثقافية ترتبط بالنماذج والتعميمات، وبخلق معايير “للإنتاج” ليست بفنيّة أبداً بل سياسية. هذه المعايير تكرس نموذجاً لمنتجات اللاجئ، كونها ذات قيمة سياسية بحتة، والموضوع حينها لا يرتبط بالقيمة الفنيّة، بل بالـ”مناسبة” لسياسات السوق الثقافي، والأهم أن هذا التكريس يشكّل معياراً للآخرين ممن يريدون التورط في هذا الفضاء، لتغدو منتجاتهم مهملة أو معزولة كونها لا تراعي المعاير الأسلوبية والثقافيّة لـ(منتجات اللاجئين).

من أين تأتي القيمة السياسيّة ؟

القيمة السياسيّة السابقة ليست وهماً أو مجرد محاولة لنفي القيمة الفنيّة، فهي موجودة على شكل وثائق، فاللاجئ يتحول الى موضوع سياسي ضمن آليتين، الأولى سرديّة، وهي حكايته المدوّنة والموثقة والمحتفظ بها في دائرة الهجرة والأجانب، والتي تثبت “تعرضه لخطر شخصيّ يهدد حياته”، وهي تحمل شكلاً سرديّاً قانونيّاً وعناصر أدبيّة وأسلوبيّة، والثانيّة أدائيّة، أي لفظيّة وجسديّة وذات معنى، وهي ترتبط بمواجهته مثلاً لنظام سياسيّ ما، كما في حالات سوريا أو إيران أو غيرها. هاتان الآليتان تجعلان الفرد سواء أكان مُنتجاً أو موضوعاً، مادة دسمة للمنتج الثقافي والفني، سواء للأفراد أو المؤسسات الثقافيّة والإنسانيّة، بل وقد يحصل أحدهم على دعم مؤسساتي ليُنتج ويتابع مشروعه بعيداً عن أي اعتبارات مرتبطة بالفن، ولا نقصد هنا الفن بوصفه يوتبياً أو جمالياً بحتاً أو حتى خالياً من السياسة، بل مجرد كونه صنعة تتطلب حداًَ أدنى من الإتقان، والتي تختلف كلياً عن التعبير عن الذات.

العوامل السابقة أنتجت حالات لابد من الوقوف عندها، الأولى يتحول إثرها جسد اللاجئ، لا إلى موضوعة فقط، أو شخص قادر على الإنتاج، بل يصبح بـ(لحمه) خاضع لمعايير بورنوغرافية واستعراضيّة، ليغدو مُنتج بروباغندا، مصممّ بدقة ليخلق اتجاهاً أو سلوكاً سياسياً.

المثال الصارخ على ذلك هو المشروع الذي شهدته العاصمة الفرنسيّة باريس باسم، “مواهب في المنفى، لاجئون في باريس”، حيث شهدت إحدى الساحات تعليق صور كبيرة أِشبه بالإعلانات، نرى فيها صوراً للاجئين ، مبتسمين، مستعرضين ضمن المساحة العامة كوسيلة للتعريف بهم وتحريك الرأي العام بخصوصهم. صحيح أن المشروع يحمل دواعياً سياسية وثقافيّة، تسعى لكسر التجانس، والصورة النمطية المرتبطة باللاجئين، لكن ألا يمكن اعتبار “مستهلكي” هذه اللوحات أو الصور،  يشبهون أولئك الذين استهلكوا ستر نجاة، أي واي واي، المعلقة على أعمدة دار الأوبرا، وشاهدوها أثناء ممارستهم لحياتهم اليوميّة ؟

لكن، بعكس انتقادات، أي واي واي، لسياسات الاتحاد الأوروبي، يمكن اعتبار أن هذه  المنتجات هي “بروباغندا ضد البروباغاندا”، تسعى لإنتاج نماذج للاجئين “منتجين”، وتنشر فكرة الانصياع للنظام القائم، عبر خلق تجانس مع الفضاء العام، لا تشويهه، كما في حالة ،أي واي واي، أي ما الذي يجعل هذه اللوحات الطرقيّة مختلفة عن إعلانات مرشحي الرئاسة أو إعلانات معجون الأسنان ؟ الاختلاف مرتبط بالفرق بين ممارسة حق الظهور في الفضاء العام جسدياً أو معنوياً وبين الانصياع لسياسات الاستعراض الاصطناعيّ، التي تخلق وضعيات لا تخدم رغبات “حياة” اللاجئين بقدر ما تخدم المستهلك و رغباته.

أما موضوع هذه التحديقة من الأفراد اللاجئين فنراه إثر عملية النمذجة يطوّر وعياً زائفاً بذاته، إذ يتبنى نماذج وأساليب تكوين المعنى المسيس بل ويدافع عنه، كما يكتسب نفوذاً يمكّنه من التحكم بحق ظهور الآخرين من أقرانه.

قد يبدو هذا الكلام مجرداً، لكن كما في حالة المشهد السوري الثقافي، اقتبس من الكاتب خالد خليفة، “من يجرؤ اليوم على نقد نص لكاتب يقرأ نصوصه في مدن ألمانية ويتحدث عن الثورة”.  الأمر نفسه ينسحب على المؤسسات التي يعمل ضمن هيكليتها واحد أو مجموعة من أولئك “الكتّاب”، والذين يكتسبون شرعية فنيّة وأدبيّة في كل مرة يمارسون حقهم بالظهور المسيسّ، والأهم أن منتجات هؤلاء الأشخاص والمؤسسات، تترجم وتتداول وتستهلك وتبني معايير لا فقط جماليّة.

هناك الآن دراسات و أبحاث أكاديميّة تدرس هذه المنتجات والنماذج على أنها انعكاس “أصيل” للثورة في سوريا أو اليمن أو مصر. هذه المعاير باتت تشكّل قواعد اللعب، كحالة صرعات الموضة، فمن لا يتبعها، يصبح من السهل إقصاؤه و عزله لأنه ببساطة لا يتطابق مع المعايير.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى