صفحات سوريةمصطفى كركوتي

“اللاجىء”: من “الموقّت” إلى “الدائم”/ مصطفى كركوتي

 

 

أحدث أرقام للاجئين سجلتها الأمم المتحدة في شرق أوكرانيا وبلغت 16400 شخص فرّوا جراء النزاع العنفي، وعدد النازحين داخلياً 54400 في حين أن 110000 هاجروا منذ بداية النزاع إلى روسيا. طبعاً، هذه أرقام متواضعة مقارنة بمناطق أخرى شهدت على مدى عقود حركات لجوء ونزوح واسعة ومأسوية، أحدثها ربما في سورية.

ويذكُّرني هذا الوضع بأول لاجىء التقيته في حياتي صيف عام 1948، هو يوسف زيدان. كلانا كنا في الرابعة، وقد أتى بصحبة أفراد أسرته التسعة إلى منزلنا في سورية وكانوا فارين مع لاجئين آخرين من مدينتهم الساحلية، عكا، هرباً من ميليشيات يهودية كانت تثير الهلع في نفوس السكان لتفريغ عكا من سكانها. في ذلك اليوم عرفت أن والد يوسف ووالدي ابنا خالة وأن الأسرة اختارت اللاذقية مكاناً للإقامة «الموقتة» جراء الامتداد الأسري. وكم أمضينا أوقاتاً مثيرة ونحن نصغي لروايتهم عن الهروب وما تكبدوه من شقاء أثناء الرحلة من عكا إلى دمشق، عبر الأردن طوال 43 يوماً، وعبورهم نهر الأردن فوق جسر اللنبي المحطم، قبل أن يستقلوا، مع لاجئين آخرين، شاحنة نقلتهم إلى محطتهم النهائية.

وأمضت أسرة زيدان في منزلنا الصغير أكثر من ثلاثة أشهر قبل انتقالها إلى ما أصبح لاحقاً مسكنهم الدائم في مخيم الرمل الذي بني حديثاً لاستقبال اللاجئين.

ويوسف وأسرته ليسوا إلا أرقاماً صغيرة ضمن عشرات ملايين اللاجئين المنتشرين في جلِّ بقاع الأرض، فهناك الآن لاجئون متنوعون، جراء الهجرة القسرية تساهم منذ أوائل القرن الماضي في إعادة تشكيل مجتمعات كبيرة في أنحاء متفرقة من العالم. فاللاجئون باتوا طيفاً واضحاً من نسيج يتسع من أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا وحتى إفريقيا.

ويُلاحَظْ كيف أن سكان العالم باتوا، إحصائياً على الأقل، منقسمين بين لاجئين وسكان أصليين بسبب النزاعات والحروب. ولا يخفى، في بعض الدول كالأردن، كيف أن اللاجئين يشكلون الغالبية. وعلى رغم تأثير الكوارث الطبيعية في حركة النزوح، فالحروب والثورات وإعادة تشكيل الدول (أو إعادة رسم الحدود) هي السبب الرئيس لحركة السكان ونزوحهم من مكان إلى آخر، محلياً أو عبر الحدود. وفي دراسة حديثة وشاملة حملت عنوان «صناعة اللاجىء الحديث»، عرضت بعمق مسألة اللاجئين وجذورها حول العالم. وقد اعتمدت الدراسة بشكل واسع على شهادات شفهية وروايات شخصية مماثلة لشهادات يوسف زيدان وأسرته، وروايات شهود عيان ومواد وثائقية بالإضافة إلى معلومات كانت مدفونة في أرشيف منظمات عدة غير حكومية وملفات رسمية.

الشرق الأوسط في طليعة «أوطان» اللاجئين، جراء احتوائه حالات مأسوية تُفْطِر القلوب على اتساع فضاء واسع يمتد من فلسطين والعراق والأردن ولبنان والصحراء والسودان وأخيراً، وليس بالضرورة آخراً، النزوح المؤلم في سورية.

خذ مثلاً مخيم اللاجئين الفلسطينيين في اليرموك، في قلب دمشق، حيث قدم لنا حديثاً واقعة بالغة في رمزيتها، بالسماح، بعد لأيٍ مؤلم، لحوالى 120 يافعاً من سكان المخيم المحاصر بالخروج من جحيمه للجلوس في الامتحانات الرسمية في العاصمة. وعاد هؤلاء إلى مخيم العذاب وإلى ما تبقى من منازلهم كـ «ضحايا شبان» (وفق التسمية الدولية) لأبشع حرب عرفها القرن الحادي والعشرون حتى الآن. واليرموك ليس إلا أحد مخيمات اللاجئين في سورية التي يقطنها نحو 550000 لاجىء مسجل لدى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في سورية. ووفقاً لأونروا، أكثر من 50 في المئة من 12 مخيماً للاجئين الفلسطينيين في الدولة، تحولت إلى ساحات حرب. ووضع اللاجئين عموماً خارج سورية، لا سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليس أفضل حالاً. فالاحتلال الإسرائيلي، وإن اتَّسَمَ بهدوء نسبي مقارنة بمحيطه الملتهب، يحفر عميقاً باستيطانه البشع ملتهماً المزيد من الأرض باستمرار. فالعديد من اللاجئين تُفرَض عليهم مواجهة عمليات هدم منازلهم ومصادرة أراضيهم الزراعية، ويفعلون ذلك وحدهم من دون أي شكل من المؤازرة. ويواجه مدنيون من مختلف الأعمار تهديدات متزايدة من استخدام الجنود الإسرائيليين والمستوطنين أحياناً، للذخيرة الحية. ووفقاً لأونروا هناك ما لايقل عن 33 في المئة من اللاجئين الفلسطينيين «غير قادرين على ضمان أمنهم الغذائي، وهو ما يعادل مليوناً و600 ألف لاجىء».

الأرقام تزيد من الهول عند الحديث عن أحدث فاجعة إنسانية من حالات اللجوء في سورية، إذ يقدر لاجئوها بتسعة ملايين هجروا منازلهم منذ بدء الحرب في آذار (مارس) 2011 باتجاه دول اللجوء في الجوار أو النزوح داخل بلدهم. ووفق الأرقام الرسمية هناك أكثر من مليونين ونصف المليون اتجهوا نحو تركيا ولبنان والأردن والعراق. والتحديات التي تواجهها الدول المضيفة لا تقتصر على استيعاب اللاجئين فحسب، بل تشمل أيضاً ما تشكله حالات اللجوء من اضطراب في المنطقة كلها. وهناك أيضاً نحو ستة ملايين ونصف المليون نازح داخل البلد ونحو 100000 لاجىء سوري يسعون للحصول على صفة اللاجىء في عدد من دول أوروبا حيث تمكن عدد قليل منهم من الحصول على أذون الإقامة في ألمانيا والسويد.

هناك سمات واقعية باتت تضفي على اللاجىء السوري حالة ذهنية، على رغم قساوتها، من أن حياته الجديدة بدأت تأخذ لها صفات الديمومة، لا سيما أولئك الذين يعيشون في مخيم الزعتري ومخيم الأزرق، المبني حديثاً في الأردن. الزعتري والأزرق سيستوعبان في النهاية نحو 600 ألف لاجىء في منطقة لا تبعد أكثر من 12 كيلومتراً عن مدينة درعا حيث اندلعت الثورة. وقد تم مؤخراً افتتاح أحد فروع سوبر ماركت «سيفواي» العالمية لخدمة سكان المخيمين، وبدأت منظمة برنامج الغذاء العالمية توزيع الكوبونات على اللاجئين للتسوق في هذا الفرع. وتهيّء إدارة السوبر ماركت، وفقاً لحملة ترويج إعلانية قامت بها مؤخراً، توفير بطاقات ائتمان تُسَدَّدُ قيمتها مسبقاً لتسهيل عملية تبضع اللاجئين في السوق.

في 1948، قُدِّمَ ليوسف زيدان وأسرته، كما للاجئين الآخرين، قسائم إعاشة «موقتة» للتبضع، وهم الآن في 2014، لا يزالون في سورية، ولكن باتوا يستخدمون بطاقات الائتمان.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى