صفحات سوريةعلي جازو

اللادولة السّورية “أقوى” من الدّولة

علي جازو

سقطت أركان الدولة في سوريا ولم يسقط النظام بعد! ليس النظام السوري بدولة، وسقوطها لا يوجب سقوطه. هذا يعني في ما يعنيه أن سوريا لم تكن دولة كسواها من الدول، فما ليس له وجود من مقومات الدولة يتساوى إزاءه البقاء والسقوط، بل لربما يكون السقوط الظاهري، وهو فعليّ، متلاحق ومستمر وفادح الثمن، إظهاراً عنيفاً وغير مسبوق لدولة أخرى خفية ومتحكمة، صلبة و”صامدة”. هذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن النظام السوري ليس الدولة ولا حاجة به إلى دولة، وأنه في الوقت نفسه يملك القدرة والسطوة على إدارتها من دون أن يكون جزءاً منها. ثمة مسافة لا مرئية، “سحرية شبحية”، بين النظام وأجهزة الدولة، إنه فوقها وفوق جميع مراتبها، وهو وحده القادر على ردم هذه المسافة وتقليصها، أو توسيعها أو محوها. النظام في كل مكان، لا مرئي ومحتكر، وسيّدٌ، بالعنف. العنف المحض يتكاثر، يصنع أشباهاً، ويتخلى عنها. لا فرق في كل ذلك طالما كان السلطان مطلقاً وكان الاستبداد لسلطان مطلق نتيجة لا غير. يكفي أن يأمر بشيء حتى يجده، ويكفي أن يريد فعلاً حتى يصير واقعاً. في الأمر ما يشبه سلطة أحدية إلهية ما فوق بشرية، ولهذا ربما تحتقر العالم البشري المتعدد والمتنوع، عالم المختلفين والمتعثرين والمترددين والمتحولين والخائفين والتائقين، عالم الباحثين عن عمل وعن بيوت للسكن وعن مدارس وجامعات، عالم الفانين الذي هو في الجوهر عالم زائل لا أبديّ ويقف على الضد والنقيض مما هو أبديّ. النظام في سوريا غير مرئي، ليس رئاسة الوزراء التي يهرب رئيسها السابق رياض حجاب ولا يتغير من عملها شيء. ليس البرلمان الذي يتحول عمله إلى عمل فرقة مأجورة، ليس جهاز شرطة ولا جيشاً ولا مؤسسة قضاء، ليس المرافق العامة ولا من يديرها ويحميها، لكنه قادر على تبديل وزارة بأخرى، وإحلال رئيس وزراء محل آخر، ووضع قاضٍ مكان قاضٍ شاغر أو منشق أو معاقب، وهو وحده النظام القادر على اختراع برلمان من لا شيء، من دون أن يتغير شيء بالنسبة للنظام ولا بالنسبة للقضاء، الذي يجد في سوريا وحدها نسخة قدريّة ملغزة، ينبغي أن تعيد المتردد والمتشكك إلى عالم الحمد والشكر على أي وجه كان. تبدو المناصب في سوريا فارغة خاوية ولا يتغير من ملئها شيء ولا تتأثر بشخصية شاغلها. النظام هو القانون وهو القوة وهو الثروة، هو الجيش وفيه وحده يتلخص معنى الهوية الوطنية ومعنى السيادة ومعنى الحكم الشامل والحيازة القطعية. إنه اليد الأعلى، اليد المهيمنة. يعقد اتفاقيات من دون أن يعلم بها أحد، وينقضها من دون موافقة أحد أو استشارة أي كان. يصرف أموالاً بلا حساب ويؤسس وزارات جديدة ويدمج بعضاً بأخرى، ينشئ بنوكاً وشركات ومصارف لتحويل الأموال من دون أن تعرف من يملكها ومن هم أصحابها الحقيقيون، يصرف موظفين من العمل ويعين آخرين محلهم، يمنح تراخيص ملكية اعتباطية ويحجر على أموال ويحجز عقارات بتهم ومن دون تهم. للنظام سجون لا يعلم بها أحد، ومواقع تحكّم مجهولة. يمكن لرجاله أن يدخلوا أي مكان ولا يمكن لأحد أن يلومهم أو يسألهم أو يحاسبهم. تسقط الدولة في أكثر من مكان داخل سوريا ولا نرى لها بديلاً، وسرعان ما تعود لتدمر ما لم تعد قادرة على حبسه وخنقه تحت جناحها المخيف المرعب. حال من يحل محل النظام في المناطق المحررة يشبه النظام لكن من جهة مناقضة تماماً. في حين يملك النظام كل شيء، يبدأ هؤلاء من الصفر، من لا شيء، لا كهرباء ولا ماء لا شرطة ولا قانون، لا مشافي ولا مخابز، لكنهم يجدون طريقة لتدبر كل ذلك. ثمة دولة تولد من أنقاض لكنها تحمي حياة ما في مكان ما داخل سوريا، وتخلق أملاً لجيل لم يجد ما قبله من شيء سوى النظام وآلات تحكمه المهولة. إن تجربة مجالس الحكم المحلية، التي باتت تنتشر وتترسخ، وإنْ ببطء مبرر وتعثر صعب، تعد علامة على طور جديد يحاول السوريون من خلاله استعادة ما كان يُفترض أن يكون ملكاً طبيعياً لهم، لحركتهم وشغلهم ومعاشهم وتعبيرهم السياسي والمجتمعي والأدبي والأخلاقي. هكذا يكون الشعب أقوى من قامعه، وتكون البداية أصعب من النهاية. لكن في الأمر ما يستدعي المتابعة والاستمرار، طالما كان الشعب قوة مجهولة، ولادة مجهولة، متعبة ومغرية، وطالما كانت الحرية فعل مسؤولية صعبة ومتطلبة، ولا يمكن توقع شكلها الجديد ولا تبعاتها اللاحقة. تبقى كلُّ بدايةٍ، خطوة متعثرة، لكنها تحدث فرقاً، تنجب شكلاً. سرعان ما تجد الخطوة ما يليها، وتفرز من يتابعها ويكملها الآن، غداً، وبعد غد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى