صفحات المستقبل

اللاجئون موتى حتى يثبتون العكس.. جنسياً/ روجيه عوطة

 

 

أطلقت وزارة الصحة الاتحادية الألمانية، بالتعاون مع المكتب الأوروبي للصحة العالمية، ومع الوزارة الفلمنكية للرعاية العامة والصحة وشؤون الأسرة، موقع “Zanzu.de”، الذي يعنى بمد اللاجئين إلى ألمانيا بمعلومات وإرشادات مكتوبة ومصورة حول الثقافة الجنسية. وعلى الأغلب، أن الجهات الرسمية التي انكبت على الإنشغال بهذا الموقع، دفعها إلى ذلك الكلام الرائج منذ بداية العام في أوروبا عن اعتداء “ضيوف البلد” على المواطنات وتحرشهم بهن، كما حصل في مدينة كولونيا.

ففي إثر الحملات الداعية إلى طرد اللاجئين، أو الحد من عددهم، قررت الدولة الألمانية التدخل في “أزمة التحرش”، على ما تسميها الصحافة، معتقدةً بأن اللاجئ غائب عن “الثقافة الجنسية”، مثلما أن هذه الثقافة غائبة عنه. بالتالي، لا بد من إطلاعه عليها، والأخذ بقوانينها، واتباع إجراءاتها، كي لا يعمد إلى سلوك سبيل غير ملائم له ولآخريه، أي لمستقبليه على أرضهم، ولمستضفيه على أجسادهم.

فالأرض على الموقع هي الجسد، الذي، وبحسب الدولة، يجهله اللاجئون، ولا يدركون أي شيء عنه. هذا ما يشير إليه محتوى “زانزو”، الذي، نتيجة بديهياته، يحيل إلى إيضاحات كتاب معمر القذافي الأخضر: “يختلف الجسم من امرأة إلى أخرى”، “للمرأة ثديان كذلك”، “يحلق بعض الرجال شعر العانة أو شعر الجسم”، “الجنس يمكن أن يختلف في كل مرة”، “عندما يثار كلا الشريكين، فقد يريدان ممارسة الجماع”… وعليه، تبدو الدولة كأنها تنطلق من مقولة محورية، تفيد أن اللاجئ ليس على علاقة، ولو عينية ووصفية، مع جسده، مثلما أنه ليس على علاقة مع جسد غيره. إذ كان، وقبل أن يبلغ أرضها، بلا جسد، وها هو، وبعدما وصل إليها، يحظى بجسد، وكي لا يسيء استعماله، لا مناص له من اعتماد القوانين الجسمانية التي يعرفه الموقع عليها.

اللاجئون بلا أجساد، حتى لو كانوا على عكس ذلك، عليهم أن ينظروا إلى أجسادهم كـ”أجسام”، كتشكلات، تتحرك وفق معايير وقوانين محددة، كما تتصل بغيرها عاطفياً وجنسياً على أسس وأصول بعينها. ثمة، في هذا السياق، مقولة أخرى، تستند إليها الدولة، وهي أن اللاجئين، وفي أحيان وجودهم في بلدانهم، كانوا يمارسون الجنس بطرق مغايرة للطرق البينة والمسلم بها، أي للطرق “الحضارية”. كما لو أنهم “برابرة” وجهلة، يعاملون أجساد بعضهم البعض بعنف “غريب” وبقسوة “وحشية”، مثلما أنهم جميعهم يحتكمون إلى عيار “الشرف” وجرائمه، وإلى تقليد “الزواج بالإكراه”.

وليس جسد اللاجئ مجرد جسد لا يعي أعضاءه التناسلية فحسب، بل أنه لا يدرك إصابته بالجراثيم والأوبئة، وقد يكون ناقلاً لها أيضاً. لذا، من واجبه الانتباه إلى أمراضه الممكنة، وحماية غيره منها، لا سيما أن جسد آخريه مفارق لجسده. وفي الوقت نفسه، لا يعرف اللاجئ أن علاقته الحبية مع آخره تقوم بالتكلم والتحدث، وليس بما اعتاد عليه أي بإسكات شريكه وإجباره. هناك، في كل ذلك، ضبط لأجساد اللاجئين ومشاعرها وعلاقاتها، تصور مسبق عن مسالكها الماضية واللاحقة، بالإضافة إلى تصوير لها على بشرة سمراء، وجلد حالك، فهي إنتاج “ثقافة مختلفة”، بحيث أن الجنس فيها معدوم، ولا يتخلله نشوة، ولا يمت للإثارة بصلة.

لا تتدخل الدولة الألمانية في أجساد اللاجئين بقدر ما تدخل إليها، وتحثها على الإنتظام وفق “عاداتها وتقاليدها” الحديثة، ذلك، على اعتبار أنها تتشكل على أسس ما قبل “حضارية”، وما قبل “عقلية” أيضاً. فهي أجساد مكبوتة، خطيرة، مريضة، تساوي بين اللذة والعنف، وتستمتع بممارسة الجنس البدائي. تالياً، لكي تكون “ضيفة” مرحب بها، عليها أن تتشكل من جديد، أن تسلم حيوايتها “البرية” للمؤسسات، أن تستشيرها في أمورها، وأن تقوي سلطتها فيها.

لكن، تلك السلطة لا تصبح قويةً في أجساد اللاجئين فقط، بل أن الدولة الألمانية، تبدو كأنها تتوجه، وعبر موقع “زانزو”، إلى أجساد مواطنيها أيضاً. إذ تخبرهم بأن أصحاب الأجساد “المختلفة”، المنتمون إلى “نوع جنسي” غير مألوف البتة، يريدون التحول إليهم، والإنخراط في “ثقافتهم الجنسية”، وهذا خير دليل على أن تلك “الثقافة” متينة ولا شوائب في تصريفها لقدراتهم. فكما تصنع أجساد اللاجئين بحسب “ثقافتها الجنسية”، كذلك، تدفع مواطنيها إلى التمسك بالثقافة إياها، وتأكيد وجودها بنفي أي جسد لا ينتمي إليها.

“لا أجساد غير أجسادي”، تقول الدولة، وتضيف، “على اللاجئين التماثل معها، وإلا سيظلون أمواتاً، لا أجسام لهم، وبذلك، قد يهددون بقائي”. فبحسبها، اللاجئون الذين لن ينخرطوا في “ثقافتها الجنسية”، ليسوا أحياء، وقد يغيرون أجسادهم الميتة إلى أسلحة، إلى قنابل موقوتة، مستخدمين إياها في تفجير جسمها الثابت وأرضها الجامدة.

“ماذا تفعل الدول بأجساد الجهاديين بعد تفجير أنفسهم؟”، سألت ريفا كاستوريانو ذات مرة، وربما، السؤال الراهن: “ماذا تفعل الدول بأجساد اللاجئين؟”، تصنعها كأجسام حية بعد الاعتقاد بأنها ميتة، بأنها ليست “إنسانية”، “الجنس هو جانب مركزي ومحوري لكون إنساناً”. فاللاجئون موتى مكبوتون ووحوش خطرون حتى يثبتون العكس. ما العكس؟ دفن الجسد في “الثقافة” على افتراض أنها المصدر الوحيد للحياة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى