مراجعات كتب

اللاجئون الفلسطينيون وتوثيق التاريخ الشفوي: المرويات… الأساطير وحكايا المهمشين/ محمد تركي الربيعو

 

يعد الاهتمام بكتابة التاريخ الشفوي الفلسطيني أمراً استثنائياً في المنطقة العربية من جهة حجمه ووفرة مواده ومقارباته، مقارنة بما ينتج في هذا الحقل داخل البلدان العربية. وتفسر روزماري صايغ الباحثة الإنثربولوجية في الجامعة الأمريكية في بيروت، هذا الأمر بكونه ناتجا بالأساس عن نكبة عام 1948 واستمرار التهجير الفلسطيني والأزمة الفلسطينية إلى الجيل الثالث والرابع، وهو ما عزّز من رغبتهم في إقامة صلة بالأرض وأهلها المشتتين.

كما ولّد رحيل الجيل القديم الذي يذكر الحياة في فلسطين قبل النكبة، إحساساً بحفظ التاريخ والتراث، هذا الإحساس الذي لم يكن موجوداً، إذ كان الناس لا يزالون يؤمنون بالعودة بموجب قرارات الأمم المتحدة ومن خلال الكفاح المسلح. وفي هذا السياق تقسّم صايغ منتوج التاريخ الشفوي الفلسطيني إلى ثلاث مراحل أساسية: البدايات بين عامي 1948 و1982 التي تركزت في لبنان بصورة أساسية، والتطور بين عامي 1982 و2002 الذي كان موقعه الضفة الغربية بشكل رئيسي، والدمقرطة من عام 2000 حتى الآن وهي مرحلة تميزت بالتوسع المكاني والاجتماعي.

وفيما يتعلق بالمرحلة الأولى، تشير صايغ إلى أن أول مؤرخ شفوي محترف وثّق شهادات مهجري النكبة كان الباحث الفلسطيني نافذ نزال الذي أعدّ أطروحته في أوائل سبعينيات القرن العشرين لنيل الدكتوراه في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة بإشراف هشام شرابي. وقد أجرى حينها مقابلات مع مئة لاجئ في سوريا ولبنان ونشر كتابه عن «الهجرة الجماعية للفلسطينيين من مدينة الخليل» في بيروت عام 1978 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وبعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بين عامي 1970 و1978 انتقلت الى لبنان وتحالفت مع الحركة الوطنية اللبنانية لتجعل من جنوب لبنان ومخيمات اللاجئين معقلاً للكفاح الوطني التحرري. وقد أُنجزت في تلك الفترة دراسات في التاريخ الشفوي ودراسات أنثروبولوجية في المخيمات من أشخاص أمثال نافذ نزال وبيان الحوت وجولي بيتيت وسمير أيوب وغازي الخليلي. وفي آب/أغسطس 1976، بعيد اندلاع الحرب الأهلية حاصرت الميليشيا اليمينية اللبنانية مخيم الزعتري الواقع في شرق بيروت ثمانية شهور، انتهت بتدميره وبمذبحة قُتل فيها أكثر من 4000 إنسان. الأمر الذي أسهم بموجة جديدة من توثيق الشهادات الشعبية التي نشرها الناجون من الحصار، وشملت تلك الروايات ذكريات العيش على العدس وجلب الماء تحت رصاص القناصة وندرة الإمدادات الطبية؛ وهي صورة واقعية قاسية تتناقض مع بيانات المقاومة الرسمية في تلك الفترة.

ومما تسجله صايغ من مفارقات في هذا السياق، هو أنه على الرغم من «مديح» الجماهير الذي امتلأ به خطاب المقاومة في ذلك الوقت، لم تنتج الحركة تاريخاً شعبياً، وعمل تبني حركة فتح للرموز الفلاحية –الكوفية ونظام التسمية بـ(أبو)- في التغطية على الميول المدنية لقادة المقاومة، لكن هذا الإحياء لم يترافق مع اهتمام بالثقافة القديمة أو الحالية لسكان المخيمات أو تجاربهم في المنفى. وقد عكس التركيز على الفلاح بوصفه «دالاً» وطنياً سطوة انموذجي الجزائر وفيتنام من بين نماذج الكفاح التحرري الوطني في الستينيات والسبعينيات أكثر مما عكس رغبة في إحياء التاريخ الفلسطيني الشعبي. ولكن بعد خروج منظمة التحرير من لبنان، انتقل ثقل الحركة الوطنية إلى الضفة الغربية وغزة، وكان لهذا الانتقال نتائجه الثقافية فضلاً عن نتائجه السياسية. وفي هذا الصدد، لعبت الجامعات دوراً رئيسياً في إنتاج التاريخ الشفوي. ففي عام 1983 كانت جامعة بيرزيت السباقة في المنطقة العربية إلى تدريس التاريخ الشفوي كما قامت بنشر سلسلة «القرى الفلسطينية المدمرة» بإشراف باحث الفلكلور شريف كناعنة (1984-1987). وارتكزت هذه الدراسات التخصصية مباشرة على الشهادات الشفوية لأهل القرى وإعادة إنتاج شتى اللهجات الفلسطينية وحكاياتهم. وبحلول عام 2000 بات التاريخ الشفوي الفلسطيني أكثر تطوراً من الناحية الوثائقية وساهمت كاميرا الفيديو المحمولة في إطلاق عدد من الأفلام الوثائقية التي تصور حياة الفلسطينيين في ظروف سياسية رمادية متنوعة.

في السياق نفسه، يرى الأنثروبولوجي الفلسطيني ساري حنفي أن العديد من المشروعات المختلفة حول الحكايا الشفوية والتوثيق أخذت تجتاح حياة الفلسطينيين في كل مكان (رام الله ولبنان ودمشق) مع نهاية التسعينيات، وبناء عليه تحرر الضحايا الصامتون من «عارهم» الذي كان يشعرون به في السابق، لأنه وفقاً لحنفي غالباً ما شعر جيل اللاجئين الفلسطينيين ممن شهد حالة اللجوء والتهجير بحالة أقرب إلى ما دعاه جورجيو اغامبن في كتابه «الباقون من أوشفيتز: الشاهد والأرشيف» (الذي خُصص لحكايات الناجين من المحرقة) بـ»العسر» الذي يلقاه الناجي في أن يكون ضحية وشاهداً في آن، ولذلك لا يعيش الناجي بشكل عام تجربة إدانة، بل تجربة عار، وهذا العار ليس ناتجا عن خطأ أخلاقي بل هو متولد من إحساس شخصي، وهو حال الجيل القديم من اللاجئين الفلسطينيين، إذ تبين لحنفي في دراسته «حيفا ولاجئوها: ما يتذكر وما ينسى وما يتكتم عليه» ومن خلال دراسته وسؤاله لعدد من المعارف والأصدقاء، إن كان أباؤهم قد رووا لهم ما كان من تجارب خروجهم، أن الجواب كان سلبياً واقتصر على 3 أشخاص من 28 حالة. ولكن مع نهاية التسعينيات وهذا التحرر من «العار» (كما ذكرنا)، بدأ تنتشر أعداد كبيرة من المذكرات واليوميات والرسائل التي كتبها فلسطينيون مرموقون. مع ذلك فإن ما يسجّله حنفي من ملاحظات حيال هذه الجهود هو أنها بقيت تتخيل فلسطين ما قبل النكبة، عبر إضفاء الرومانسية عليها وبرؤى متهربة من الواقع، إذ ركزت على صور «حقول البرتقال“ مجمِّدة الوطن في إطار رعوي ريفي شبيه بفردوس مفقود، كما أن المنهج الذي طغى على جميع هذه المرويات غالباً ما اتسم بانتقائية ذاكرة الرواة وما يرغب الشاهد في تذكره.

ولعل ملاحظة حنفي السابقة حول فردوسية الماضي الفلسطيني، كما بدت في أغلب الجهود الفلسطينية لجمع الرواية الشفوية، هو ما كان محط اهتمام من قبل الباحث الفلسطيني في علم الاجتماع عباد يحيى، الذي حاول في دراسته «الفلّاحة الفلسطينية ورواية النكبة» الكشف عن هذا الجانب الرومانسي والمؤدلج للتاريخ الوطني، من خلال دراسة مرويات النكبة الشفوية، كما عبّر عنها بعض النساء الفلسطينيات المسنات. فمن خلال بعض المرويات التي جمعها الباحث لإحدى النساء التي اضّطرت سنة 1948، للنزوح مع عائلتها من القرية التي كانت تعيش فيها والانتقال للعيش في الخليل ولاحقاً في رام الله، يذكر الباحث، أن سبب اختياره لهذه المرأة هي «اختلاف معنى النكبة في نظرتها إلى التصور العام السائد فلسطينياً، وهذا متصل بشكل كبير بأوضاع حياتها مع عائلتها قبل النكبة ومسار حياتها بعد النكبة، فالنكبة بالنسبة إليها «حدث» مركزي في حياتها فصل بين مسارين مختلفين، تقوِّم اللاحق منهما بأنه الأفضل». فقد شكلت النكبة بالنسبة إلى الشاهدة حدثاً أفرز خلاصاً من حلم واضطهاد مارسته عائلة العزة القوية ضد قريتها وعائلتها، وفي هذا السياق تسهب الشاهدة في سرد عدد من القصص والحكايا عن هذا القهر والظلم والاستيلاء على الأراضي الذي مارسه وجهاء من عائلة العزة المتمركزة في قرية بيت جبرين بالاستعانة بأعوانهم في قرية عجور وتقول في مواضع من شهادتها: «كانوا العزة يعطوا همل العجاجرة مصاري، ويقولنهم روحوا اسرقوا وانهبوا، وهم قاعدين بدورهم ومكيفين والحرس حواليهم… ولما يروحوا الشباب بطحنوا ويحملوا على الجمال، فمسكوا العزة الجمال وسرقوا أحمالهم …يومها خالي كان بدو ايروح إعدام لأنه ضربهم، الإنكليز اجو وأخذوا خالي وراح يعدموه… خربوا ديار الناس ولاد العزة يلعن أبوهم». وتختلط في ذاكرة الشاهدة الحوادث التي شهدتها في طفولتها وتلك التي روتها لها أمها وجدتها وتنقل الروايات والأحداث بطابع احتفائي في سياق الرد على طرق العوائل المتنفذة «العجايب كانت بجيل ابوي وسيدي، حلفوا مثلاً واحد عنده مرة حلوة يقولوا جيب مرتك.. يطلقها ويعطيهم إياها من الخوف» ويصل الأمر بالشاهدة إلى حد النظر إلى النكبة كحالة من حالات العدل، حيث جاء من اقتص من عائلة العزة و»كسر جاههم». يضاف إلى ذلك أن النكبة أنتجت بالنسبة إلى عائلة الشاهدة حراكاً اجتماعياً نقل العائلة مالكة الأرض المحدودة الشحيحة التي تهددها عائلة العزة وأعوانها إلى حياة في مدينة الخليل، إذ أصر والدها على رفض العيش في المخيم واستثمر قدراته اللغوية الإنكليزية هو وأخوها وزوجها في العمل وتوفير حياة أفضل من أحوال حياة اللاجئين، وبالتالي فإن النكبة كفقدان للأرض كما تراها صاحبة الشهادة لم يتصل بها بشكل مباشر، بل بعائلة العزة مالكة الأرض والمسيطرة عليها، أي أن من لا يملكون الأرض لم تكن النكبة في وعيهم فقدانهم لها لأنهم لا يمتلكونها أساساً، وهنا ترد إشارات في هذا التصور إلى أن التعامل مع النكبة في الرواية الفلسطينية على أنها «فقدان الأرض» إنما يشير إلى الفئات التي كانت تملكها، «الشباب تعلمت وتفتحت ومن عيلتنا صار في دكاترة ومهندسين… واللي ضلوا من دار العزة صاروا يقولوا لو طلعنا مع اللي طلعوا… صاروا يندموا عشان ولادهم ما تعلموا».. وبذلك جاءت هذه الراوية كبديل – وفقاً للباحث – عن رواية الطبقات الوسطى وأصحاب النزعات المدينية، إذ استطاعت رواية الفلّاحة أن تسلط الضوء على التهميش الذي لحق بها وبكافة الفلاحين ممن امتلكوا القدرة والإمكانات الثقافية والمادية لكتابة التاريخ.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى